(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) ألتحقت بأول سنة دراسية بالمعهد الديني في منتصف عام 1950م تشمل الدراسة أربع سنوات حيث تخرجت منه في عام 1954م، ولم أدر لماذا لم ألتحق بالمدرسة الوسطى التي تعد مدرسة نموذجية في ذلك الحين حيث كان يسعى إليها الكثير من الطلاب سواء كان من عموم مدن حضرموت، أو من بعض السلطنات والمشيخات المجاورة كالمهرة والواحدي وغيرها ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنني لم أكن على المستوى المطلوب من الدرجات العلمية التي تحصلت عليها في نهاية رحلتي الابتدائية التي تؤهلني إلى دخول المدرسة الوسطى ولكن مما أثلج صدري وصرف حسرتي على عدم دخولي المدرسة هو أن أغلب زملائي ممن كنت أزاملهم في المدرسة الابتدائية ومن بينهم زميل صباي ابن خالي الأستاذ أمين سعيد باوزير قد أدخلوا المعهد الديني معي وفي نفس الصف، ولم يكن حينها إلا صف واحد.. هذا إلى جانب بعض التلامذة الذين ألتحقوا من خارج مدينة الغيل وأغلبهم كانوا من مدينة المكلا.. وكان المعهد حينها قد أنشئ حديثاً حيث أفتتح قبل دخولنا بعام واحد وذلك عام 1949م وكان الرأي في إدارة المعارف حينها أن تجعل ذلك المعهد معهداً دينياً صرفاً بحيث يتخصص في العلوم الدينية، فيما تكون المدرسة الوسطى مدرسة عصرية تدرس بها كافة العلوم الحديثة إلى جانب تدريس اللغة الإنجليزية وكان الهدف الذي كانت ترمي إليه الإدارة البريطانية حينذاك والمتمثلة بالمستشار البريطاني هو تخرج موظفين يقومون بشغل الوظائف التي تحتاج إليها بريطانيا لتسيير أعمالها بمكاتب إدارة المستشارية التابعة لها، شأنها شأن كل المدارس التي أنشأتها بعدن، إلا أنه برغم تلك النية المبيتة التي تضمرها السلطات البريطانية آنذاك فقد شقت تلك المدرسة عصا الطاعة وتحولت إلى مدرسة وطنية تخرج منها العديد من الطلبة الذين حملوا رأية الحرية وحاربوا الاستعمار وحكم السلاطين.. ولهذا فقد حرم المعهد من العديد من الامتيازات فأبعد عنه تدريس اللغة الانجليزية ووضع له منهج مزدوج استقي من هنا وهناك وزاد الطين بلة كونه مبتدئاً الشيء الذي جعل العمل فيه مرتبكاً وجاء هذا الإرباك على رؤوسنا نحن الطلبة الأوائل حيث علمت أنه بعد عدة سنوات أضيف إلى منهج المعهد تدريس اللغة الانجليزية التي حرمنا منها نحن الأوائل.. ففي حين عين مديراً للمعهد حينذاك فضيلة الأستاذ عبدالباقي يوسف، وهو سوداني درس بالأزهر الشريف عين إلى جانبه العلامة السيد محسن بونمي وهو من علماء حضرموت التقليديين إلى جانب بعض المدرسين الحضارم متنوعي المعارف والاتجاهات فمنهم من يمثل الرعيل الأول الذي خاض تجربة طويلة في التدريس كالأستاذ الفاضل أحمد عبدالرحيم باعباد والأستاذ الشاعر محمد عشار إلى جانب جيل آخر من الشباب ممن درسوا بالسودان ويمثلون النهضة الحديثة كالأستاذ عبدالله اليماني، كل هذه التركيبة المتنوعة وبما يمثلونه من اتجاهات مختلفة كانت تصطرع خلف جدران ذلك المعهد انعكس علينا فبينما كان السيد محسن بونمي يدرسنا العمدة في الفقه إلى جانب علم الحديث وعلم الفرائض والذي يعتني بتقسيم المواريث هذه