ثمة أقوال لا يمكنها أن تمر على المسامع كما تمر سائر الأحاديث والحكايات الأخرى التي نسمعها كل يوم نظراً لما تحمله هذه الأقوال في طياتها من معانٍ ودلالات وبما تلامسه في نفس السامع الذي قد لا يتوقع أن تأتي هذه الأقوال بدلالاتها من شخص بظروف القائل لها. حدث معي هذا عندما توقفت أمام أحد الباعة المتجولين، أحسب أن سنه أقل من الخمسين عاماً غير أن ظروف المعيشة التي يمر بها جعلته يبدو أكبر من ذلك بكثير، إلا أنه بالرغم من ظروفه هذه التي نتحدث عنها ورأيناها واضحة جلية في ملبسه وعينيه لم يكن بأي حال من الأحوال بعيداًَ عما يشغل العالم اليوم من عدوان إسرائيلي وحشي على لبنان، وعلى فلسطين في كل الأيام. ما لفت انتباهي في أقواله أنه سألني في سياق حديثى معه بلغة يعتصرها الألم الحاد قائلاًَ: هل اكتمل البيع؟! استفسرته عن قصده باكتمال البيع.. فأجابني: بيع لبنان..؟! قلت له: كيف؟ قال: هذا زمن البيع ياصاحبي.. بالأمس باعوا فلسطين وبعدها باعوا العراق واليوم وصلوا إلى لبنان والله يستر على البقية. لم أسأله من البائع، لكنني أدركت ما يريد تحديداً فتركته ومضيت غير أن أقواله لم تتركني بعد وما أظنها ستفعل ذلك عما قريب. إنه البيع إذاً.. هذه هي الحقيقة شاء من شاء وأبى من أبى، غير أن البيع المقصود ليس بيع التفاح الذي يمارسه البائع المتجول كمهنة شريفة يقتات منها لقمة العيش الحلال كل يوم ثم يذهب إلى فراشه فينام ملء جفونه عن شواردها، لأنه لم يبع سوى الحلال في وضح النهار تحت سياط أشعة الشمس في صيف تموز، أما البيع الذي يتحدث عنه متعلق بالأخلاق أولاً وأخيراً ولا أختلف معه وأرجو ممن يختلف مع هذا الطرح أن يحترم رأي بائع التفاح الذي لا يبيع أهلاً ولا أوطاناً ولا ينوي فعل شيء من ذلك ربما يفكر بالبحث عن فاكهة أخرى بعد انتهاء موسم التفاح ليمارس مهنته الشريفة جداً ويعيش ما تبقى له من أيامه في هذه الحياة. لم تكن مهنة البيع غير الشريفة التي يقصدها بائع التفاح غائبة على مر التاريخ الذي شهد صفقات بيع من هذا القبيل كان المباع فيها الإنسان أو الأوطان، لكن هذه التجارة البشعة ازدهرت في عصر النفط وتزايد عدد الباعة ولم تعد نادرة كما كانت في العصور الأولى نتيجة الحضور القوي للقيم والأخلاق والمبادئ التي يأتي في مقدمتها الوفاء والإخلاص وقوة الانتماء، ومع انتشار سلوك البيع المشين على هذا النحو الذي نراه ونسمع عنه حدث ما حدث وما سوف يحدث طالما لم يجد الباعة سوى أوطانهم أو إخوانهم أو أوطان إخوانهم ليتجاروا بها، غير أنه ما لم ينتبه الجميع فإن الجميع سيدفعون الثمن الباهظ بما فيهم الباعة، ويؤسفنا القول إن سلوك البيع والخيانة والغدر والخذلان قد صار شيمة عربية تتربع على مساحة الوفاء والإخلاص والولاء الصادق، ولم يبقَ سوى القليل القليل ليذكرنا بالوفاء ويحثنا على استرداد ما ضاع منا في أسواق النخاسة التي يباع فيها ما لا يباع وما لا ينبغي أن يباع!!