نص كلمة الرئيس الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    الحرب القادمة في اليمن    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    خبير اقتصادي بارز يطالب الحكومة الشرعية " بإعادة النظر في هذا القرار !    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    تحديث جديد لأسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    ماذا يجرى داخل المراكز الصيفية الحوثية الطائفية - المغلقة ؟ الممولة بالمليارات (الحلقة الأولى)    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بداية الاستقرار
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 20 - 02 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
بعد أن اتخذت قراري بالاستقالة من ذلك العمل الذي أصابني بخيبة أمل في بدء مشوار حياتي العملية، ذلك القرار الذي اتخذته من تلقاء نفسي والذي جعل الشيخ يغضب علي حيث كان الأهل والأقارب هم من يقررن مصيري وعليَّ أن أطيع دون مناقشة، بعد تلك التجربة المرة التي مررت بها التحقت بأعمال متعددة، كان أقصرها مدة عملاً قضيت به أقل من ثلاثة أشهر وكان تجربة مريرة أخرى خضتها، كان ذلك العمل بأحد صياغة وبيع الذهب بكريتر، كان العمل يبدأ من السابعة والنصف صباحاً إلى ما بعد العاشرة مساء وكان عملي فيه يقتصر على كتابة “ فواتير” البيع التي تسلم للزبائن الذين يشترون الذهب المصنع، فأظل طول الوقت محصوراً في حيز ضيق بين جدار المحل وبين الكَبت الذي تعرض عليه الحلي الذهبية المصنعة، وفي مساحة تزيد قليلاً عن شبرين واضعاً ذقني على ركبتي وعلى الميز دفتر الإيصال أسطر عليه المبيعات لأظل مصلوباً هكذا طول ساعات العمل، حتى الصلاة كنت أؤديها في الجزء الداخلي من المحل بين “ بوابير: النار وماكنات الجر وضجيج أصوات المطارق.. وكان لصاحب ذلك المحل أخ كهل متصاب ولربما أن لديه مراهقة متأخرة، هذا الكهل كانت تصدر منه أفعال غير لائقة بكل في سنه فما إن يستلم إي حلية ذهبية من إحدى النساء أساور كانت سلسلة أو حلق وما إن تخرج المرأة من المحل حتى يقوم فيدني تلك الحلية من أنفه ويشمها في شبق يستنشق ما علق بها من عطور ولربما عرق، ويظل هكذا وقتاً طويلاً حتى تفتر همته، وكان حينها يشكو مرضاً جلدياً في مكان ما بين فخذيه وما إن تأتيه نوبة المرض حتى يقوم بهرش ما بين فخذيه أمامنا وهو يغمغم “أوه لذه لذه” ويظل يهرش ويهرش حتى يسيل لعابه من بين شفتيه، ولهذا فلم أستطع أن أصبر على مثل تلك الأفعال التي يقوم بها ذلك الكهل الحيوان الذي تنفر وتتقزز منه نفسي، إلى جانب ذلك العمل الذي يصلبني كل يوم على تلك الأخشاب التي تمتلئ بالذهب والمجوهرات فانفصلت عنه بعد أقل من ثلاثة أشهر لألتحق بأحد المتاجر التي تقع بسوق الحراج خلف مسكن “سفينة نوح” ذلك المتجر كان لتاجر سوري من “آل خوام” من مدينة حلب وعندما بدأت العمل معه كان الرجل في أواخر عمره وقد نخرت جسمه الأمراض،فلهذا سافر إلى حلب ليقضي آخر حياته