كانت عدن أشبه بفوهة بركان تساقطت حممها على الأعداء واستظل بدخانها الأهل والأحبة ورغم أنه من المحال أن يبقى بجوار فوهة البركان أحياء إلا أن أحباب عدن وأهلها بقوا أحياء وفيما سواهم نبذتهم الحمم البركانية إلى الخارج ولفظتهم كمن يلفظ أنفاسه ومن رفض الخروج باغتته قتلاً وتعذيباً .. هكذا كانت ثغر اليمن الباسم «عدن» قبيل عهد الاستقلال عام 1967م كما وصفها الأستاذ محمد لطف هادي أحد الأدباء والكتاب ومن أبناء عدن الذين عايشوا اللحظات الأخيرة قبيل الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر .. ليس هو وحده من وصف تلك اللحظات القاسية والحساسة ولكن كثيرين هم ومن وصفوا نفس الصورة للوضع المعايش لتلك الفترة التاريخية والعصيبة من التاريخ اليمني المعاصر فيما كان يسمى باليمن الجنوبي أو الشطر الجنوبي للوطن. ظروف حساسة يتابع الأديب محمد لطف هادي حديثه: لقد كانت الفترة التاريحية قبيل عهد الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني فترة تاريخية عصيبة وظروفها ظروف حساسة بل بالغة الحساسية وقد كان بعض الناس يترقب الحرب بين الشطرين فيما كان البعض الآخر يترقب اندلاع حروب أهلية بين جبهة التحرير والجبهة القومية ، فيما راح فريق من الناس بآرائهم وترقباتهم يتاملون أن تحدث معجزة ويلتم شمل الشطرين رغم الظروف الحساسة حينها .. وعلى العموم استمرت فترة الركود والحرب الباردة بين الأطياف السياسية الداخلية في ظل توحد وإجماع شعبي ووطني على جلاء المستعمرين البريطانيين كافة .. وكانت تلك الفترة يشوبها نوع من التنسيق والحذر الشديدين بين الثوار في الجنوب والشمال بهدف اجلاء المستعمر البريطاني ومن ثم إعلان هذا الجلاء الشامل ومن ثم إعلان اندماج التوحد بين الشطرين اليمنيين الجنوبي والشمالي وهذا بالطبع كان بعيد المنال حينها ولكنه كان هدفاً من الأهداف التي سعى إليه الجميع وفي مقدمتهم الثوار والمناضلون لتحقيقه. معيشة صعبة ويمضي محمد هادي قائلاً: الحقيقة مع أن الظروف المعيشية التي كنا نعايشها جميعاً أبناء الوطن في عدن وكل محافظات الجنوب ظروف معيشية قاسية وصعبة إلا أن معظم أبناء الشعب كان لا يهتم ولا يكترث لذلك ربما بسبب أن الجميع كان يدرك أن هذه الغمة ستنقشع يوماً من الأيام وأن الفرج بات قاب قوسين أو أدنى وكان الناس يستبشرون عندما يسمعون أن الثوار أو المناضلين سوف يجتمعون هنا أو هناك كانوا يفرحون ويهللون ويباركون أي عمل ثوري أو نضالي لإيمانهم بان الفرج الذي ينتظرونه لم ولن يتحقق إلا من خلال عمل ثوري آخر مرتقب يطهر الأرض من المستعمر الأجنبي وفعلاً كانت الإرادة الوطنية في عام 1967م يوم الجلاء ضد المستعمر البريطاني في ال03 من نوفمبر. أزمات وفتن من جانبه تحدث الأخ محمد صالح القطراني: أحد مناضلي الثورة اليمنية في محافظة الضالع والذي يقطن حالياً عدن حيث قال : لقد كانت الأزمات التي تعصف بالبلاد في بداية الستينيات وعقب اندلاع الثورتين السبتمبرية والاكتوبرية ازمات كبيرة وخطيرة كادت ان تعيد الشعب إلى ماقبل هاتين الثورتين بل أن تلك الأزمات كادت ان تؤدي إلى نشوب حرب بين الشطرين من أبناء الشعب الواحد نفسه نتيجة للفتن التي نشبت في تلك الفترة العصيبة من تاريخ اليمن بل إن أبناء عدن المناضلين أنفسهم بدأت بينهم الصراعات أو بمعنى أدق بدأت الفتن تنشب وللأسف بين بعض الثوريين في الجبهة القومية وجبهة