انتهى رمضان، ومر بعده العيدان المباركان، الفطر والأضحى، ولم نستمع لأغنية دينية جديدة، تستحق الاهتمام، فتعلق في الذاكرة ويحفظها الوجدان، كعهدنا بغياب الأغنية الدينية منذ نحو عقدين أو أكثر، وكأن الناس كفوا عن الصيام والصلاة، وكفوا عن تمني توفيق من الله للحج، وزيارة البيت المعمور، وغياب الأغنية بمضامينها المختلفة «دينية، وطنية، مناسباتية، اجتماعية ،أغنية الطفل...وغيرها» منذ نحو عقدين أو أكثر، ظاهرة غربية لا يمنية فقط،.وكنت قد تأولت أسباب هذه الظاهرة في مقال طويل نشرته لي صحيفة «الثقافية» منذ عدة سنوات . وفي مصر لايزالون يستمعون إلى اليوم، في رمضان وفي العيدين، لأغاني زمان مثل «رمضان جانا» لمحمد عبدالمطلب، و«هاتوا الفوانيس» لمحمد فوزي و«افرحوا يابنات» للثلاثي اللطيف، و«وحوي ياوحوي» للمجموعة، «ياليلة العيد آنستينا» لأم كلثوم. وفي اليمن مازلنا نستمع لأغاني فنانينا الكبار، المحضار والمرشدي وسبيت وطه فارع وغيرهم، وأشهرها «ياعيدوه» لسبيت، و«آنستنا ياعيد». صحيح أن الفضائية اليمنية وقناة يمانية تسجلان منذ نحو عقدين أغاني دينية بين الحين والآخر، لكنها لاتحقق الشهرة، ولاتقف أمام الأغنية الدينية القديمة بثبات، لتتوارى في المكتبة، لأن ليس كل ما يتم تسجيله هو الأفضل، بل ما يتم تسجيله هو ما تمكن صاحبه من الوصول إلى المؤسسة واستديو الفضائيتين ، لأن الوسط الفني فيه فنانون شباب وكبار لديهم أغان دينية زاخرة بروحانية وجمال الأغنية الدينية القديمة لكنهم لا يتمكنون من تسجيلها لصعوبة الاجراءات التي قد تصل أحياناً إلى مايعده الفنان الأصيل الحساس إهانة، فمن عدن الفنانون فهمي تركي وسعد مانع وفيصل الصلاحي وغيرهم، وقبل عدة سنوات ذهبت في أمسية رمضانية جميلة إلى مدينة الحصن لأستمتع سويعات بروحانية وسحر الفن الأصيل، تحت سقيفة «التراث» التي ينظمها كل عام نادي «الجيل الصاعد» الرياضي والثقافي، وتحت السقيفة استمعت بشغف لبعض اغنيات دينية زاخرة بروحانية المناسبة الجميلة من تلحين الفنان محمد السنيدي وغناء المجموعة. فأين الشعراء وأين الملحنون؟ هم موجودون دون شك، لكن أشياء كثيرة تغيرت في حياتنا، صارت حياتنا زحمة، والأغنية الدينية يستلهم كلماتها الشاعر والملحن لحنها، من الشارع من أفواه الناس البسطاء، من صوت المؤذن و تلاوة المقرئ من أصوات الباعة المتجولين من تضرعات الناس أمام قبور أولياء الله الصالحين، واليوم صرنا لاننزل للشارع إلا قليلاً، وإذا نزلنا نعود إلى بيوتنا هاربين من الزحمة والضوضاء،.. زمان لم يكن سائق التاكسي يستخدم «الكلاكس» عمال على بطال، ولا هذا الازعاج الكبير الشارخ للرأس من الدراجات، ولا فضائيات تغزونا داخل بيوتنا، فلا نسمع الآذان إلا عند الفجر، إذا أبطل «القات» نومنا أو أرقتنا هموم وتكاليف الحياة، اليوم لم يعد بائعو «الخضار والبقل والكراث والفل وغيرهم» مضطرين للطواف في شوارع المدينة منادين الزبائن بأصوات مرتفعة ولكن فيها أثر واضح التنغيم، وبكلمات قليلة فيها أثر واضح من سجع وإيقاع اليوم صار بائع «البقل والكراث» يأتي «بالجاري» ويقف في ركن الشارع بهدوء والزبائن تذهب إليه. حتى الشحاتين صار معظمهم يكتفي بمد يده والهمس بكلمتين أو ثلاث ،لكن إلى اليوم مازلت أتذكر وحتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، شيخاً ضريراً يلبس جلباباً أبيض ويغطي رأسه بخرقة بيضاء، كان كل مساء يدخل شارعنا وكأنه يأتي من الظلام، وصوته العذب والقوي يصدح بتلاوة القرآن الكريم، ويعطيه سكان الشارع ما يسهله الله، وكان عددهم قليل،فكانوا يسمعون صوته وهم داخل البيوت، وإذا سمعت أنا صوته خرجت مسرعاً من بيتنا لأستمتع عن قرب بصوته الرائع. إن ضوضاء اليوم تفرض على فنانينا