في مسقط رأسه وترك ابن أخيه في ذلك المتجر وكان شاباً طيب القلب هادئ الطباع ليس فيه شيء من نزق الشباب ولا تهوره، ولهذا فقد استمر عملي معه في هدوء ويسر، بل كنت أستفيد من محادثته لبعض السوريين الذين يجتمعون بذلك المتجر ليتبادلوا فيما بينهم الأحاديث السياسية والثقافية.. وكان عملي مساعداً له في عملية تصدير الجلود إلى الخارج، فقد كان له مخزن واسع بحارة “ اليهود” سابقاً تجمع فيه الجلود الجافة تكيس بآله خاصة توضع عليها العلامة الانجليزية لتصدر بعد ذلك لا أدري إلى أين ؟ فقد كنت حينها أجهل اللغة الإنجليزية، هذا في حالة تواجد الجلود في السوق أما باقي الأيام فأقضيها بالمتجر المليء بالأقمشة السورية من شيلان صوف وأقمشة حريرية وغيرها وكان الأجر الذي كنت اتقاضاه في نهاية كل شهر هو مائة وعشرون شلناً،كنت أرسل لأسرتي بحضرموت سبعين شلناً والباقي أدبر به معيشتي وهو لايكاد يكفي حتى وجباتي الغذائية الثلاث، لم يستمر هذا العمل إلا سنة وعدة شهور فقد توقفت عن العمل بذلك المتجر على إثر وفاة صاحب المتجر في حلب بعدها أصدر أهله أمراً إلى أبن أخيه بتصفية العمل بعدن والعودة إلى حلب وهكذا وجدت نفسي مرة أخرى على الشارع لأقوم بطقوسي اليومية في التردد على بعض المكتبات.
لكن بعد حوالي أسبوعين أخبرني خالي محمد بأن أحد أصدقائه وهو من شبام قد وجد لي عملاً بإحدى الشركات التي تعمل في البناء وكان مركزها بالمعلا وهكذا وأخيراً وجدت العمل الذي كان بمثابة البداية الحقيقية في استقراري نفسياً ومادياً والذي جعل لي متنفساً أطل منه على هواياتي في المطالعة والرسم، هذا العمل وإن كان يبدأ ما قبل السابعة صباحاً إلا أنه كان ينتهي في الخامسة مساء ثم إن يوم الجمعة كان يوم عطلة كاملة بعكس الأعمال الأخرى التي كنا نعمل فيها في فترة الصباح حتى موعد صلاة الجمعة، هذا العمل إلى جانب ما ذكرته من تحديد ساعات العمل فيه فقد كان مريحاً لي، كنت أعمل مشرفاً على عمال الشركة في مواقع العمل التي تنجزه تلك الشركة وكنت كثير التنقل من مكان لآخر وذلك وفقاً للعطاءات التي ترسو على الشركة في بناء المشاريع الحكومية أو لبعض التجار،وكان عملي يقتصر على وضع توقيعي ثلاث مرات يومياً على البطاقات التي يحملها العمال من وساطية ونجارين وسباكين وكولية وغيرهم والتي بموجبها تدفع لهم إدارة الحسابات أجورهم أسبوعياً، يبدأ عملي صباحاً عند مباشرة العمل فأضع أول توقيع لي ثم أضع التوقيع الثاني بعد عودتهم من تناول وجبة الغداء في الثانية بعد الظهر والتوقيع الثالث أقوم به في الخامسة بعد انتهاء فترة ساعات العمل، فمن كان يحمل التوقيعات الثلاثة تحسب له يوماً كاملاً ومن يحمل توقيعاً واحداً يحسب له نصف يوم ولهذا فإنني أظل مابين التوقيع والأخر دون عمل فكنت أقضي هذا الفراغ في قراءة بعض الكتب التي كنت أجلبها معي وكنت حينها قد تعرفت على بائع كتب قديمة كان يعرض بضاعته على رصيف الشارع الطويل بكريتر فكنت أخذ منه مايحلو لي من القصص ثم بعد قراءتها أعيدها له