التراب الرمادي ينهال عليك من جميع الاتجاهات .. تراب حارق ، يحمل حرارة شديدة تصنع ندوباً سوداء في ملابسك وجسدك . تخفض يدك - التي امتلأت بالحروق - وهي تحاول منع وصول التراب الرمادي إلى وجهك .. تخفض يدك ببطء وحذر ، وتتابع حبيبات الرماد وهي تهبط كالمطر الخفيف .. كشلال من السواد يغطي المكان على امتداد نظرك . تفكر في الوضعية المناسبة لكي يراك بها العالم بعد ألف عام .. بعد ألف عام عندما يتم اكتشاف مدينتك المدمرة. حبيبات الرماد تواصل تغطية الأبنية والأشجار والممرات.. عدة أجساد تراها تحاول الهروب - وهي تحمل فوق رؤوسها أغطية معدنية - تتابع الحركات الصاخبة للأجساد ، وتتابع اختفاء آثار الأقدام التي ارتسمت - داخل الرماد - بفعل الرماد . تبتسم وأنت تتخيل نجاح الأجساد في العثور على ملجأ .. لكن الرماد الذي يغطي الأفق يقنعك بأنها ستدفن حتماً داخل الرماد الحارق . تعود للتفكير بالوضعية التي تناسبك وتناسب العالم بعد ألفي عام لتتخذها قالباً يدفنك داخله . تفاضل بين وضعية الوقوف ووضعية الجلوس.. وتستقر على وضعية الوقوف . تستقر كذلك على رسم معالم تحد ممزوجة بالغضب على وجهك وجسدك ، تستقر عليها وأنت تقول لنفسك بأن معالم الفزع والخوف ستتكفل بها الأجساد الأخرى . تقرأ مجدداً ما نحته على الصخرة بجوارك .. الصخرة الكبيرة التي ستتحول بعد ثلاثة آلاف عام إلى نصب تأريخي .. نصب تأريخي يحكي عنك وعن مدينتك المدمرة .. تقرأ النحت بصوت مسموع وأنت متأكد أن لا أحد يسمعك فالجميع منشغلون بالهروب . تبتسم للاسم الذي له رنين .. الاسم الذي اخترته لتنحته على الصخرة كإسم لك بديلاً عن اسمك الحقيقي ، وتراجع الإنجازات والانتصارات التي نحتها ونسبتها لنفسك . « سيفرحون كثيراً لعثورهم على هذا النقش بعد أربعة آلاف عام .. سيخبرهم هذا النقش عن حضارتي وعظمتي ...» تتخيل اسمك - اسمك الجديد - وصورة النقش وقد طُبع في ملايين الكتب والإصدارات ، وجسدك - المحنط بفعل الرماد - وقد وُضع في أعظم المتاحف وأحيط بأفضل أنواع الزجاج والحماية . تنتشي للفكرة .. وتؤيد قرارك الذي اتخذته بعدم الهروب من الرماد وحمل أدوات النحت والاتجاه إلى الصخرة الكبيرة لتسجل عليها تأريخك . تتابع التراب الرمادي الذي غمر قدميك ووصل إلى مستوى ركبتيك .. تحاذر أن تهتز قدميك - بفعل الحرارة - وتتحمل الألم حتى لا يتكسر قالب الرماد الذي يتشكل حولك . فجأة تعيد الرماد إلى منطقة العدم .. وتعيد للمدينة وضعها العادي .. تستعيد كل ما يوحي أنك واحد من ملايين ملايين الأحياء ، وتنزلق في أقرب شارع بعيداً عن الساحة الفسيحة التي تخيلتها مقبرة لجسدك وخلوداً لك . تتأمل المدينة بذاك الصمت المتبرم .. الصمت القابل للانفجار في أي لحظة . ويندفع صوتك بخفوت : « المكان مستيقظ ومزعج كما هو منذ بداية التشكيل .. الشوارع مفتوحة وتحفر لها أخاديد في كل الاتجاهات .. أخاديد كل مهمتها تسهيل وصول الضوضاء والضجيج إلى كل مكان . وبهرجة الأضواء العشوائية تتراص على نقاط متعددة لتدل الضجيج على الأماكن كلها .. كلها .. كأن الضجيج تعويذة سحرية تحرس المكان من التلاشي والنسيان . هكذا تؤرخ المدينة لنفسها ». رتابة الصورة تدفعك للغوص في حلم تغيير المدينة مجدداً .. زقاق عتيق يرتسم في البداية .. زقاق شكّل قديماً حدود المدينة ، ورائحته كانت تملأ كل فضاء المدينة . يتصاعد صوت أقدام من بداية الزقاق .. فتنزاح الروائح القديمة إلى اليمين واليسار فاتحةً المنتصف للخطوات السريعة التي تقطع الزقاق الذي لم تطأه قدم منذ قرون طويلة . تندفع الأقدام عبر تعرجات الزقاق الذي يشطر المدينة الصغيرة إلى قسمين .. تندفع الأقدام بقوة