التحرير ولكن تنبه الجميع لتلك الخلافات وبدأوا يوحدون الصف ويتآزرون ويدركون الاخطار المحدقة التي كانت تترصدهم آنذاك. وبالنسبة إليّ فقد عشت فترة عهد ما قبل الاستقلال في خارج الوطن للعلاج حيث اطلق سلطان قعطبة النار عليّ وعلى والدي الذي استشهد في الحال حينها بينما بقيت أنا أعاني آلاماً شديدة في الفك الأيمن من الوجه وفي قدمي جراء الرصاصات التي اطلقت عليّ من قبل عساكر سلطان قعطبه بسبب نضالنا وموقفنا الرافض للاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال من يمننا الحبيب. وقد مكثت سنوات في الخارج وعدت في نفس عام الاستقلال عام 1967م وكم كانت فرحتي كبيرة عندما علمت أن الاستقلال قد تحقق وتم جلاء آخر مستعمر أجنبي من وطننا الحبيب في ال30 من نوفمبر وعموماً فقد كان الاستقلال نتاجاً طبيعياً للنضال الوطني المستمر والمتواصل وثمرة من ثمار الكفاح ضد المستعمر الأجنبي البغيض. مقاه ومقايل من جانبه تحدث الحاج عبدالرحمن سيل بامطرف أحد قاطني حارة كريتر عن طبيعة الظروف والأوضاع التي رافقت فترة ما قبل الاستقلال وكيف كان الناس يعيشون تلك الفترة العصيبة والهامة خصوصاً بعدما تحقق لليمانيين قيام ثورتهم الأم ال26 من سبتمبر 1962 ورديفتها الثورة الاكتوبرية في ال41 من اكتوبر 1963م حيث قال: لقد كان الناس بسطاء جداً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان ودلالات وعقب قيام ثورة اكتوبر كان هم الجميع هنا «في أحياء عدن» هو التخلص النهائي والجلاء لكافة المستعمرين حتى آخر مستعمر أجنبي ولعل أفضل ما يمكن تذكره من طقوس كانت تجمع الناس حينها هي تلك الطقوس التي كان يجتمع فيها عامة الناس «مناضلون ، ثوار، أدباء، مثقفون ، عسكريون ، مواطنون عاديون» من كل شرائح المجتمع وأطيافه السياسية والاجتماعية وأهم تلك الطقوس هي التجمعات في النوادي الأدبية والشعبية أو بما يعرف شعبياً بالمقاهي وهي أماكن كان يتجمع فيها الناس بمختلف انتماءاتهم الحزبية والاجتماعية المختلفة .. ففي المقهى الشعبي في الحارات والاحياء أو في الأسواق الشعبية والتجارية كانت تجتمع الآراء والأفكار وتطرح الاشاعات ونسمع الجديد في البلاد وكانت هذه المقاهي الشعبية أشبه بإذاعات محلية متنقلة وسريعة في تناولها للأخبار والشائعات وكل ماهو جديد كما قلت لكم. وهذه التي كنا نذهب إليها كان لها أوقات محددة إما في الصباح الباكر وحتى التاسعة أو العاشرة صباحاً أو في الليل وفي الصباح كنا نتناول فيها القهوة والشاي ، أما في الليل فنتجمع فيها إما لشرب القوة والشاي أو المداع أو للعب بالبطة والدومنة ومهما كان تعدد أصناف المشروبات أو اغراض اللعب واللهو التي كنا نلاقيها في هذه المقاهى إلا أن الهدف الرئيسي لمعظمنا كان الاستماع لآخر المستجدات والاخبار التي تحدث في البلاد حتى الانجليز أنفسهم كانوا يحضرون ليسترقوا السمع ويعرفوا المستجدات هم أيضاً وربما كان هذا الأمر يهمهم لغرض ما ، المهم هذا ماكان يحدث في المقاهي الشعبية تلك أما في تجمعات وسط النهار فكان البعض منا يزور الآخر بعد العصر أو الغداء وهذه التجمعات كانت تسمى بالمقايل وكانت تخص الأسر فيما بينها أو الجيران أو الأصدقاء بعضهم مع بعض أي لمن يعرف الآخر لكن المقاهي الشعبية كانت تضم الجميع الأصدقاء وغير الأصدقاء والجيران وكل من قدم إلى المقهى وهذا هو الفرق بين المقهى والمقيل ، ومهما كانت التسمية إلا