العلوم الذي كان يصر رحمه الله على أن يؤديها لنا في المسجد الملحق بالمعهد وعلى الأرض رافضاً جلوسنا على الكراسي في الصف.. بعد تلك الحصة ربما ننتقل إلى حصة الجغرافيا التي كان يدرسها لنا الأستاذ عبدالله اليماني فيطلب منا أن نركب على الأمياز لنهيئ أنفسنا لرحلة طويلة نسافر فيها على أحدى البواخر إلى مدينة “كانوا” بنيجيريا لزيارة صديقنا هناك حيث يقوم أستاذنا بوصف مسبق للأماكن التي نمر بها ويصف لنا الغابات والأنهار وقد كانت هذه الحصة من أمتع الحصص إلى نفسي في حين كان المرحوم الشاعر محمد عشار يتحفنا من آن لآخر بأروع قصائد شوقي وايليا أبو ماضي ابن زيدون والتي لازلت أحفظ العديد منها حتى اليوم كرائعة شوقي «صقر قريش» وهي عن عبدالرحمن الداخل الذي بنى الدولة العربية بالأندلس وقصائد فلسفة الحياة والطلاسم لايليا أبو ماضي وغيرها.. هذا إلى جانب أننا كنا ندرس على يد الشيخ عبدالباقي علم نحو من كتاب النحو الواضح الذي كان يسميه السيد محسن بونمي النحو الفاضح وقد كان يحبذ ان ندرس النحو على غرار الدراسة القديمة ومن الكتب التقليدية كألفية ابن مالك كما كنا ندرس على يديه البلاغة والتي يذكر لنا في التشبيه جملة “رأيت البحر ينثر الدر من فيه” حيث يشبه العالم الذي يتحدث بالبحر وهو يلقي علومه من فمه، وكما قلت سابقاً فإن حصة الجغرافيا هي من أمتع الحصص لدي لربما ان فيها شيئاً من القص ومن الوصف تأتي بعدها حصة النصوص الشعرية التي يؤديها لنا الأستاذ محمد عشار.. كذلك أرتاح لحصص شيخنا الفاضل السيد محسن بونمي حيث كنا نلتف حوله على أرضية المسجد وهو يحدثنا بأسلوبه البسيط ويطرفنا من آن لآخر بنكتة ظريفة تسمى على الطريقة القديمة “ملحة” وذلك ليطرد منا السأم والضجر الذي يصاحب بعض الدروس الجادة، ولكن ما إن يهل علينا الشيخ عبدالباقي مدير المعهد الذي يدرسنا النحو التي تعد من أبغض الحصص إلى نفسي ففي هذه الحصة وما إن يبدأ بالمبتدأ والخبر ويأتي إلى جملة النمر شرس حتى تنتابه موجة من مرض الربو الذي يشكو منه وهنا تتحول الشراسة من النمر إليه فيسوء خلقه فينقلب وهو الرجل الوديع إلى نمر مفترس وينهال علينا بالضرب لأقل هفوة نرتكبها وكان للمعهد حينها مراسل كبير السن ولكنه كان صغير العقل يقال له “الركن” هذا الركن يكاد أن يكون متخصصاً في طلبات مدير المعهد الشيخ عبدالباقي التي لاتتعدى الخصلتين: الخصلة الأولى كان يبدأ بها صاحبه كل يوم، وهي إحضار عدد من سعف النخيل الأخضر من بستان “ذهبان” الذي لايبعد كثيراً من المعهد، وبعد أن يجرده من أوراقه ويصبح جريداً أملساً يسلمه للشيخ عبدالباقي ليكون زاده اليومي للضرب.. أما الخصلة الثانية فميعادها يأتي في نهاية اليوم.. فما إن تقترب الساعة من الواحدة ظهراً حتى ينطلق ذلك الفراش إلى منزله بمنطقة الكوم وهي منطقة تقع بأقصى الجزء الغربي من مدينة الغيل.. ومن هناك يعود بقفة، مليئة بالعيد وهو سمك صغير لكنه لذيذ الطعم مليء بالدهون وإلى جواره قرص من خبز الذرة المخمر، هو غداء الشيخ عبدالباقي ولعل الشيخ قد ذاق هذا السمك مرة فأدمنها وأصبح لايستغني عنها كما أصبح لايستغني أيضاً عن خصلته