وترفع التراب الذي تراكم عبر قرون للأعلى ، فتظهر تفاصيل الطرقات الحجرية التي أخذت تستفيق وتميز رنه وقع الأقدام .. وتستعيد ذكرى مرت قبل قرون طويلة . الفتحات الجانبية تراقب الخطوات التي تتنقل عبر الزقاق .. وتميز صليل الدرع الحديدي الذي يرتديه صاحب الأقدام ضربات السيف الرشيقة - ذات اليمين والشمال - تسقط اللوحات التي تحمل أسماء الشوارع أرضاً ، وتعيد تسمية الشوارع باسماء قديمة . اليد تضع السيف في غمده ، وتدفع الباب الخشبي العتيق .. صوت صرير الباب ارتفع في فضاء المدينة الصغيرة كلها ، وخرجت الروائح العتيقة التي كانت محجوزة داخل البيت منذ قرون وأخذت تعيد تشكيل المدينة . الأقدام تترك آثاراً على الدرج الحجري وهي تصعد عبر الممر للأعلى .. نحو الغرفة التي ألفتها .. ورائحة الحياة القديمة - التي انحبست في أرجاء البيت - تتداخل مع أنفاس صاحب الأقدام . باب الغرفة الذي انفتح أخرج بقايا الذاكرة إلى أمام العينين .. تفاصيل الغرفة لم تتغير .. فقط كثير من التراب الناعم . تمتد اليد إلى نقطة في الجدار الجانبي للباب ، وتزيح الترب وقشور مادة البناء البيضاء من عليها ، فتظهر خزانة صغيرة . تدس اليد مفتاح في ثقب الخزانة وتديره .. فتنفتح الخزانة ، فيحشر صاحب الأقدام جسده داخل الخزانة ، ويغلقها من الداخل تاركاً المفتاح في ثقب الخزانة . صوت صرير صاخب يُخرجك من الخزانة .. فتطلق صوتاً غاضباً متقطعاً . « المدينة تؤرخ لنفسها بشكل سيء .. المدينة تؤرخ للزيف». تنزلق عبر الطرقات الإسفلتية .. وأنت تردد : «عندما تزعج المدينة أحدهم يقوم ببساطة بتدميرها .. عود ثقاب واحد يكفي .. (نيرون) عندما أزعجته (روما) أحرقها .. أربع لفافات من التبغ دخنها وهو يتأمل ضجيج روما .. أربع لفافات كانت كافية ليقرر حرق مدينة روما .. أما اللفافة الخامسة فكانت مدينة روما نفسها . لف المدينة كلفافة تبغ .. المدينة .. قصورها ، مبانيها ، حدائقها ، كنوزها ، شعبها ، والأهم ضجيجها .. المدينة كلها لفها كورقة تبغ وأحرقها ، وأخذ يمتص دخانها وهو يغني ...» تلقي بالسيجارة المشتعلة أرضاً ، وتتابع الأرض الاسفلتية التي تمتص حرارة السيجارة وتطفئها . فتفكر بشيء يدفن المدينة وضجيجها .. تفكر بفيضان يغمر المدينة .. فيضان يحول المدينة إلى قعر بحر . تفكر في المكان الذي تحب أن يفاجئك فيه الماء .. يفاجئك وأنت تسير في الشوارع ، أو وأنت نائم داخل غرفتك .. لا تستقر على قرار ، فتنتقل إلى تحديد درجة الرضوض والكسور التي يمكن أن تصيبك نتيجة دفع الماء لجسدك على جدران أو نتوءات معدنية. رغبتك في إبقاء جسدك بشكل سليم - ليؤرخ لك وللمدينة - يجعلك تستقر أخيراً على فكرة نومك العميق داخل حيز ضيق عند إحدى الزوايا الضيقة ، وكذلك على ضرورة عدم إحساسك بالماء الذي غمرك تماماً . ترفض فكرة تحول بلعومك إلى خياشيم تمكنك من العيش داخل الماء . وترتضي الانتهاء بهدوء ، فيغمر الماء رئتيك بسرعة وهدوء دون أن تراودك التشنجات - المؤلمة -المصاحبة للغرق . تُخرج نفسك من دائرة الماء .. فتعود اللوحات التي تحمل أسماء الشوارع إلى مكانها . تخلع ملابسك لتجففها ، و تختار زاوية لتشاهد منها البيوت والشوارع التي تهبط داخل الأرض بفعل المياه والزلزل الذي اتبعها . تشاهد اختفاء المدينة ، وأنت تتخيل أنها تؤرخ لنفسها في مكان آخر بعيداً عنك . « زيف آخر سيتشكل في المكان البعيد». تتابع بهدوء انطفاء المدينة تماماً وتحول المكان - الذي أنت فيه - إلى مدينة أشباح . الصمت والأفق الواسع يجبرانك على إشعال سيجارة وأنت تردد : « حتى مدن الأشباح تؤرخ لنفسها بشكل سيء ، حتى مدن الأشباح تحتاج إلى من يعيد تشكيلها».