الشقة في بيت قديم، من ثلاث حجرات. بكل حجرة عائلة. الباب الخارجي مفتوح ليل نهار، لايوجد في الصالة مايخشى عليه، وكل عائلة تغلق باب حجرتها على نفسها واشيائها، الحجرة في الطرف الأيسر يشغلها فوال، عربته على ناصية البيت، والحجرة في الطرف الايمن يشغلها خباز، والفرق غير بعيد، لحست النار وجهه من زمن ونالت من أذنه، خلفتها ثقباً معتماً، يداري الجانب المسلوخ بالكوفية، الحجرة الوسطى تواجه باب الشقة، يسكنها عامل بالسكة الحديد، يصلح مايتهاوى من الفلنكات الخشبية تحت القضبان، ويشكو من رداءة مسامير القلاووظ الضخمة التي تنثنى اوتقطم حين يضغط عليها بالمفتاح، ولايجد غيرها في المخزن: هي جت علي المسامير! يقولها لنفسه وهو يجمع ماتلف منها ليعيدها للمخزن. عودته للبيت غير منتظمة بسبب طواريء العمل، وكثيراً مايرجع مع بشاير الفجر.لباب حجرته ترباس من الداخل مكانه مرتفع بالنسبة لابنه، وكان في الخامسة من عمره، وينهض من فرشته في الليل مرتين أو ثلاث للذهاب إلى الحمام، ربما بسبب البرد عندما ينحسر الغطاء عنه، ولايسعفه الوقت ليوقظ أمه وتفتح له فيبلل نفسه، وطلبت المرأة من زوجها أكثر من مرة أن ينقل الترباس ليكون في متناول الولد، ويقول: حاضر. غير انه يعود دائما مهدوداً من الشغل وينسى، وما ان يتناول لقمته حتي يغط في النوم، ولم تجد امرأته بداً من ان تترك باب الحجرة موارباً وتشعل السهاري.
العائلات الثلاث تعيش في وئام، لم يحدث ان ارتفع يوما صوت شجار بينها، وثمة اتفاق غير معلن بين النسوة الا يشغلن دورة المياه في فترة الصباح الباكر، فتخلو للرجال حتى لا يتأخرون عن أعمالهم، ولم تكن هناك مشكلة في استخدامهن المطبخ معا لإعداد الاكل. أما الغسيل فكل منهن تقعد الى طشتها في الصالة، وكن يفضلن القعاد معا. جاءت المشكلة من حيث لايتوقع أحد. الفران كان ينهي عمله عند منتصف الليل، ويرى الوقت مبكراً للعودة الى البيت، ودماغه مازالت صاحية، ولن يأتيه النعاس سهلاً، وقد يجد نفسه يعافر امرأته التي ترفض عندما يوقظها من النوم، وهو يحس بضيق حين يلح عليها، ويود لو سعت إليه، ولم يحدث ذلك منذ زواجهما، يحاول معها، وحين يراها تنفخ في غضب ينطوي ويعطيها ظهره، لا دخل لوجهه في رفضها، وربما خطر له ذلك في لحظة ضيق، غير انه يقصيه بعيداً في ركن مظلم. كثير من النسوان مثلها كما سمع، لايرغبن وهن بين اليقظة والنوم، غير انها أحيانا تكون صاحية وتروح وتأتي بالحجرة، واردافها الثقيلة تترجرج في الجلباب الضيق، وما ان يحتويها بذراعيه من الخلف حتي تنفضه في شدة. كان التفكير في هذه الامور يعكر دماغه ويبعده عن الحجرة قدر مايستطيع. عرف الطريق الى المستودع، حجرة واسعة بالدور الارضي في زقاق، على رأسه باعة الترمس والفول النابت والعصافير المقلية، الحجرة مختنقة بالانفاس ورائحة العرق الزنخة. يتربع على دكة خشبية ومركوبه تحت فخذه بعد ان فقد مركوبين في نفس المكان. ما اسهل أن يدس احدهم قدميه فيه ويمضي. يشرب البوظة قصعه بعد الاخرى، ويكون هناك دائما من يمد يده بسيجارة منتفخة متوهجة الطرف، يجذب نفساً أو نفسين ويرى اليد تعود فيضع السيجارة بين اصبعيها المنفرجتين. يخرج مترنحاً مع اغلاق المستودع، لايميز شماله من يمينه، ومايشبه الشبورة تحجب الرؤية، وأصوات تقترب وتبتعد، وثقل يجذبه إلى الأرض، يقاومه متعثراً، عادة مايفرغ معدته عند اقترابه من البيت، ويقف لاهثاً مستنداً برأسه للجدار، ويفيق متنهداً ويمضي الى حجرته. ويوماً سار الى البيت دون ان يقيء تحسس الدرابزين وامسك به، درجات السلم تهرب من تحت قدميه، وعندما يضع قدمه اخيراً فوقها يجدها تلين وتكاد تفقد تماسكها. ويصعد. باب الشقة المفتوح، دخل باب الحجرة الموارب، وضوء دافيء في لون الحلبة التي يحبها يخرج من عتبته ويتناثر امامه، دخل، ورأى فراشاً فرقد، وأراد ان ينبه امرأته لتطفيء السهاري وراح في النوم، امرأة عامل السكة الحديد أحست بالذراع تلقى على جنبها، وجهها للحائط، فتحت عينيها ورأت الثقوب وآثار البق التي اعتادت ان تراها وعادت للنوم، وانتبهت على صوت خطوات زوجها تصعد السلم، وانتظرت ان تسمع الصوت الآخر، وسمعته، شخشخة مسامير القلاووظ التالفه في حقيبته، اخذت نفساً عميقاً واسترخت، ثم سمعت الشخير فزعت جالسة، ورأت الوجه المسلوخ جنبها، وانطلق صراخها. في لحظة جاء الفران وامرأته ووقفا بالباب، لحق بهما عامل السكة الحديد ونظر من فوق كتفيهما، لم ير النائم في فراشه، وانما رأى امرأته يتوالى صراخها وتضرب فخذيها بيديها، الخباز في رقدته توقف شخيرة حين ارتفع الصراخ، ثم عاد الشخير خافتاً مصحوباً بتمتمة، اندفعت امرأة الخباز الى الداخل وقصدت السرير وكأنما توقعت ماتراه، سحبت زوجها من صدر الجلباب، تعثر في قبضتها وهوى على ركبتيه، وجهها المقبض يوشك على البكاء، قالت لجارتها: معلهش يا أختي، حقك عليّ.. موش داري بنفسه. وخرجت بزوجها انسحب الفوال وامرأته بلا كلام، وعامل السكة الحديد رمى الحقيبة الممتلئة بالمسامير التالفة جانباً وقال لامرأته. اشطفي الواد. الولد كان واقفاً بفرشته مبللاً نفسه. تحركت المرأة وكانت في وقفتها الساكنة ترقب وجه زوجها. انحني الرجل ومد ذراعه تحت السرير، وجاء بشاكوش ومفك، نقل الترباس من مكانه المرتفع إلى أسفل. حين عادت امرأته من الحمام رأته راقداً في الفراش، ووجهه للحائط، أطفات السهاري، وتمددت بجوار الولد.