الفقر والبطالة والخوف ثلاثي مرعب يهدد كيان المجتمع اليمني، فخلال السنوات المنصرمة تزايدت أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل وكذا حوادث القتل والعنف والفوضى والانفلات الأمني في مناطق كثيرة بطول وعرض محافظات الجمهورية. فإذا توقفنا عند القفر سنجد أنه الطامة الكبرى التي أثقلت كاهل المواطن وأصابته بمقتل، حيث وأصبح غالبية السكان يعيشون تحت مستوى خط الفقر أما البطالة فظلت كابوساً يعيق طموحات وتطلعات الشباب وصارت الفوضى والمحسوبية والوساطة والرشوة وفساد الإدارات هي العوامل الرئيسية التي أخرجت الناس إلى الشارع اليوم، أسر لا يوجد لديها أي مصدر دخل على الإطلاق وأسر تعاني من الحرمان ويتمنى أفرادها أن يتذوقوا طعم اللحم ولو مرة في الشهر، حيث لا يتمكنون من تذوق اللحم سوى في الأعياد وبعضهم يعجز حتى عن شراء أضحية العيد. "أخبار اليوم" قامت بجولة استطلاعية التقت خلالها شباب واجهوا قسوة الحياة والظروف المعيشية الصعبة بقوة الإرادة والصبر والعزيمة التي لا تلين.. شباباً مجهولين رفضوا الاستسلام لقسوة الظروف وتحدوا المستحيل بممارسة العمل في بعض المهن البسيطة، كباعة متجولين يعيلون أسراً كبيرة من الرزق الحلال، متحملين الصعاب والمشاق الكثيرة في سبيل الحصول على لقمة كريمة لهم ولمن يعولونهم.. فإلى الحصيلة: لا أملك سوى كرتون أعيل به أسرتي. لو كانت الأرزاق تأتي بقوة ما أكل العصفور شيئاً مع النسر.. هكذا قالها المواطن/ علي ناصر حسن، أحد الباعة الذي يعمل بائعاً متجولاً في شوارع مدينة لودر، يقابلك بابتسامة وصدر رحب وهو يتنقل من مكان إلى آخر وتراه يحمل كرتوناً صغيراً يحوي كل بضاعته من عطور وبخور ومساحيق وغيرها.. سألناه كيف السوق؟ وهل يكفي ما تربحه كل يوم لتغطية نفقات أسرتك فرد والابتسامة تشرق من وجهه "الحمدلله على كل حال، ((ورزقكم في السماء وما توعدون))، أمارس عملي خلال ساعات النهار على فترتين من الساعة 7 صباحاً وحتى 12 ظهراً، ثم من الساعة 3 عصراً وحتى الساعة 6 مساء، أمارس هذه المهنة التي أعيل بها مصاريف أسرة كاملة مكونة من 6 بنات، حيث لم أتمكن من الحصول على وظيفة لمجابهة ظروف المعيشة الصعبة فاضطررت لبيع البخور والعطور في هذا الكرتون الصغير والعمل ليس عيباً ولكن العيب أن يقوم الشخص بأعمال السرقة ونهب أموال الناس بالباطل وأنا ولله الحمد مقتنع بما كتبه الله لي من الرزق الحلال وإن كان ريالاً واحداً، فالقناعة كنز لا يفنى ولا أتضجر إذا لم أربح شيئاً أو انخفض دخلي اليومي المعتاد، لأني مؤمن إيماناً عميقاً بأنه رزقي المكتوب في اللوح المحفوظ. وأضاف: بالنسبة لدخلي في المبيعات يومياً أربح يوم ألف ريال ويوم ألفين ريال ويوم خمسمائة ريال ويوم ما فيش وأقول الحمدلله، رغم أن دخلي اليومي بالكاد أستطيع به توفير احتياجات أسرتي الضرورية من مصاريف وغيرها من التزامات الأخرى. عصارة ليم تعيل أسرة مكونة من عشرة أفراد: الأخ/ محمد علي الوصابي من أبناء محافظة تعز يسكن هو وأسرته في منزل بالإيحار في مدينة لودر خنفر منذ عدة سنوات قال: (الحمدلله أنا لست موظفاً ولا أملك في هذه الدنيا الفانية سوى هذا الجاري المتحرك وخلاطة وحيدة لعصير الليم وهو مصدر دخلي الوحيد الذي أعول به أسرة مكونة من 12 فرداً وصدقني ما فيش فائدة أن يعذب الإنسان نفسه ويتحسر على أي حاجة في