فرضت قصيدة النثر نفسها على الساحة الثقافية اليمنية والشبابية على وجه الخصوص بحيث يصعب تجاهلها فهي تفلح بما تمتلك من تقنيات مدهشة في أن تحفر لها مكاناً في أذهاننا فيصعب علينا نسيانها بل إنها تدهشنا بهيئتها الجديدة غير المتوقعة . ففي المجموعة الشعرية الموسومة (مرقص) للشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني –الصادرة عن وزارة لثقافة ، صنعاء 2004- تجد نسقا جديدا لكتابة قصيدة التي تغادر فضاءاتها الشعرية لتغدو اداة من ادوات السرد الروائي الا انها تنحاز الى تدوينها الطباعي لتعلن عن هذه المغادرة منذ الفص الاول لهذه المجموعة الموسوم ب(اليعسوب ) اذ يثبت ردفه عبارة (ثابت معنيا بالرواية ) وانتهاء بالفص الاخير الموسوم ب(هؤلاء) ويردفه بعبارة (الرواية ليست معنية بهم) ... وحين ننتقل من عتبة العنونة الى عنونة فصوص المنجز ستجد مثلا ( ام ضياء / البنات/ خليل / بوسي / فطوم / احلام / رامي / هديل / الكابتن سين / ناهد / اقبال / ...) وهي فصوص اشبه ماتكون بمسارد روائية وحين تنتقل الى تفاصيل المتون ستجد استبطانا واعيا لتلك الانوات التي تحركت على مسرح النص وترنحها تحت وطأة الحرمان والفقد الذي يشاكل ترنح الراقص على ارض المرقص هذا المكان الملتبس الذي يحيل الى تحولات الامكنة الرامزة للهوية والانتماء وامتساخها وبل وصيرورتها مكانا خصبا لغياب القيم وضياعها ، تأمل ماقاله الشيباني في الشذرة الموسومة (علبة) (الليل يمر ثخينا هنا): حينما جهزت شركة النفط في المساحة المجاورة للمبنى هنجراً واسعاً حتى يستطيع موظفوها اقامة شعائرهم بالتأكيد لم يكن القائمون على ادارتها يعلمون ان شخصاً ما سيحوله بعد سبع من السنين الى علبة ليل يزدحم في جنباتها الباحثون الى المتعة في جو تختلط فيه الموسيقى واصوات المغنين الهواة بلحم الراقصات بل الامتزاج الواعي بين انوات المتون والنسق السياسي يضيء الرؤى الراعفة التي تشهد امتزاج الكوميدي بالتراجيدي وهي حركة تبتعد عن المحلية لتناقش هموم الانسان انّى كان .. لاحظ مثلا ماقاله عن نساء المرقص المحترفات : ومن هنا اختفت كل النساء مع دخول اول ايام الصيام تماما كما اختفى الجيش العراقي من بغداد في التاسع من نيسان المتن يوثق بهذه الصورة الكاريكتيرية لفجيعة المكان الرامز للحضارة (بغداد)بغياب مسانده الدفاعية وجنرالاته العتاة وتركه مستباحا لبساطيل المارينز ومجنزرات الغزاة والمخيال النصي يعيده واعياً الى ذاكرة التلقي ليفضح جوهر الرمز الذي وقف عليه المنجز برمته .. ومثل هذا ينسحب مثلا على (ليال )(الغازية بشعرها الاصفر واسنانها الذهبية) ، تأمل : هل خطر ببال الحاجة ليال -بعد نجاتها من مذبحة بائعات المتعة قبل حرب العراق الاخيرة – انها ستكون مسؤولة عن اثنتين وعشرين فتاة من بنات جلدتها (الغجريات)
هل خطر ببالها شكل الطاولة الواسعة التي ستجلس اليها لست ساعات كل ليلة تمضيها في اكل القات وتدخين المارلبورو الابيض وشرب البيرة وتوجيه البنات ، والرد على مكالماتهن من التلفونات المحمولة وهل خطر ببالها ايضاً انها ستستأجر خزانة بنكية سرية لتضع فيها بسبورات وعقود عمل الفتيات الممهورة بختمها الحديدي هل خطر ببال الحاجة –السمينة بشعرها الاصفر واسنانها الذهبية – انها ستبتكر جدولاً اسبوعياً اذاً يمكنك مباشرة ان تلمح اصابع الشيباني وهو يشكل شخوصه المهيمنة على السردي والشعري و المستجلبة من الواقعي واليومي ... هي شخوص تذكرك بشخوص نجيب محفوظ الملفعة بالرمز والتي ارخت كما يؤرخ الشيباني لأسباب هزيمتنا المعاصرة ... هو يرسم صورة كاريكتورية لكنها للاسف لاتخز ضمير التلقي الذي تعايش معها وانما يستدعيها بكامل ملامحها من تراجيدية الواقعية العربية ... فتجد في (ليال) الكينونة