"الباعة المتجولون" ظاهرة حقيقية وواقع ماثل أمام العيان، فبعد أن كانوا مجاميع صغيرة من أصحاب البسطات والباعة الدوارين تلاحقهم الجهات والدوائر المعنية، أصبحوا يتكدسون إلى جانب أسوار الهيئات والمؤسسات الحكومية، ويتوزعون بشكل مجموعات كبيرة متخصصة في البيع، فهذه مجموعة تخصصت في بيع ملابس الأطفال، وتلك في بيع العطور وأدوات التجميل، وأخرى في بيع الخضار والفواكه، وصولاً إلى المشروبات والأكلات السريعة. وسط هذا كله فإن طريقة تعاطي الجهات الرسمية المعنية معها أثبتت هذه الأيام نجاحات ملموسة على أرض الواقع، حيث تتواصل هذه الأيام حملة النظافة وتحسين العاصمة وإزالة الأسواق العشوائية من الشوارع الرئيسية والأرصفة ومداخل الأسواق المركزية والمرافق العامة والمعالم التاريخية بالعاصمة صنعاء. هذه الحملة التي ينفذها 12 فريق عمل مزودين بكافة الإمكانات البشرية والمادية، كما أعطيت لهم الصلاحيات المخولة لهم طبقاً للقانون، تعكس التوجه الجاد لإزالة كل المخالفات التي تشوه المظهر الجمالي للعاصمة صنعاء على اعتبار النظافة والتحسين ضرورة حتمية تعكس السلوك الحضاري الذي ينبغي أن يتمتع به المجتمع اليمني. رأي الاقتصاد الباحث الاقتصادي نبيل سلامة يؤكد أن هذه الظاهرة الاقتصادية تنطوي على مخاطر سلبية تلامس جوانب عدة سواء على المجتمع ككل أو المستهلك بشكل خاص. ويحدد الباحث سلامة عدداً من المخاطر والسلبيات للباعة المتجولين والتي تتمثل في تهديد أمن الناس من خلال تجوالهم في المناطق السكنية ودخولهم إلى المنازل، ناهيك عن رداءة البضاعة التي يبيعونها، وتجمهر الناس حولهم وما يعكسونه من مظهر غير حضاري وما يسببونه من ازدحام للمارة والسيارات. ويوضح: هؤلاء الباعة المتجولون يعرضون بضائعهم في ظروف تطرح أكثر من علامة استفهام حول جودتها وصلاحيتها، حيث ينتشر الغبار والأدخنة الناتجة عن عوادم السيارات بالإضافة إلى أشعة الشمس الحارقة طيلة ساعات اليوم. ويضيف: كما أن هؤلاء الباعة المتجولين يخلفون وراءهم بقايا المواد التي يتاجرون فيها خاصة بالنسبة لبائعي الخضار والفواكه، حيث يعاني السكان والمارة من الأزبال المتراكمة والروائح الكريهة، ناهيك عن عرقلة السير التي يسببونها، حيث يصعب مرور السيارات والراجلين على حد سواء، بل إن بعضهم لا يكتفي باحتلال الأرصفة فقط بل يمتدون إلى السيطرة على وسط الطريق. ويعرف الباحث الاقتصادي الباعة المتجولين بأنهم "أشخاص يقومون ببيع بضاعتهم بطريقة عشوائية غير مستقرة، في موقع أو منطقة غير محددة مخالفين النظم والقوانين، أما هويتهم القانونية فليست لديهم بطائق مهنية أو تراخيص لممارسة البيع وهم مخالفون لنظم العمل وقوانينه". وقال: هذا الوضع يهيئ الفرص لارتكاب جرائم النشل والسرقة وجرائم أخرى، وأكثرها ألماً يتمثل في الطلاب الذين يتخلون عن دراستهم أو يهربون من مدارسهم لمزاولة البيع بطريقة البائع المتجول. ويؤكد الباحث الاقتصادي أنه لايمكن التغلب عليها بسهولة خصوصاً أن الظاهرة تأخذ شكلاً متفاقماً في المناسبات كالأعياد الدينية أو الوطنية أو عند مداخل المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، كما تبرز بشكل كبير في عدد من الشوارع والأرصفة.. مشدداً على أنه يتوجب على الجهات المعنية كمديريات الأمانة ومكاتب ومناطق الأشغال العامة أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الشريحة التي أخذ يتفاقم عددها ويتزايد، ويجب أن تخصص لهم أسواق معينة ليمارسوا تجارتهم