أنه في المقايل والمقاهي تلك بعدن كنا نتابع باهتمام ما يدور في الساحة اليمنية في الشطرين وبالاخص في مدينة عدن .. حتى أن إرادة الشعب في التجمهرات والمظاهرات والأعمال النضالية كان يتم التحضير لها في تلك الأماكن وغيرها من أماكن التجمعات الشعبية بعدن. أعراس سياسية أما الحاجة الطاعنة في السن عيشه أحمد سرور من سكان المعلا حارة الدكه فقد وصفت طقوس الأعراس في فترة الستينيات قبل قيام الاستقلال قائلة: كان الانجليز ينغصون علينا حياتنا والأوضاع قبل الاستقلال كانت هموماً ومآسي ومشاكل وكنا محاصرين حتى في لقمة عيشنا لكن لا أخفي عليكم أننا كنا نحاول ان نسعد أنفسنا بأية طريقة بالغناء أو بالرقص رغم أن فكرة النضال واجلاء المستعمرين كانت هماً لا يفارقنا حتى في أفراحنا وأذكر أن بعض الأعراض كان يزف فيها العرسان بالأغاني المصاحبة للرقصات وتتحول تلك الأغاني إلى أغانٍ مطالبة بجلاء المستعمر والاستقلال وأذكر موقفاً طريفاً لفنان شاب كان يعزف على العود اسمه غرامة وكان يغني يرحب بالضيوف مرة ويطالب بطرد المستعمر في أغنيته والناس منشغلين بالعرس وكثير منهم وقتها لم يسمعوا جيداً الكلمات وماهي إلا ساعة وحضر بعض الأشخاص وأخذوا الفنان غرامة وهرب العريس مع عروسته وظللنا ذلك اليوم نضحك حتى الصباح على الموقف لأن العريس كان من البداية يطلب من عمه ان يكون العرس بدون غناء لأنه يريد أن يصطحب عروسته سريعاً إلى بيته البعيد في لحج، وهكذا كانت حتى اعراسنا وأفراحنا تتحول إلى أعراس سياسية فلم نكن نفهم ان هذه سياسة وهذه مش سياسة لكن كنا نفهم حاجة واحدة ان عزتنا وكرامتنا في الاستقلال وفي جلاء المستعمر من أرضنا وهذا الكلام كان في كل منزل وفي كل مكان بعدن. ذكريات غالية الأخ الاستاذ نعمان الحكيم أحد القيادات والكوادر التربوية والتعليمية بمحافظة عدن وممن عايشوا فترات ما قبل الاستقلال ومن أبناء عدن الأوائل الذين كان لهم رصيد في العمل النضالي من خلال مشواره الكفاحي في السلك التربوي والتعليمي.. « الحكيم » استعرض وبايجاز ذكرياته في تلك الفترة قائلاً: نحن نعيش ذكريات غالية وعزيزة علينا في هذا الجزء الهام من وطننا، ربما يكون عمرها أكثر من عمر المناسبة، حري بنا ونحن في حضرة العيد ال24 للاستقلال الوطني الناجز الذي تحقق بعد نضالات جمة وضربات موجعة للمستعمر وأعوانه وازلامه من سلاطين ومستوزرين عاثوا فساداً في الأرض لفترة زمنية ليست بالقليلة ، نقول ان عيد الاستقلال هذا لم يكن وليد صدفة أو اتفاقاً مضروباً وأن من ينطلق من تسميته بعيد الجلاء يكون خاطئاً لان موعد الجلاء كان «18 فبراير 1968م» ويكون الجلاء المفقود هنا هو خروج « مورجان» كآخر جندي من القاعدة البريطانية بعدن ليلة «30 نوفمبر 1967م» كآخر شخص يغادر عدن .. وهو ليس المقصود بالاستقلال .. وعموماً شاءت قدرة الله ان ينتزع شعبنا استقلاله بقوة الإرادة والسلاح والايمان الذي لا يتزعزع مهما كانت التضحيات والنتائج ، وتحقق الحلم في زمن قياسي وجيز . نحن في ذلك الزمن كنا في أعمار طلاب الاعدادية ولكننا كنا نرى ونسمع ونحتك بالثوار الذين هم من بسطاء الشعب ، لم يكونوا متعالين أو غارقين ، فأغلبهم كانوا عمالاً ومثقفين ومعلمين وملاك محال تجارية ومقاهٍ .. الخ .. هؤلاء كنا نراهم في حركات اشبه بأفلام الخيال العلمي أو المستحيل نفسه وكانت الضربات مباغتة وموجعة وجعلت المستعمر يتخبط ويتذوق