المغلفة بالعقيدة (الحاجة) والمتقشرة عن بشاعة الرؤى وغياب المعتقد وضياع القيم ... الشيباني في منجزه الشعري نجح في ان يخلق شراكة بين التلقي والمبدع الذي اكتفى بنصف الصفحة حين انتقى الهيكل التدويني لقصيدة النثر لسرد تفاصيل روايته- التي خرقت صفحاتها الثلاث والسبعين الحجم المألوف للرواية – ليمنح القارىء سانحة ملء النصف الاخر من الصفحة برؤاه وعذاباته التي سيستجلبها من معايشاته الخاصة للحدث . وفي مجموعة (الشباك تهتز العنكبوت يبتهج )للشاعر محمد اللوزي - الصادرة في صنعاء 2001 -تجد صياغة يمتزج فيها الغرائبي بالشعري منذ العنونة ومرورا بسيرة الشاعر التي ثبتها في مطلع المجموعة والتي يرد فيها : محمد محمد اللوزي - برج الجوزاء صنعاء 1975 - لم يشارك في أي مهرجان محلي اوعربي او عالمي - لم يحصل على أي جوائز ابداعية محلية او عربية ثم تنتقل الى الاهداء الذي يرصفه على الشكل الاتي : الاهداء .. الى ... ... .. ... .... ... .. ... ... .... ... .. ... ... .... ... .. ... ... والمقدمة التي جاءت بالشكل التالي : مقدمة : .... ... ... ....، ...... .... ، ... ... .....! ... .... ... .. ... ... ، ... .... ... .. ... ... ....، .... !! . .... ... .. ... ... ، .... .. .... .... .....، .... . .. ... ، .. ... .. .. ، .. ؟! .. ... ، .... ؟؟ .. ... ..... .. ... !!! . محمد صنعاء –اغسطس 2001 لنكون ازاء اشكالية نقدية يطرحها اللوزي الذي يعكس من خلال صياغته للمقدمة والسيرة حركة النقد العمياء صوب اصحاب الاوسمة والمشاركات واهماله المبرمج للأصوات التي مازالت تشق طريقها بصعوبة بين الاسماء المهيمنة على المشهد الثقافي بسبب طروحاتها الجريئة يوما ما اوبسبب الشللية او ... او لذلك هو يطلب قارئا يتجشم عناء الرحلة الى فراديسه هو دون شراكة اجتماعية اوثقافية مسبقة ... هو اذن يطالب بحياة القصيدة التي تمنح للشاعر هويتها وملامحها ونبرات صوتها ... ومحمد اللوزي يواجهك بقصائد وامضة تكثف مساحات النص المنطوق به لتمنح المسكوت عنه جغرافية متسع ، تأمل مثلا ماقاله في قصيدته الوامضة الاولى الموسومة ب (قناع ص11 ): في الحفلة التنكرية ... التي ستقام غداً لم يعد ثمة اقنعة نلبسها وسيلبس كل منا وجهه يتكيء المتن الى بنية تراجيكوميدية بقدر ما تضحك بقدر ما تخز وتعذب.. انها بنية تجعلك في مواجهة عذابات لاتنتهي عذابات نصنعها بأنفسنا حين نخاتل صفاء الروح ونستجيب لعتمة الاخر المخاتل المتربص بأحلامنا .. انها دعوة للصفاء ولخلع الاقنعة ولمواجهة الذات والاخر بلاخوف اوعنف ومصالحته .وفي قصيدة (اسود ص18) يخلق واعيا ارتباكا في افق التلقي ، لاحظ الآتي : لاتصغ للابيض حتى لودام طويلاً ابيض انك امام متن بصري وامض يحاول واعيا ان يهتك ذاكرتك وذاكرة اللون ليمنحه معجما جديدا ، ويرسم وباقتدار جورنيكا جديدة تستبدل عتمة السواد بالياض لا لشيء الا ليكون غلافا للاسود مرة اخرى لتعكس وعيا حادا بمحنة الاغتراب الثقافي والفكري ، وقد اضاء الخطاب الزاجر (لاتصغ) الى انفصال الذات عن العالم الخارجي الملبد بالمخاتلة والوحشة . ويمارس اللوزي لعبته في نسف ذاكرة الالوان في قصيدته (لا أحد ، ص 10 )التي يقول في جزء منها : الايام معبأة بالسواد سواد اصفر سواد احمر سواد اسود انت لاتعرف من تنتظر وهذه هي المشكلة ولو انتقلت الى قصائد الشاعر احمد السلامي في مجموعته الشعرية (حياة بلاباب) –الصادرة عن اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين ، صنعاء2002- فإنك ستكون ازاء متن سوريالي يسعى وبمكابدة فنية ووعي جمالي حاد الى تفكيك العلائق المنطقية بين الاشياء توقا الى وخز افق التوقع ومداهنته للبحث عن حلول لأسئلة يضعها النص في سلاله ، احمد السلامي ومنذ العنونة يجعل من النص مرايا صقيلة تعكس الرؤى الايديولوجية للذات المبدعة ازاءالحياة والكون وهي رؤى لاتستشفها القراءة العجلى وانما تبقى رهينة التأويل الذي يمس شغاف البنية الغائبة المسكوت عنها . فحياة بلاباب تؤشر إلى دلالتين متصادمتين احداهما الرغبة في هتك اقفاص الامكنة والاخرى هي شدة الالتصاق بالذات والانغلاق عليها لخلق ارتباك في مناخ التلقي يعيه الشاعر ويقصده .