تلك، ولكن وفق قوانين ومعايير مهنية معينة. البطالة أبرز الأسباب ربيع جميل أحد الباعة المتجولين الذي أخذ من الرصيف مساحة له, رافضاً تحمل تكاليف إيجار محل افترش الأرض عارضاً شامبوات ومعطرات ومعجون الحلاقة وبعض الأدوات المستعملة مع بعض الأعداد القديمة من مجلات عربية متخصصة. قال: معظم بضاعتي هذه مستعملة، وأشتريها بأسعار زهيدة وربحي في أية حاجة من المعروضات بسيط جداً لأنني أعتمد المبدأ الذي يقول "بيع كثير واربح قليل"، ومع ذلك أنا مرتاح لهذه المهنة لأنها تجارة مربحة وشريفة. ويضيف: في بعض الأحيان نخسر ماربحناه خلال شهور أو سنة عندما تداهمنا البلدية.. لاندري أية جهة نقصد للفرار ببضاعتنا ومن لم يستطع الهروب يدخل السجن ولا يتم إخراجه إلا بغرامه مالية. ويكشف أحدهم بالقول: جئنا من مناطق ريفية بعيدة بحثاً عن الرزق، معلقين آمالاً كبيرة في أن نجد العمل في العاصمة، إلا أن آمالنا ذهبت أدراج الرياح، فكان لابد لهم من البحث عن أي شيء يمكن أن ينتشلنا من البطالة والضياع فعزمنا ممارسة هذه المهنة (بائع متجول). الباعة المتجولون أكدوا في حديثهم ل"الجمهورية" أن انتشار البطالة وعدم توفر العمل، فضلاً عن ظروفهم المعيشية الصعبة تمثل أبرز الأسباب التي تقف وراء تدافعهم إلى ممارستهم البيع المتجول. حسن علي سعيد (خريج كلية التجارة والاقتصاد) ويعمل بائعاً متجولاً حيث يعرض على بسطته أنواعاً من المعلبات المستوردة التي منها ما قد نفدت صلاحيته أو أنه قارب على انتهائها، وعلى الرغم من تفاوت تاريخ صنعها، إلا أنه يؤكد تحقيق أرباح منها لأن "الطلب عليها متزايد نتيجة انخفاض أسعارها قياساً بأسعار السوق المحلي". ويضيف: يمكن أن أتخلى عن هذه المهنة بمجرد الحصول على وظيفة لأني عاطل عن العمل وأنا أعول أسرة مكونة من سبعة أفراد. أما زميله حيدر فيعلل عمله كبائع متجول في أمانة العاصمة لوجود كثافة سكانية فيها وأن أصحاب البضائع المتنقلة بالعربيات يحققون أرباحاً كبيرة، حسب تعبيره. وكلاء التجارة المعتمدون توفيق يحيى الأشول أحد الوكلاء المعتمدين لشركات بيع الأجهزة الكهربائية يقول: الانتشار المقلق لظاهرة الباعة المتجولين أضرّ بسمعة الشركات الأصلية وسمعتها العالمية كماركة تجارية لاسيما أن البضاعة التي يروجونها هي في الأغلب مقلدة رخيصة الثمن لعلامات عالمية ذات جودة عالية مما يؤثر سلباً في حركة تجارة السلع الأصلية في اليمن التي تسعى بخطى حثيثة وجادة لاعتماد الجودة مقياساً أساسياً للاحتكام في التعامل الاقتصادي والخدماتي. ويضيف الأشول: نشاط الباعة المتجولين غير المشروع لا يتوقف تأثيره فقط على الوكلاء المعتمدين وإنما يطال سمعة البلاد التي تخسر الكثير من حقوقها المحصلة من تقديم الخدمات والتسهيلات للراغبين بمزاولة الأنشطة الاقتصادية.. ويؤكد أن معظم البضاعة المقلدة تدخل البلد عن طريق التهريب، وإن القضاء على هذه الظاهرة يتطلب تشديد الإجراءات على نشاط الباعة المتجولين، والتنسيق بين الجهات ذات الصلة في البلدية ووزارة الصناعة والتجارة والجمارك والشرطة. هذا ورغم السلبيات التي تنعكس جراء أداء الباعة المتجولين خاصة في العاصمة والمدن الرئيسية وعلى السكان إلا أن ثمة جهواً لجهات رسمية تستهدف إزاحة مثل هذه المظاهر التي أخذت تتنامى من حين لآخر، تتمثل هذه الجهود بإزاحتهم من الأماكن العامة، وتحديد أماكن بديلة لهم، تمكنهم من مزاولة مهنتهم دون تنغيص أو ملاحقة يؤثر على لقمة العيش التي يبحثون عنها لهم ومن يعولونهم..!