الثانية وهي الضرب والتي عقدتني من مادة النحو حتى صرت أكره هذه المادة إذ ما أن تبدأ تلك الحصة ويهل علينا الأستاذ عبدالباقي بوجهه البشوش حتى يمر كعادته كل يوم على زميلنا المرحوم سالم عبداللطيف وهو من أصل هندي ليداعبه قائلاً له بالهندية بصوته الصغير الذي يخرج تواً من حنجرته “كيس ها” وبعد هذه التحية والبداية الحسنة يرتسم عليه الوجوم فجأة وهو يفتح كتاب النحو الواضح، وما إن يبدأ بسؤال أحد الطلبة عن درس الأمس وإعراب بعض الجمل... وما إن يرتكب ذلك الطالب أول غلطة حتى يثور الأستاذ ويهتاج غضباً ويستدعي الفراش الذي يكون حينها مستعداً إلى جانب كتلة تلك العصي ويطلب منه إحضار أجملهن نضارة وألينهن قواماً، وينهال بتلك العصا على ذلك التلميذ المسكين في كل جزء من جسمه و رأسه وظهره ويديه، ولا ينقذه من ذلك إلا إذا انتابته موجة من ضيق التنفس هنا يخرج من الفصل إلى مكتب الإدارة ليقوم بوضع الجهاز البخاخ على أنفه أو فمه لا أدري أيهما كان الأحق بذلك، وبعد تكرار مثل تلك الأساليب الخاطئة التي كان يعاملنا بها الشيخ صرت أنفر من هذه المادة الشيء الذي جعلني أصرف نظري عن تلك الحصة، وأشغل نفسي خلالها بقراءة قصة ما.. وكان حينها الزميل المرحوم سالم عبداللطيف مغرماً بقصص أرسين لوبين فكنت كثيراً ما أستلف منه إحدى هذه القصص وأشغل نفسي بها خلال حصة النحو تلك فقد كنت بعد مرور الشيخ علينا وحين يجلس على مقعده ليبدأ الحصة هنا أخرج الكتاب من التختة وأجعله أمامي ولكن على حجري بحيث لايراه الأستاذ وأندمج في القراءة ومتى ماجاء دوري في السؤال قمت لأسلم للشيخ عبدالباقي ظهري وألتقي نصيبي من الضرب وأعود لمواصلة القراءة ولهذا فقد نشأت ضعيفاً في النحو ولم ينقذني بعد تخرجي إلا مواظبتي وشغفي بالقراءة التي نظمت لدي فيما بعد ضبط الكلمات على وجهها الصحيح ولكن دون أن أعرف لماذا تنطق بهذا الشكل أو ذاك إلا اليسير منها وتحضرني حادثة طريفة رواها الكاتب الكبير الأستاذ المازني في أحد كتبه حينما كان في فترة من فترات دراسته الأولية إذ مثل ذات يوم أمام المدرس الذي سيمتحنه في مادة النحو، وكان شيخاً جليلاً من شيوخ الأزهر وعندما طلب منه إعراب بيت من الشعر ولماذا قيل على تلك الطريقة فلم تسعفه ذاكرته في إعراب ذلك البيت، وهنا لجأ إلى ذكائه وفطنته فوقف أمام الشيخ في ثقة العارف وقال له: لأن العرب الأوائل كانوا ينطقونه على ذلك الشكل الذي ذكرته وأصر المازني على رأيه والشيخ يحاول أن يقنعه والمازني يراوغ ولم ينقذه كما قال إلا أن نظر الشيخ إلى ساعته فنهض ليؤدي صلاة العصر وترك المازني وقد تخلص من المأزق الذي وقع فيه. أما النشاط الذي كنا نقوم به بالمعهد فلم يكن نشاطاً كبيراً ولايقارن بالنشاط المكثف المتعدد الذي تقوم به المدرسة الوسطى إلا أننا لانعدم بعض النشاطات الثقافية التي كنا نقيمها مساء على صحن المعهد المكشوف حيث تقام المساجلات الشعرية التنافسية بين الطلاب وقد كان من طبيعة هذه المسابقة أن يجلس المتنافسون في صف واحد ويبدأ الأول بقول بيت شعري لأحد الشعراء العرب المعروفين والحرف الذي ينتهي به البيت على الطالب الذي