المعروفين واجباً أكبر، كي لا تحرمنا الضوضاء والزحمة من الروحانية العذبة والطرب الأصيل في غنائنا الديني، عليهم الاستماع أكثر للناس البسطاء والاقتراب منهم، في الشارع والسوق و الحديقة، والمسجد، وشراء احتياجات البيت من السوق مازال له سحر خاص لا توجد في المجمع الاستهلاكي أو السوبر ماركت، وعلى الفنان الأصيل ألا يكتفي بوجوده في شريط الكاسيت والحفلات الرسمية الوطنية أو على شاشة التلفزيون أو في قصر أو فيلا هذا الثري أو ذاك أو هذا المسئول أو ذاك، يغني أو يلقي شعراً ولا يسمعه غير نفر قليل، عليه أن يقتحم الزحمة والضوضاء ليقترب من جمهوره، وجمهوره سيلهمه الكلمة الحلوة إن كان شاعراً واللحن الجميل إن كان ملحناً والأداء المتفوق إن كان مطرباً. وكان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب قد أكد أنه أخذ لحن كلمات مقدمة أغنيته الخالدة «دعاء الشرق» من تلاوة مقرئ سمعه من احدى المآذن في حي «الحسين» الشعبي في القاهرة وهو يتلو: «والضحى والليل إذا سجى»..وكان محمد سعد عبدالله يقضي معظم يومه في مقهى صغير ومتواضع اسمه «مقهاية الشجرة» في الشيخ عثمان، وكان المرشدي يتجول عصر كل يوم في أكثر من شارع بالمدينة ذاتها، وكان أحمد قاسم مع الناس في ساحل «حقات» أو في صيرة ولذلك أبدع أيما ابداع في تلحين هذه الكلمات للشاعر الكبير أحمد الجابري: باذكرك بالبحر والليل في صيره وأخاف عليك الجسر يفلت من الغيره ولعل الشاعر أحمد الجابري قد تمشى كثيراً في «صيرة» ليتمكن من اختيار هذه الكلمات الرائعة «يفلت» بدلاً من كلمة «يسقط» فكلمة «يفلت» فيها هدوء يليق بالمشهد، وفي كلمة «يسقط» هدم وتدمير مقارنة بكلمة «يفلت». فهل ينزل الينا فنانونا، كي يخففوا عنا وطأة هذه الضوضاء بأغان دينية عذبة وجميلة نحفظها لهم في الذاكرة، فإلى متى نستمع لأغانينا القديمة، لنهرب من ضجيج الزحام،ونستمتع بكلمات وألحان مازالت نابضة بالحياة وصادقة في تعبيرها عن حالات وجداننا المختلفة انزلوا يا فنانينا فنحن لانستطيع الصعود لنصل إليكم. فنان الأمس كان على تواصل مستمر مع الناس، وفي عدن ولحج وأبين وحضرموت ازدهر الغناء منذ اربعينيات القرن الماضي، كان الفنان يسعى إلى التجديد والتجدد، ويحرص على مراعاة ذوق الجمهور،الذي كان ذا ذائقة فنية متذوقة وناقدة، فلم يكتف الفنان بالتواصل مع الجمهور من خلال الأسطوانة والإذاعة والتلفزيون والحفلات العامة، لكنه اهتم أيضاً باحياء حفلات الأعراس في «المخادر» ليجلس مع الجمهور عن قرب أكثر من المسرح، ويتعرف على مايرغب في سماعه من غناء، ويقرأ في الوجوه والعيون أمانيه وتطلعاته، وأفراحه وشقائه وكانت «المخدرة» إحدى القنوات المهمة للتواصل بين الفنان وجمهوره، لكن المهم أن الفنان في «المخدرة» لم يكن يكتفي بتقديم الأغاني القديمة وأغاني الآخرين، بل كان يحرص على تقديم جديده هو وفى «مخدرة» أقيمت في «حافة الشريف» بكريتر عام 1959م غنى محمد سعد عبدالله ولأول مرة أغنيته الرائعة «كلمة ولو جبر خاطر» وصاحبه على آلة الايقاع الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، أما فنان اليوم فأنا أرى أنه هو نفسه يخجل من تقديم جديده، سواء في «المخدرة» أو في الحفلات العامة وفي سهرات التلفزيون وحتى في شريط الكاسيت لأنه لا يرقى إلى مستوى ما قدمه فنان الأمس، ولذلك انفصلت العلاقة الحميمة بين الفنان، والجمهور وساعد على هذا غياب الحفلات العامة، لأن فنان اليوم لا يقدم الجديد ويشوه القديم، فكيف نتوقع أن يقدم لنا أغاني دينية ومناسباتية رائعة، حتى في مجال الأغنية الوطنية والوحدوية وأغاني الصباح وأغاني الطفل والمنولوج مازلنا نستمتع بأغاني فنان الأمس رغم تطور الإمكانات المادية والتقنية للصوت والصورة.