وذلك مقابل مبلغ زهيد من المال .. وكان أول عمل أقوم بالإشراف عليه يقع في منطقة “البنجسار” بالتواهي وعلى المرتفع الذي يقع فيه حالياً “مستشفى باصهيب العسكري” في ذلك المرتفع كانت الشركة تقوم بترميم أحد البراقات العسكرية الخاصة بالضباط والجنود الإنجليز وكان المهندس العام للشركة إيطالياً عجوزاً وكانت له طباع صعبة يثور على أتفه الأسباب ويتبع ثورته تلك بسيل من السباب البذيء وأحياناً يشد شعر رأسه الأغبر بل ويصك رأسه بالجدار إذا زاد هياجه عن حده وكان المدير المشرف على ذلك الموقع يمنياً من أم صومالية وقد نشأ بما يسمى بالصومال الإيطالي التي كانت تحتلها إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الرجل يتكلم اللغة الإيطالية وهو الذي يتلقى التعليمات بعد المهندس العام الإيطالي وينفذها وكان هو الذي يحدد نسبة “النيس” و”الإسمنت” في خلطة البناء التي ترمم بها جدران ذلك الموقع، وكان هناك مسؤول آخر بريطاني يشرف على الترميم من قبل الإدارة البريطانية فكل صباح كل يوم يختبر تلك الخلطة ليرى صلابتها فما إن ينتهي ذلك المشرف اليمني من تكوين الخلطة وما إن يبدأ العمل عملهم حتى يخرج ذلك البريطاني من مكتبه الذي يقع جوار موقعنا الذي نعمل به ويقوم بأخذ عينة من تلك الخلطة إلى مكتبه ويضعها على الميز أمامه ويتركها تجف حتى اليوم الثاني ليختبر قوتها وصلابتها وكان دائماً يشيد بتلك الخلطة المتينة وكنت أتابع عمله هذا وإشادته بجودة تلك الخلطة وأنا في اشد العجب لما يقوله ذلك المسئول من إشادة وبين ما أراه أمامي من رداءة ذلك التلبيس للجدران الذي يتساقط أمامي بمجرد أن أحكه بإحدى أظافري مما يدل على أن الخلطة التي يتم بها تلبيس الجدران ينقصها الكثير من الإسمنت وكنت أتساءل بيني وبين نفسي كيف أفسر ما يقوله ذلك الإنكليزي وما أراه واقعاً أمامي ولهذا فقد عمدت إلى مراقبة ذلك المشرف الذي يقوم بتجهيز تلك الخلطة من الإسمنت والنيس حتى ضبطته يوماً يقوم بالتالي: حينما يحضر ذلك المسؤول، الإنكليزي ويقوم بأخذ العينة من الخلطة المعدة للعمل ويضعها على مكتبه وبعد أن يغادر المكتب بعد انتهاء فترة عمله يتسلل ذلك المشرف ويفتح النافذة التي تقع خلف ذلك الميز الموضوعة عليها عينة خلطة الاسمنت فيأخذها ليضع بدلها خليطاً آخر تكون فيه نسبة الاسمنت كبيرة وهكذا اكتشفت ذلك السر الذي حيرني أياماً طويلة وكنت نظراً لبعد موقع ذلك العمل عن مدينة التواهي كنت أجلب غدائي معي من عدن والمكون من قرص خبز أو قرص روتي مع صحن من قطع اللحم الصغيرة يقال له لحم صغار وأحياناً أقوم بمجاراة بعض العمال في تسلق الجبل الشاهق المطل على مدينة التواهي لأنزل منه بعد مشقة إلى خلف المدينة وفي مكان السوق تماماً حيث أتناول وجبة الغداء بأحد المطاعم ثم أعود لأتسلق ذلك الجبل من جديد، لكنني وجدت أن ذلك الغداء الجيد الذي تناولته بالتواهي قد تلاشى بفضل ذلك الجهد والتعب الذي أقاسيه أثناء عودتي لأصل إلى موقع العمل وأنا جائع وفي حاجة إلى غداء آخر.
