يقترب منها حتى توغل أنفاسه في عناق أذنها و رقبتها .. يوشك أن يعانقها .. تنبثق من شغاف قلبه كلمة (لا تتركيني) لكنها تتيبس على لسانه , و ترفض الشفتان الإفراج عنها .. تستدير إثر شعورها بأنفاسه الدافئة .. تفيض عيناها بدموع كأمطار نيسان .. تختفي من وجهها فجأة كل الملامح التي يحبها ولا يرى سوى الدموع و الأسى .. تلتقي نظراتهما , تتشابك لوهلة .. تهرب بعينيها منه , و يستدير هو متظاهرا ً بأنه ما اقترب منها إلا لأنه يريد الخروج من الغرفة حيث تقف حائلا بينه و بين الباب , و إذ تدرك مناورته تبتعد مباشرة عن الباب مبتلعة حزنا بوسعه أن يغرق الأرض , مشهرة كبريائها في وجهه .. تسربلت قدماه نحو الباب تلقائيا , و خرج و هو يصفق الباب وراءه مغلقا آخر فرصة للحوار بينهما بالباب نفسه . أتمت هذه الكلمات وأغلقت الدفتر .. كانت تنتظر عودته منذ اكثر من ساعتين ... و لسبب ما - ربما يتعلق بحاسة أنثوية تتعشق الروح الحائرة لديها أجاد هو رعايتها بأفعاله الرعناء – كانت تدرك في أعماقها انه الآن مع أخرى.. وبشكل غريزي كانت تعلم ما سيقوله أو قاله لتلك .. سيقول لها انه يحبها كما لم يحب يوما , و أنها فتاة أحلامه , وانه متزوج مع وقف التنفيذ ... سيدعي أن زوجته الفاضلة جدا لا تنتمي إلى عالم الأنثى ولا تشبه النساء , وأنها لا تحمل أنوثتها إلا في الهوية الشخصية .. سيخبرها أيضا أنها امرأة عقيم و أن انتظاره طال كثيرا لطفل يحبو في المنزل , طفل يحمل اسمه و يناديه بابا .. سيخبرها أن شهامته و رجولته جعلتاه يتحمل ذلك لاكثر من عشر سنوات دون أدنى تذمر .. وبالطبع لن يقول لها انه يقضي جل وقته خارج البيت و انه لا يدخله إلا وهي نائمة إلا إذا كان يقضي كل هذا الوقت مع تلك الأخرى . أدماها الحوار المفترض , و انبرت تخلع الثوب الأنثوي الرقيق و رمته في الخزانة مع بقية الأثواب التي اعتادت أن ترميها دون اكتراث إثر كل انتظار عقيم لحضوره , تلك الأثواب التي لامست جسدها اكثر مما لامسه هو و لو دون قصد بينما اختلس عطرُها نسمة ً أهدته إياها حركة الثوب الغاضبة ففرش جسده سحابة ً شفافة ً على أركان الغرفة .. ألقت جسدها بملل فاضح على السرير تتبادل فوق جثمانه مع أفكارها فنجان خيبة من الأمل لم يكن الأول و لا الأخير . بعد ساعات أدار هو المفتاح وولج داره .. كان تعباً لكثرة ما جال بالأزقة والطرقات وارتمى في أحضان المقاهي المرتمية على الأرصفة هربا من المنزل .. كان مرهقا تماما يتوق إلى لقاء فراشه في عناق يأخذه إلى عوالم أخرى .. عوالم سعيدة .. فجأة وقعت عيناه على جسدها الذي يفترش السرير بحرية , نظر إليها بحنان .. تناسى كل ما كانت تقذفه به من اتهامات .. و شعر بحاجة ماسة لعناقها .. عادت ذاكرته إلى بداية زواجهما .. كانت رقيقة كزهرة ياسمين .. ما الذي غيرها و قلبها بهذا الشكل ؟؟ هل يعقل أنها تخاف أن يتركها بعد أن علم أنها عقيم ؟ هل تظن أن مشاعره ستتغير إثر خبر كهذا ؟؟ و هل لأي خبر سلطان على المشاعر و الأحاسيس ؟؟ تراها تظن أن ما بينهما هو عقد أحمق على الورق فقط .. و لا تدرك أنه عقد من المحبة و الشوق و العشرة , من الحزن و الفرح , من اليأس والأمل والغضب والرضا .. عقد من المشاركة بكل أفراح الحياة و أتراحها.. عقد من عمره و من عمرها ضم اجمل حبات هذه المسبحة من العمر.. أمعن النظر إليها فوجدها تلك الفتاة الرقيقة التي كانت منذ اكثر من عقد من الزمان تحمل له بين يديها أشرطة فيروز التي يحبها , وتصر على إسماعه هذا المقطع أو ذاك , أو تصر على ارتداء ذات اللون الذي يرتديه بطفولة واضحة المعالم . شعر على حين غرة بسيل جارف من الحب ينبثق نحوها وبركان من الأحاسيس الدافئة يتدفق باتجاهها .. اتجه نحو المطبخ ليصنع فنجانين من القهوة ويوقظها , ليفتح باب الحوار الذي اغلق بينهما منذ أمد بعيد .