هذه الدنيا، يؤمن بالمكتوب واللي له رزق با يجيبه ربنا "الرزق على الله" "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"، ما حد يموت من الجوع نحن حالنا هكذا ونقول الحمدلله وفي ناس معهم مليارات ومئات الملايين وهم يقولون هل مزيد ونحن نقول الله يفتح عليهم.. وأضاف: استيقظ بعد صلاة الصبح كل يوم وأعد ما تيسر من الليم الحالي والسكر والمياه وأتجول لبيع العصير في الشارع الرئيسي من الصبح وحتى الساعة 11 صباحاً، ثم أتجه إلى البوابة الرئيسية لسوق القات كي أبيع عصائر الليم الحالي هناك والحمدلله أوفر مصاريف أسرتي وكافة احتياجاتها من هذا الدخل اليومي، علاوة على تسديد إيجار المنزل وغيرها من الاحتياجات، أهم شيء القناعة والرضى بما كتب الله للإنسان من الرزق ويقول الواحد "الحمدلله" ((وأما بنعمة ربك فحدث)). وتابع: بالنسبة للربح يوم لك ويوم عليك والقات ليس من الضروريات وأهم ما في الأمر مصاريف الأسرة واحتياجاتها ويكون الدخل أفضل في أوقات الصيف لحاجة الناس إلى العصائر والمياه والسوائل ولجأت الربيع العصائر، لأني لم أجد وظيفة بعد أن أصبح التوظيف أكثر صعوبة. وقررت ممارسة هذه المهنة كمصدر للعيش بدلاً من الاعتماد على الغير ولكي اقتات أنا وأسرتي من الحلال وأما الحرام فيذهب. أما الأخ/ محمد عبدالله علي محمد الراشدي شاب في مقتبل العمر من مديرية العدين محافظة إب قال: عملت بائعاً متجولاً لمدة سنتين في شوارع مدينة صنعاء، ثم انتقلت إلى مديرية لودر وعملت في بيع الخردوات، أي لعب الأطفال كما نسميها وسجائر وأحزمة منذ 3 سنوات وصدقني أنني أعيل أسرة كاملة من هذا العمل منذ 4 سنوات وعدد أفراد الأسرة 8 أفراد وجميعهم أصغر مني وأنا العائل الوحيد لهذه الأسرة ولو وجدت أي عمل مع الدولة ولو عسكري فلن أتردد في ترك هذه المهنة ولكنها الحياة كفاح وصبر والعمل ملح الحياة وإن كان فيه مشقة. أكافح الفقر ببيع البقل والجرجير الشاب/ صالح طالب خميس 22 عاماً ثانوية عامة مثال للشباب المكافح بحكم انتمائه لأسرة فقيرة تتكون من عشرة أفراد يعتبر العائل الوحيد لها، التقيناه في مفرش لبيع الكوس "البامية" والبقل والجرجير بسوق الخضار والفواكه في مدينة لودر وتحدث قائلاً: " لم أستطع الحصول على عمل فاضطررت لبيع البقل والجرجير، لكي أوفر مصاريف أسرتي في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية وأرى أن هذا العمل ليس عيباً، بل إنه شرف لي بدلاً من الاستجداء بالآخرين أو طلب المساعدة من أحد. وأضاف: أتمنى أن تتحسن الظروف الاقتصادية، حيث أن مبيعاتنا قد انخفضت بشكل كبير وهذا ناتج عن انخفاض مستوى الدخل للمواطنين وإلى ارتفاع الأسعار، ليس الخضار والفواكه وحدها، بل أيضاً المواد الغذائية والاستهلاكية، مما أدى إلى ركود الإقبال على الأسواق المهم أننا نتوكل على بركة الله مع ساعات الصباح الباكر ونذهب إلى سوق الخضار لنكسب رزقنا الذي كتبه الله لنا من الحلال لنغطي نفقات أسرنا في ظل الظروف القاسية التي يعاني منها السواد الأعظم من أبناء الشعب. وتابع: أقول لكل الشباب إن العمل ليس عيباً وبعض الناس ينظر إلى العمل نظرة ضيقة ومن طلب الله لقيه، كبار التجار الذين أصبحوا مليونيرات، بعضهم بدأ ببيع الشاي والخمير أو الخضار والفواكه ويجب ألا يتسرب اليأس إلى قلوب الشباب إذا لم يجدوا فرصة عمل في المرافق الحكومية