في هذا العام 1955م الذي كنت أعمل فيه بذلك الموقع، حدث أن وصل إلى عدن الموسيقار فريد الأطرش ليقيم بعض الحفلات الغنائية لحساب رجل الأعمال حينذاك حسين خذا بخش، أيامها عاشت عدن أياماً حافلة متمتعة بالفن المصري الأصيل وكان فريد الأطرش محل حفاوة من كل أفراد الشعب اليمني يلتف حوله في كل مكان يتجه إليه ويتلقونه بالحب والترحاب بالحب لفنه الجميل الذي تعودوا على سماعه من أفلام السينما ومن الاسطوانات ومن الراديو وبالتقدير لمصر ولقائدها الزعيم جمال عبدالناصر الذي أيقظ بثورته التي قادها ضد الملك فاروق كل الشعوب العربية والأفريقية.
وفي بداية عام 1956م وبعد انتهاء العمل بذلك الموقع انتقلنا إلى بناء مشروع آخر يقع بالمعلا وأمام ما يسمى سابقاً “دكة الكباش” حيث كانت ترسو عليه السواعي التي تحمل الأغنام من الصومال، أمام هذه الدكة وعلى الطريق المؤدي إلى خور مكسر والشيخ عثمان أخذ المهندسون يخططون على الأرض أساس ذلك المشروع الذي كان عبارة عن مخازن واسعة تمتد حتى الجبل وبما أن المشروع يبدأ من الصفر فلقد لقيت مشقة كبيرة أول الأمر إذ لا موقع يقيناً من حر الشمس ولا مكان يؤوينا فقد كنا نعمل في العراء على عكس العمل في المشروع السابق الذي كان الموقع مبنياً جاهزاً له سقف وأبواب هذا في حين كان العمال يؤدون عملهم في تلك الظروف دون تأفف ولعلهم قد تعودوا على ذلك، لكنني بعد أيام تعرفت على حارس ذلك المشروع الذي عمل له مكاناً ظليلاً بين أكياس الأسمنت وليحان الخشب يأوي إليه بالنهار والليل، في ذلك المكان وبجانب ذلك الحارس وهو شيخ كبير السن بدت على يديه وقدميه آثار حروق كبيرة أقضي أوقات فراغي إما أقرأ وأنا أتمتع بالشاي الذي يعمله ذلك الحارس أو استمع إلى حديثه الممتع وهو يحدثني عن أسفاره العديدة التي قضاها في فترة شبابه على البواخر الغربية متنقلاً من بلد لآخر.. أما تلك الحروق التي بدت على يديه وقدميه فهي من آثار عمله الذي كان يؤديه بعد أن عاد إلى قريته بإحدى قرى الريف اليمني شمال اليمن بعد عودته من بلاد الغربة والذي يتمثل في تعبئة “خراطيش” الرصاص بالبارود الذي تسبب في ذلك الحريق الذي أصابه.
استمر العمل بذلك الموقع حتى تم إقامة الجدران والأعمدة الخرسانية التي أرى العمل فيها لأول مرة ولما حان موعد بناء السقف بالأسمنت المسلح ودعت الحاجة إلى المزيد من العمال الأشداء لنقل خلطة الأسمنت والكري إلى أعلى المبنى استقدم صاحب العمل عدداً من العمال من حضرموت وكان معظمهم ينحدرون من أصول أفريقية متعددة جلبهم السلطان القعيطي كجنود وخدم في قصره، هؤلاء الرجال كانوا يتسمون بالقوة والجلد ويتحملون المشاق وسط الأجواء الحارة إلى جانب أنهم يتقاضون أجوراً زهيدة بالنسبة للعمال المحليين وقد بنى لهم صاحب ذلك العمل سرادق خشبية في خور مكسر ليسكنوا فيها وكان ليلة الخميس من كل أسبوع يوم استلام أجورهم يعتبر عيداً لهم فيقيمون في سرادقهم تلك عشاء يتكون من الأرز والسمك ويقال لهذه الطبخة في حضرموت “صيادية” وكانوا يدعون الكثير من إدارة الشركة إليه وكنت واحداً منهم، بعد ذلك العشاء يقيمون خارج السرادق بعض الألعاب الشعبية الحضرمية “كالشبواني” “والعدة” وغيرها، في مثل هذا الجو إلى جانب الأجر الشهري الذي كنت أتقاضاه والذي يعتبر ضعف ما كنت أستلمه من صاحب المتجر السوري بدأت أحس بالاستقرار والسعادة ، فأخذت أعتني بهندامي، فمع حلول عيد الفطر فصلت لي بدلة كاملة “جاكيت وبنطلون” واشتريت ساعة يد كثيراً ما كنت أحلم بها.
