(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) عندما وصلت عدن أواخر عام 1954م للعمل،مررت بتجربة قاسية غابت عن ذاكرتي حتى عاد من يذكرني بها من جديد، وذلك عندما التقيت ذات يوم بأحد رفقاء صباي، وكان حظه في الحياة سيئاً للغاية، فما إن يلتحق بعمل حتى يطرد إلى الشارع لأقل هفوة يرتكبها،ثم يعود إلى عمل آخر فلا يكون حظه أفضل من سابقه حتى أصبح يقضي معظم شهور السنة مشرداً في الشوارع حتى ركبته الديون والهموم معاً، ولما ضاقت عليه الدنيا جاء من يخبره بأنه قد وجد له عملاً في أحد المحلات التجارية الكبرى، وكان صاحب ذلك المحل مليونيراً ولكنه شديد البخل، لا يدفع لعماله سوى أجر ضئيل مقابل ما يؤدونه من أعمال حتى تركه أكثر عماله وموظفيه، ولما كان صاحبنا مضطراً والمضطر يركب الصعب كما يقولون فقد قبل العمل مع ذلك المليونير، وعندما علم أنني قد اشتغلت معه فترة ما ، جاء يستفسرني عن ذلك الرجل فقلت له: اسمع ياصاحبي صحيح أنني لم أعمل معه أكثر من شهر واحد، وقد حدث هذا منذ زمن بعيد إلا أنني في هذا الشهر تعلمت منه الكثير، ورأيت لديه العجب وكان عملي معه ليس من قبيل الصدفة، ولكن أحد أقربائي وقد أراد أن يؤهلني للحياة العملية ألحقني بذلك العمل وكنت حينذاك غراً صغيراً في السادسة عشرة من عمري، قد وصلت لتوي من بلدتي “ غيل باوزير” بحضرموت بعد أن قطعت دراستي واكتفيت بالمرحلة المتوسطة التي أكملتها في المعهد الديني، ولم أستطع مواصلة دراستي العليا نظراً لظروف أسرتي المادية الصعبة، فقد كنت الوحيد في الأسرة الذي عليه أن يعولها بعد مرض والدي، ولهذا فما إن وصلت عدن حتى وضعني قريبي أمام ذلك الامتحان الصعب الذي كان عليَّ أن أؤديه والذي اجتزته في شهر واحد، وخرجت بعده إلى الحياة وقد تفتح ذهني ونضج تفكيري وعندها فاتحت قريبي بقراري في ترك ذلك العمل، وكان هذا أول قرار أتخذه بنفسي في بداية حياتي العملية وقد غضب قريبي عندما علم بقراري الذي اتخذته دون أن أستشيره فيه ، ولكنني لم أعد أعول على أحد فقد تعلمت خلال ذلك الشهر كيف أعتمد على نفسي. ولنعد لصاحب ذلك العمل، إنه شيخ طاعن في السن قد أنهكته الأمراض وسوء التغذية، حتى غدا نحيف الجسم تنخر فيه شتى الأمراض وهو القادر على أن يمتلك أجود الغذاء، وأن يعرض نفسه على أشهر الأطباء، لكن داء البخل المتحكم فيه، طغى على كل أمراضه، فلم يعد يفكر إلا بجمع الدراهم وكنزها، وركز كل اهتمامه في شراء العديد من الخزائن الحديدية لملئها بالجنيهات “أبو خيل” والريالات الفضية، فهو لا يطمئن إلى البنوك إطلاقاً، أمام كل هذا نسي أن للإنسان جسماً عليه أن يتعهده بالغذاء المفيد لا بالذهب والفضة، فلهذا تدهورت صحته، حتى أصبح يرثي له كل من يراه، وهو لا يرى نفسه إلا من خلال خزائنه تلك، وكان شرابه المفضل هو القهوة فما إن يطلع الصباح ويستوي في مقعده، حتى تدار فناجين القهوة على الحاضرين من زواره وأكثرهم من المسنين أمثاله، ويا ويل أن يرد إلى سمعه صوت ارتطام فنجان على الأرض أو حتى احتكاك فنجان بآخر هنا يصيح بصوت كالرعد: “ يا عيال باتكسروا علينا الفناجين”. أما إذا انكسر فنجان بحق وحقيق وهو نادراً ما يحدث فإن وجهه يظل طول اليوم مسوداً وكأن كارثة قد نزلت به أما إذا دخل عليه بالغلط بائع التفاح أو البرتقال وكان باله رائقاً فلا بأس من أن يمد يده المعروقة إلى صندوق التفاح ويأخذ منه تفاحة يتحسسها بيده، ويرفعها إلى أنفه يشم رائحتها ثم يرجعها إلى مكانها سالمة ويكتفي بهذا، أما إذا حدثته نفسه بامتلاكها وهذا في نظره بعض التبذير فهو يساوم البائع في السعر وعندما يعتقد البائع أنه قد أصبح على قاب قوسين أو أدنى من ذلك، إذا بصاحبنا يتراجع ويدفع للبائع سعراً أقل، فيضطر البائع إلى أخذ بضاعته لاعناً يومه الذي بدأه بذلك الوجه الكالح، وكان العمل الذي أقوم به متنوعاً وليست له صفة واحدة فأنا مراسل في المكتب وصبي في البيت ومساعد في عد أكياس الذهب والفضة التي يملآ بها خزائنه أما ما أتقاضاه مقابل ذلك العمل الذي أقوم به فهو مبلغ خمسة عشر شلناً شهرياً، ثمناً لعشائي ولفطوري، أما وجبة الغداء فأتناولها في منزله مع بقية عماله على أرضية الغرفة العارية كالمساجين. وتوقفت لحظة عن الحديث لأرى كلامي على صاحبي، فوجدته ينظر إلي وكأنه يدعوني للمزيد من الكلام فسألني قائلاً: “وماذا بعد ذلك؟”