التابعة للدولة، "فمن طلب الله وجده" كما كان يردد هذا المثل أجدادنا الذين عانوا الكثير من أجل الحصول على لقمة العيش وأقول للشباب الحياة كفاح ولا يأس مع الحياة. ونأمل من الدولة اتخاذ إجراءات عملية ملموسة من شأنها تحسين المستوى المعيشي للشعب ومحاربة الفساد والفقر والرشوة والمحسوبية وتوفير فرض عمل للشباب الخريجين. جيوش جرارة بدون شهادات الأخ/ نبيل قاسم سعيد "أبوجسار" من مواليد عام 1973 بمدينة الشيخ عثمان م/ عدن يعمل في تخيط الأحذية، يجسد مثلاً رائعاً للرجل المكافح الذي شاء القدر أن يحرمه من مواصلة التعليم، ليسعى لتوفير لأسرته ما يحصل عليه من المال الحلال وإن عمل في "خياطة الأحذية". تحدث نبيل قائلاً: "أولاً أشكر صحيفتكم التي تتناول المواضيع ذات الأهمية والتي غالباً ما يغض الطرف عن تناولها من قبل الإعلام بشكل عام، دائماً يكثر الحديث عن بطالة الخريجين من الجامعات والمعاهد وحرمانهم من التوظيف وهذا شيء إيجابي، لكن بالمقابل هناك جيوش جرارة من العاطلين عن العمل من غير الخريجين الذي قست عليهم ظروف الحياة وأجبرتهم على ترك التعليم، ألا يستحق هؤلاء الوظيفة العامة ولو حتى في السلك العسكري أو المرافق المدنية الأخرى؟ وأضاف: هناك نماذج كثيرة في المجتمع تستحق الاهتمام.. هذه النماذج حرمت من التعليم لأسباب الفقر والعوز وظروف الحياة المعيشية القاسية ولم تخرج هذه النماذج لتتسكع على الأرصفة أو البلطجة أو نهب وسرقة أموال وممتلكات الآخرين، بل خرجت هذه الفئة إلى الشارع لتعمل في المهن المختلفة، فالأفضل للإنسان أن يعمل حمالاً أو حلاقاً أو على عربة جاري أو أي عمل شريف آخر من أن يعمل نصاباً أو محتالاً وغيرها. وتابع: أنا أعمل في "خياطة الأحذية" وأنظر إلى أن هذا العمل ليس فيه أي عيب، المهم أن آكل وأسرتي من عرقي حلال حلال ورغم أنني أجيد مهنتي "البناء وميكانيك سيارات إلا أنني حرمت من ممارسة هاتين المهنتين في المؤسسات والشركات. وختاماً أوجه نصيحتي للشباب بحكم معاناتي وحرماني من التعليم ومن رغد العيش والرفاهية وأقول لهم: " ابتعدوا أيها الشباب عن تناول القات فإنه مهلكة يبدد المال ويضيع الوقت وأنصحكم بمواصلة التعليم حتى الجامعة والتغلب على الظروف مهما كانت وأن يبحث الواحد عن العمل الحلال والمال الحلال وألا يلجأ الإنسان إلى الحصول على المال الحرام، فأنتم عماد المستقبل وبناة المجتمعات والأوطان". الخلاصة": وخلاصة الاستطلاع هناك الكثير من الحالات المشابهة لهذه النماذج المختارة في هذا الاستطلاع، هناك من ينحت في الصخر ويعمل أعمالاً شاقة من أجل الحصول على الكسب الحلال وتوفير العيش الكريم لأسرته وهناك معاقون تحدوا الإعاقات الجسدية وعملوا أعمالاً نادرة وبمهارات فريدة لم يستطع حتى المتعلمون أن يجيدوها. ويبقى أن نتساءل أين دور الجمعيات والمنظمات الخيرية والإنسانية من محاربة الفقر ودعم أمثال هؤلاء الذين يعيلون أسراً كبيرة ويتجرعون الأمرين في ممارسة أعمال تدر الدخل البسيط لأسرهم مقاومين ظروف الحياة الصعبة؟.. فالفقر أصبح العامل الرئيسي الذي يهدد كيان الأسرة اليمنية ولا بد للمنظمات الداعمة ومراكز الأسر المنتجة ووزارة الشؤون الاجتماعية ورجال البر والخير والإحسان استهداف مثل هذه الفئات وغيرها ومساعدتهم في التغلب على الفقر ومحاربة آثاره المختلفة على المجتمع ككل.