وأذكر أن أهم الحوادث السياسية والوطنية التي حدثت وأنا أعمل بذلك الموقع عام 1956م هو العدوان الثلاثي على مصر، كانت عدن أيامها تغلي بالمسيرات فقد كانت المظاهرات العمالية تجوب شوارع عدن منددة بذلك العدوان ومؤيدة للزعيم جمال عبدالناصر..
أذكر يومها أننا كنا قد بدأنا العمل حينما ترامى إلى أسماعنا صوت طلقات الرصاص الذي أخذ يطلقه الجنود الإنجليز على المتظاهرين،وفي اليوم الثاني دعت النقابات إلى إضراب عام، حينها أوقفنا العمل وشاركنا في الإضراب امتثالاً لمطالب النقابات التي كانت متحدة في موقف واحد، وأذكر أنني بعد هذا الحادث بسنتين صرت عضواً بنقابة عمال الدكاكين وكنت حينها أعمل بأحد المتاجر بكريتر.
استمر عملي بذلك العمل حتى منتصف عام 1957م عندما دعيت ذات يوم إلى مكتب الإدارة بالمعلا، لم يكن حينها بالمكتب إلا مسئول الحسابات وزميله مسئول الخزينة، بدأ الأول حديثه ليقول لي: بأنه يعرف أن راتبي الشهري قليل جداً، وأن بإمكاني أن أحصل على أضعاف ما أستلمه لو تعاونت معهم، لم أدر عما يتحدث لكنه عاد ليقول لي بعد أن رأى حيرتي وصمتي بأن الأمر في غاية البساطة وهو أنهم سوف يسلمون لي في مطلع كل أسبوع عدداً من البطاقات تحمل أسماء وهمية من عمال البناء وعليّ أن أوقع عليها وكأنهم يعملون في الشركة وفي نهاية الأسبوع وعندما يستلم العمال أجورهم سوف يصرفون من الخزينة مقابل تلك البطاقات الوهمية وسوف يوزعونها فيما بيننا الثلاثة، صدمت وألجمت لساني وأنا أرى أول عمليه نصب في حياتي تعرض عليّ َ وعليَّ أن أساهم فيها، بل إن تلك العملية بكاملها لن تتم إلا بموافقتي وكان عليَّ حينها أن أتخذ قراراً “سريعاً” إما أن أنخرط في تلك العملية وأشاركهم في ذلك النصب الذي تأباه نفسي ويرفضه عقلي، وتزدريه أخلاقي التي تربيت عليها، كما يرفضه ديني الذي غرست أحكامه في عقلي منذ الصغر وتشربت به روحي أو أرفض التعاون معهم وعندها ستكون القطيعة بيني وبينهم وبالتالي خروجي من ذلك العمل الذي بدأت أحس معه بالاستقرار، وكان الاختيار الأخير هو الذي اتخذته ويومها قدمت استقالتي من ذلك العمل وسافرت إلى أهلي بغيل باوزير للزيارة وكان ذلك في نفس الشهر الذي وصلت فيه عدن قبل ثلاث سنوات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.