. قلت :” لم أستطع الصمود فنفدت بجلدي”. قال :” كل ما ذكرته لا يقارن بما أنا فيه من ضنك وعوز، وشيء خير من لا شيء، ثم إنني قد ضقت ذرعاً بحياتي وسأعمل ولو مع الشيطان نفسه”. قلت :” حتى بعد أن علمت من أمر هذا الشيطان ما علمت!”. قال :” أمثال هؤلاء الناس لا يصلح لهم إلا أمثالي”. قلت بعد أن رأيت تصميمه :” إذن على بركة الله”. والتحق بذلك العمل وانشغلت أنا عنه بأعمالي الكثيرة ولم أره إلا بعد حوالي أسبوعين، وكان بشوشاً مبتسماً على عكس عادته سابقاً. قلت له :” أراك مسروراً .. ما الذي جرى؟ هل مازلت تعمل معه؟”. قال:” نعم”. قلت ساخراً: “يخيل لي أن ذلك الرجل قد عمل لك مرتباً ضخماً سرك كثيراً!”. قال: “أبداً لقد قيل لي إن المرتب لايقرر إلا بعد مرور فترة اختبار”. قلت: “ولم هذا التفاؤل إذن؟”. قال: “أشعر في قرارة نفسي بأنني سأوفق في عملي هذه المرة”. قلت ضاحكاً: “إنك لن تجني من الشوك العنب”. وغاب عني فترة أخرى حتى التقيت به بعد حوالي خمسة أشهر، وما إن وقع نظري عليه حتى فاجأني قائلاً دون أن أسأله وكأنه يقرأ أفكاري: “أتدري كم قرر لي شهرياً ذلك اللعين؟”. قلت “أعرف ذلك، لن يزيد عن مائة شلن شهرياً”. قال: خمسة وسبعون شلناً فقط. قلت: لقد حذرتك من سابق ولم تتعظ. قال: “أنا وراءه والزمن طويل”. قلت ضاحكاً: “أتظن أنك سترثه؟”. قال في تصميم: “لا.. ولكنني سأؤدبه”. ومرت الشهور وكنت كلما التقيت به خلالها أسأله عن حاله فيؤكد لي صموده في العمل دون تذمر أو شكوى، وكنت أعجب منه، لا لقوة احتماله فحسب ولكنني كنت أتساءل بيني وبين نفسي قائلاً: “ترى كيف يدبر أموره بهذه الدراهم القليلة”. وعلمت فيما بعد بأنه اقترض بعض المال من أقاربه، وهو يعدهم بتسديده ولكن من أين له أن يسدد الدراهم هذا ما أثار تساؤلي وعجبي، حتى سمعت نهاية قصته مع صاحب ذلك العمل ذات يوم كنا في نهاية الشهر الأخير من السنة حيث يتم إغلاق دفاتر الحسابات وجرد المستودعات وكان التاجر يقوم باستيراد المواد الغذائية بأنواعها وبيعها بالجملة وكان صاحبنا موكلاً بالدفاتر يسجل فيها حسابات التجار الآخرين الذين يتعاملون مع صاحب العمل، فيسجل فيها مالهم وما عليهم، وكان للمليونير طريقة خاصة في المحاسبة فهو إذا سدد له أي تاجر نصف المبلغ الذي عنده وكان مثلاً عشرة آلاف شلن فإنه يكتفي بأن يقول لصاحبنا “اشطب نصف الكتبة حق فلان” وهويقصد أن يورد مبلغ خمسة آلاف شلن من حسابه، فيمتثل صاحبنا لأمر التاجر وبدلاً من أن يورد له الخمسة الآلاف شلن يأتي بمسطرة ويقيس الأسطر المدونة بالدفتر ويقسمها بالعرض إلى قسمين متساويين ثم يشطب نصف الكتبة أي الأسطر حتى لايتبين منها حرف واحد وهكذا استمر صاحبنا يشطب ويشطب تارة النصف وتارة الربع وتارة “الكتبة” كلها حتى جاءت ساعة الحساب في نهاية السنة، وطلب التاجر من صاحبنا أن يقدم كشفاً عاماً بالديون المتبقية له عند التجار فقدم له صاحبنا في تشف دفاتره وهي مشطبة من أولها حتى آخرها فلا يتبين منها ماذا له وماذا عليه، جن الرجل أو كاد، هدد وتوعد إلى أن انهار وسقط مريضاً، فقد روعه أن يرى أمواله قد ضاعت هباء، وهو الحريص على الشلن الواحد، ولم يكن من حل أمامه إلا أن يلجأ إلى أقارب صاحبنا وأخذ يتوسل إليهم أن ينقذوه من محنته بأي ثمن، وما إن وصله وفد أقاربه يستفسرون عن فعلته الشنيعة تلك حتى أخذ يشرح لهم ما بيته عن عمد لذلك البخيل وأنه مافعل ذلك إلا لاستخراج جميع حقوقه المشروعة منه، ثم أطلعهم على الدفاتر الصحيحة التي كان يسجل فيها جميع الحسابات منظمة وواضحة من غير تشطيب ثم أخذ بعد ذلك يساوم التاجر في تسليمه الدفاتر الصحيحة مقابل مبلغ من المال، وبعد مشاورات عديدة وافق المليونير على أن يدفع لصاحبنا مبلغ خمسمائة شلن عن كل شهر قضاه عنده وهكذا استرد صاحبنا كافة حقوقه، وسدد منها ديونه وحصل في سنته تلك على مالم نحصل عليه نحن في سنوات عديدة.