تعتبر الصداقة لحن الحياة الجميل الذي لايستطيع إجادة عزفه إلا الاصدقاء الأوفياء فالأصدقاء هم الملاذ الذي نلجأ إليه وقت الشدة والضيق وإذا كان الإنسان بطبيعته يعد كائناً اجتماعياً فإن نجاحه في تكوين أصدقاء واستقرار علاقاته معهم يعد شرطاً أساسياً من شروط تمتعه بصحة نفسية وجسمية جيدة واستمتاعه بحياة لها معنى. تقف على عتبة ذاكرتي العديد من القصص الواقعية التي كانت بدايتها صداقة ونهايتها خيانة ومابين البداية والنهاية يقف الحذر ليرسم خيطاً رفيعاً بين هذه وتلك والإفراط فيه سحر ينقلب فيه على صاحبه إلى تخوين مزمن سببه بذرة الشك.. كانت منى ونهى صديقتين لأكثر من عشر سنوات وعلاقتهما العميقة والقوية تحجب رؤيتهما كصديقتين، ويشعر الجميع أن هاتين الأختين ماهما إلا جسدان لقلب واحد فرسائلهما تبدأ بجملة «باسم الصداقة التي بيننا» وتنتهي بجملة «مع حبي؟ توأمي» وبأيديهما معاً رسما أجمل لوحة جمعت فيها صداقتهما البريئة وحبهما الصادق وامتلأت الذاكرة بذكريات لأيام ليس من السهولة أن تمحى من الذاكرة قضتها كل من منى ونهى بالطول والعرض فكانت كلما ضاقت الحياة بإحداهما ذرعاً ارتمت بأحضان الأخرى لتخفف عنها وتداويها بجرعة أمل تجعلها تقاوم مكدرات الحياة فصارت علاقتهما أقوى وأقوى من أن توصف بكلمات تهز المشاعر تعبر عن مدى ارتباطهما ببعضهما البعض. وفي يوم أن تعرضت منى لأزمة نفسية عنيفة نتيجة لفسخ خطوبتها من شخص ارتبطت معه بعلاقة حب جميلة كادت تقودهما إلى عش الزوجية لولا كثرة المشاكل الأسرية التي كانت أقوى منهما، لجأت منى إلى نهى لتخفف عنها وطأة الصدمة العنيفة فغمرتها حناناً عوضاً عن حنان أمها التي أفتقدتها ولم تقصر بتاتاً في مداواتها نفسياً فنهى ذات القلب الطيب والواسع أفهمتها أن الزواج أولاً وأخيراً قسمة ونصيب، وبنظرة حنان منها ودمعة حزن سالت على خديها غسلت نهى جروح وآلام صديقتها وتركت لها باباً مفتوحاً أمام الحياة الجميلة لتخرج من هذا الباب للحياة معلنة الفوز على مصاعبها ولكن لم يكن في الحسبان أن تنقلب موازين الصداقة بقوتها وعمقها إلى عداوة وبغضاء والسبب باختصار هو كالتالي: بعد مرور خمسة أشهر على فسخ خطوبة منى هبطت عليها حقيقة لم تكن في حسبانها جاءت عن طريق صديقتها الوحيدة «نهى» التي واجهتها بحقيقة أن خطيبها السابق تقدم لخطبتها وهو يعلم أشد العلم أن نهى هي صديقة منى الوحيدة والمقربة حينها وقعت الصدمة على منى التي لم تمتلك حينها إلا أن تتشبث بأيدي نهى وتسألها بدموع حارقة «وماذا كان ردك؟؟!!».. وقبل أن تلفظ نهى إجابتها المنتظرة على سؤال منى أنهارت نهى وأغمي عليها لقوة الصدمة، فلم تتمكن نهى أن توصل إجابتها لمنى التي أمتنعت عن مقابلتها وحتى عن سماع صوتها بل أنهالت عليها بالكلام الجارح عندما حاولت نهى شرح الموقف في مكالمة هاتفية أنهت خلالها منى العلاقة التي تربطهما والتي كانتا تحسدان عليها. ولم يبق لمنى حيلة إلا أن تنتظر فترة حتى تهدأ أعصاب صديقتها وتدرك بعدها أن علاقة الصداقة التي بينهما أقوى من أن تهزها ريح كهذه ولكن الانتظار طال والحال كما هو، وغرقت نهى بالغموض الممزوج بالرغبة المتأججة في فهم تصرفات صديقتها منى التي لم تستمع على الاقل لتبريرات صديقتها حول الموضوع، ورمت نهى شكوكها للزمن وتركت له الدور في إظهار الحقيقة التي تثبت لصديقتها منى أن الصداقة بيت كبير لايدخله إلا الأوفياء. وفي يوم رق فيه القلب.. وأسلبت فيه الدمعة كانت نهى جالسة على أريكتها فأشتاقت لصديقتها منى وتذكرت اجتماعاتهما على موائد الحياة فكتبت ورقة لصديقتها تدعوها إلى تذكر حياتهما الجميلة ونبضاتها التي لايمكن فقدانها وجاءت في هذه الرسالة بالأبيات التالية: إني وإن كنت امرأ متباعداً عن صاحبتي في أرضها وسمائها لمفيدها نصري وكاشف كربها ومجيب دعواها وصوت ندائها وإذا أرتدت ثوباً جميلاً لم أقل ياليت أن علي فضل كسائها فوصلت هذه الكلمات إلى منى عبر إحدى صديقاتها، وانتظرت نهى الرد الذي كانت تأمل أن لا يقل عن كلمة تسحب غيوم الحزن وينهمر بعدها غيث المحبة فتعود المياه إلى مجاريها ولكن الواقع يختلف؟. فالكلمة جاءت بشكل آخر فجاءت لتحفر في سويداء القلب جرحاً عميقاً فلم تقرأ نهى غير كلمة «خائنة» حتى أنهمرت دموعها واحدة تلو الأخرى وبعدها أدركت نهى أن الحياة أقصر من أن تشغلها بإكتساب العداوات إذا ردت على تجريح منى بكلام أقسى من كلمتها وأدركت أن صداقتها التي حافظت عليها برفضها لخطيب منى السابق قد قالتها منى بالتخوين والنكران التي اتهمتها بالخيانة مع أنها تعلم أنه كان بإمكان نهى التنازل عن صداقتها والموافقة مباشرة على الخطيب بدون إشعار صديقتها بأي شيء فتقع منى أمام الأمر الواقع ولكن الصداقة التي حملتها نهى في شرايينها كانت ضحية لهواجس وظنون منى. وهكذا أغمضت نهى عينيها على حلم جميل واستيقظت على واقع مؤلم فكانت تضحك بصوت مرتفع كي تخفي صوت بكائها وقاومت شعورها بالظلم والعجز عن الانتصار لنفسها ولذلك فهي الآن قد بدلت لون قلبها بألوان فاتحة وصبغته بقطرات من الحب والوفاء فحاورت من حولها ودعمت شعورها بإلتزام وجود صديقة أخرى مناسبة تذكرها أن القلوب التي لم تتهيأ للمحبة الطبيعية لا تحمل المحبة الإلهية.. وتبقى الصداقة أنهاراً تروي الأرض ودماءً تدفع الحياة في قلوب البشر وسراً يحكم الروح ووحياً يرتفع بالإنسان فيجعل منه وحدة هي نبض الوجود وايقاع الأمل وملاذ وملجأ لكل البشر مهما كانت نهايتها.