طعم الهزيمة خاصة في سنوات ما قبل الاستقلال نفسه حيث ركز مناضلو الجبهة القومية تحديداً ضرباتهم الموجعة ضد الاستعمار وجنوده وكانت النتائج بادية للعيان ، برغم اشتراك كل القوى في هذه المعارك « جبهة التحرير ، التنظيم الشعبي ، الرابطة .. وغيرها» لأنني وغيري في ذلك الزمن لم نكن نعي إلا « قومية وتحرير» لأنهما سيطرا على الموقف حتى غدت الجبهة القومية الفصيل المتمكن والقائد لاسقاط المناطق تباعاً .. ما جعل الاعتراف بها كقوة فاعلة تستطيع إدارة شئون الدولة بعد مغادرة المستعمر وهكذا كانت الحال. تضحيات لم تذهب سدى وتابع الأستاذ نعمان حديثه قائلاً: كان مكوثنا الرسمي في منطقة خورمكسر حيث كان سكننا في العراء بجانب مسجد آل البيت اليوم بحي السلام ، وعملنا كان في معسكر « لايك لاين» الذي هو الآن « حي عبد القوي» ولهذا كانت خورمكسر وكريتر والمنصورة جبهات للقتال إضافة إلى الشيخ عثمان .. وكانت قمة الصرع بين فصيلي التحرير والقومية وقوات أخرى حيث دارت رحى المعارك التي حسمت فيما بعد لصالح القومية والمهم أن الاستقلال حصل ولم تذهب التضحيات سدى وكل الدماء اليمنية التي سالت والشهداء الذين سطروا الملاحم كلهم من أبناء الوطن وهو ما نفخر به ونعتز ، وهو ما يجعلنا نتذكر كل المآسي والويلات والصراعات الجمة التي رافقت عملية الثورة المسلحة التي انبثقت في «14 اكتوبر 1963م» والقصة معروفة للناس جميعاً ولسنا بحاجة إلى تكرارها لأنها صارت في العقول والافئدة خالدة خلود الزمن. ملاحم بطولية ويمضي الحكيم في حديثه: اليوم ونحن في العيد ال24 للاستقلال نتذكر أولئك الذين علمونا وربونا وأخذوا بأيدينا لنصل إلى ما نحن اليوم فيه بعد وحدة الشطرين عام 1990م وهي اللحمة القوية للوطن من أقصاه إلى أقصاه .. نتذكر ما شهدته شوارع عدن ومقاهيها وازقتها من ملاحم بطولية ونترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا فداء للوطن وعزته وكرامته ونتمثل شخوصهم وهاماتهم العالية لنحني رؤوسنا اجلالاً واكباراً لها مدى الحياة. مشاهد حية ويختتم الأستاذ نعمان الحكيم مدير الإعلام التربوي بمكتب التربية والتعليم بعدن كلامه بالقول: لا يغيب عن الذهن تلك المطاردات للثوار من بيت إلى بيت ومن حافة إلى حافة لكن كان الناس كتلة وطنية واحدة، فلا يسلمون فدائياً أو يشون به بل كان التمويه والتستر عليه حتى ينجو ولو على حساب أهل البيت كلهم . كانت بعض الأسر توفر القوت للفدائيين من لقمة عيشها البسيط مع نقل المؤن والمعلومات من منطقة إلى أخرى ، ما سهل نجاح الثورة وانتزاع الاستقلال . وكانت مساجد عدن ستاراً وحمى للفدائيين حيث كانت الملجأ الأخير الذي لا يمكن للجندي الانجليزي دخوله بل كان يظل مرابطاً على الباب بحثاً عن الخصم ، حيث لا يجد ذلك ممكناً .. وهكذا حمى الله جنده إلى ان تحقق النصر المبين. جاد الناس بأموالهم دعماً للمعركة والنصر .. بعض هؤلاء لم تذكرهم الثورة بعد انتصارها ، وهم لم يطالبوها بمركز أو مقابل أو حتى كلمة شكر .. فالوطن كان وما يزال هو المراد تحريره وجعله بين الأمم خفاق الراية أبداً. رحم الله النقابي الوطني عبده علي الميوني الذي كان رمزاً للنضال والدفاع عن الثورة ورجالاتها وضحى بكل ما يملك وعاش أيامه الأخيرة في عامنا هذا بسيطاً رافع الرأس حتى وافاه الأجل رحمة الله عليه .. وعلى أمثاله وهم كثر في وطننا الغالي فلهم الرحمة والخلود أبداً.