ولو تأملت في غلاف المجموعة ستجد هذا الارتباك يتسلل الى الصورة الفوتغرافية التي تواجهك بملامح احمد السلامي الذي يقف محايثا لباب كبير وثمة ضوء يلفح جبينه يشير الى انفتاح الباب الى ان هذه وجهه ووقفته ينعكسان على مرايا شطرت الصورة الفوتغرافية شطرين وهو انشطار يتوغل الى عمق المتون الشعرية فيثير حفيظة التلقي ويستفزه لإعادة قراءة الراهن ، لاحظ مثلا ماقاله في قصيدة (دليل ص 47) : في الضياع كف للكف عين فيها دمعة في الدمعة حنين الى ذيل ثوب دليل مفقود انت ازاء نسقين احدهما منطوق به يفكك العلائق المنطقية بين الاشياء لخلق مسرح عبثي ضاج بالاثارة والاخر مسكوت عنه ملفع بالمرارة ومتخم بالتوق الى الانعتاق من عذابات الوحشة والترقب لحضور الاخر الحميم الغائب . فاليد تحيل الى الرغبة في الاداء والمصافحة ، والعين تحيل الى الترقب والدمع يحيل الى الاحساس العارم بالهزيمة القصوى ، ويكثف السطر الاخير الرغبة في الخلاص من دوامة الوحدة . وتضيء قصيدة( فزع ص 69 )افقا آخر .. لاحظ : كمن يتجمد بانتظار صوت الطلقة او كالذي –لمرات عديدة – يكتم تنفسه حد الاختناق يتوقع لحظة ظهور الوحش في فلم مرعب: اترقب فزع انفتاح الباب يخلق صورة تشبيهية معقدة نسبيا فهو يؤخر المشبه واعيا (اترقب فزع انفتاح الباب) - ليقدم وبأداة تشبيهية واحدة هي الكاف - صورتين متكاملتين - تمظهرتا في الاسطر الثلاثة الاولى- شكلتا المشبه به ، السلامي اراد ان يصوغ صورة تتكور على الفزع من انفتاح الباب الذي يحرك المتن الى اكثر من بعد اسطوري فثمة انكيدو الذي اجتاز الباب لينتقل من اللاوعي الى الوعي الذي اطاح به وأدى به وثمة اوديب الذي رفض الانفصال عن الرحم الانثوي فقضى صريع رغبته ... تتظافر هذه الوجوه لتعكس احساسات شتى منها الانفصال الحاد عن العالم الخارجي بعتمته .. وتصوغ سوسن العريقي منذ عنونة مجموعتها (مربع الالم) -الصادرة عن وزارة الثقافة ، صنعاء 2004-قصيدة انثوية تحيل الى الامكنة المغلقة / الجدران التي تختزن في ذاكرتها تاريخ القهر الانثوي وهي تفصص مجموعتها الى اربع زوايا اتساقا مع تشكيلات الالم ، وتبدأها بإهداء لافت فحواه : (الى براكين الالم التي احرقتني / فتوهجت / حبا / وغناء / وتراتيل جنون) هي شهرزاد معاصرة تجوهرها فضاءات النحر الثقافي لتكون فينيقا انثويا ينفض عن كاهله غبار الالغاء والتهميش ليحلق مزهوا بتراتيله . سوسن تخلق نصا يمتلك ثقافة الحضور ويمارس لعبة الالغاء الاخر المعتم المتربص بحركة اناملها نحو بياض الورقة لذلك تخلق قصيدة جديدة رافضة لكل انواع التهميش تأمل مثلا ماقالته في قصيدة اخذت علامة الاستفهام عنوانا لها : تصوغني سؤالاً تشكل اجابته مسبقاً وتحصرني فيه من دون استفهام! انت امام تراجيدية انثوية وامام شهرزاد محاصرة بثقافة الالغاء لذلك فإن المخيال الشعري يستبدل علامات الترقيم بديلاً عن الكلام ليخلق منها وثاقاً يؤطر المتن الشعري ليعكس رؤاه الملتبسة ازاء مايحصل . وخلاصة القول ، فإن قصيدة النثر الشبابية والتي صاغتها اقلام مخضلة بالموهبة الفذة قد نجحت في ان تجتاز بالنص الشعري من شاطئ المكرور المستهلك صوب المدهش المتقن ويمكنك ان تلمح عبر مرايا القصائد انامل الشعراء الشباب وهي تنسج من متونها الشعرية فراديس مخضلة بالابتكار والجدة .