يليه أن يقول بيتاً آخر يبدأ بذلك الحرف للبيت السابق وهكذا والذي يعجز عن إيجاد البيت المناسب تعطى له مهلة فترة معروفة فإن أجاب فيها وإلا خرج من المسابقة والمتسابق الذي يصمد إلى الأخير يكون هو الفائز.. وهناك مسابقة أخرى هي أشبه بما تقدمه القنوات التلفزيونية في أيامنا هذه، فقد كان الأستاذ يطلب من أحد الطلبة أن يتقدم إليه ثم يطلب منه أن يوليه ظهره وهنا يلصق على ظهره ورقة بيضاء وعليها اسم علم سياسي أو أدبي أو فني، ثم يطلب منه أن يستدير ليكون ظهره المثبت عليها اسم الشخصية المطلوب منه معرفتها أمام التلاميذ الذين يقرأون تلك الورقة ويحتفظون بالاسم المكتوب عليها لأنفسهم دون أن يتسرب شيء من ذلك إلى المتسابق فيبدأ المتسابق بوضع بعض الأسئلة على الجمهور ويكون ردهم بكلمة لا أو نعم.. فمثلاً يسأل المتسابق: رجل؟ فإن كان رجلاً أجاب الطلاب بنعم أو كانت امرأة أجابوا بلا. فيسأل:سياسي.. ثم عربي.. أجنبي وهكذا حتى يتعرف على الشخصية الملصقة على ظهره .. وإلى جانب هذه المسابقات كانت تقام في بعض الأمسيات محاضرات ثقافية أذكر أنني اشتركت في إحداها بمحاضرة عن مدينة صنعاء تناولت فيها ظاهرة اليسك وهي كلمة تركية تعني منع التجوال حيث قضت العادة حينذاك أن يمنع التجوال في صنعاء من بعد الثامنة مساء، وقد استقيت موضوع تلك المحاضرة من كتاب ملوك العرب للريحاني، كما شاركت في المسرحية الوحيدة التي مثلت في عهدنا ولعلها مسرحية الأمين والمأمون غير أنني لم أكتف بذلك النشاط المسائي الذي يقام بالمعهد ولهذا فقد نقلت نشاطي إلى بيت جدي حيث كونت فرقة موسيقية أنا وبعض الزملاء بدأنا بمعازف صنعناها من تنك القاز الكيروسين ومددنا عليها أوتاراً من خيوط الصيد، بعد ذلك تفتق ذهني إلى صنع آلة عود من خامات محلية كان بعد ذلك حجر الزاوية لتلك الفرقة الموسيقية، هذا العود بعد سفري إلى عدن عام 1954م وضع بأحد معارض المدرسة الوسطى كعمل فني ولم أدر بعد ذلك مصيره، هذا إلى جانب إصداري لصحيفة خطية تحت اسم الأيام صدر منها عدد واحد وذلك في 9/1/ 1952م وكان من أبرز كتاب ذلك العدد الأستاذ الباحث عبدالرحمن الملاحي والأستاذ أمين سعيد باوزير إلى جانب عدد من الزملاء بالمعهد. وقد حدثت حادثة حين دخولي المعهد حادثة مروعة لازالت ذكراها عالقة بذهني حتى الآن هذه الحادثة هي حادثة القصر الشهيرة التي حدثت بالمكلا في السابع والعشرين من ديسمبر 1950م على ساحة القصر السلطاني، وذلك عندما انقضت قوات الجيش على الشعب الأعزل الذي قام بتظاهرة سلمية يطالب فيها بسكرتير وطني قتل فيها العديد من المتظاهرين وكان حينها خالي الأصغر الفنان الرياضي المعروف المرحوم سالم عوض باوزير يدرس بالسودان وقد أوحت له هذه الحادثة برسم لوحة تصور ذلك الحادث،وكنت قد استلهمت من هذه اللوحة قصة قصيرة كمشروع كان لدي في تبسيط بعض الحوادث التاريخية للناشئين من الأطفال،هذه القصة نشرت على صفحات مجلة :وضاح” للأطفال على حلقتين في نهاية الثمانينيات،الحدث الثاني الذي حدث وأنا أدرس بالمعهد والذي أثر تأثيراً كبيراً في تكويني الثقافي والوطني هو قيام الثورة المصرية في يوليو 1952م.