كانت الدقائق الأخيرة التي تفصله عن اللقاء بها تشبه الدهر!. فهي المرة الأولى التي يشعر بأن الزمن يمكن أن يتوقف!... وبأن عقارب كل الساعات التي ألفها يمكن أن تخذله!. وتساءل وهو ينظر من خلال نافذته إلى الحديقة، كيف يمكن أن تكون بعد هذه السنين الطويلة؟. وهل سيتعرف عليها وتتعرف عليه؟. وهل عليه أن يخاطبها كما فعل على الهاتف باللغة الفصحى -بعد أن أحرجته باستخدامها- وكأنه غريب قادم من وطن آخر وحضارة أخرى وثقافة أخرى؟. هل نسيت يا ترى بأنه قادم من الأحياء القديمة من مدينته وبأنه مشبع بثقافتها وعاداتها وتقاليدها حتى العظم؟... وكيف عليه أن يقابلها ويستقبلها؟... هل يجري باتجاهها كالعاشق المتيم المشتاق؟...أم يحافظ على هدوئه وكياسته ويحترم عمره ومركزه الاجتماعي الذي يتبوأه وينتظرها في الداخل حيث هو؟. وعندما أطلت هابطة من سيارة الأجرة لتعبر البوابة الرئيسية متجهة نحوه -وهي تقفز في مشيتها كما عرفها منذ ستة وعشرين عاما- انتابه شعور عارم بالخجل والتردد أعاده فجأة إلى الخلف وكما كان -بنفس اللحظة التي افترق عنها- مراهقا وخجولا!؟. واندفاعها نحوه محيية مقبلة على الوجنتين وهي تضمه فرحة، أسقط عنه بعضاً من الحرج وقلة الحيلة التي وجد نفسه فيها... وشجعه على مقابلتها بالمثل مرحباً وهو يضمها إليه بشجاعة لم يكن يتصور بأنه يتمتع بها!. خاصة مع الفتاة (المرأة) التي استولت على عقله وقلبه وجعلته رهينتها حتى اللحظة!؟. وتساءل وهي تدفن رأسها الصغير في صدره عن السبب الذي دفعها لأن تتحاشى حتى النظر في عينيه؟. هل قرأت بهما حيرته وتساؤله وعتابه؟. هل شعرت بفداحة خطأها باختيار طريق آخر ورفيق آخر وحياة أخرى بعيدا عنه؟. أم أنها وبالتصاقها به تحاول أن تختفي كالهلام عن ناظريه... ولتبدو وكأنها ذابت في محيطها وأصبحت جزءاً منه ومن أثاثه!؟. فلا يلحظ جهدها الواضح في الوصول إليه رغم احتذائها كعبها العالي... ولا النمش المنتشر على كتفيها حتى اختفاء شامته المحببة... ولا الشحوم التي استولت على خاصرتها النحيلة... ولا شعرها المصبوغ وقد تكشف عن مساحات فارغة بين جذوره بعد أن كان كثا ومثيرا... ولا خطوط الزمن الغائرة في رقبتها وجبهتها ووجنتيها والتي تشهد لها رحلتها في أتون العمر المغبر بكل أنواع المغامرة الفرحة منها أو الحزينة؟. كانت خلالها لشخص آخر وعائلة أخرى لا تربطه بها أية صلة تذكر؟. وكانت تبدو وهي تخرج محرمتها لتمسح بعضاً من حمرة الشفاه التي تركتها على وجنتيه وكأنها تحاول أن تذكره بها وبالآثار التي تحملها من رائحته وعرقه وبأنها ولمجرد الاحتفاظ بها إلى الآن إن هو إلا عربون محبة ووفاء له ولحبه وللحظات القليلة الحالمة التي شاركته بها!. وتساءل وقد شعر بها ترتجف بين ذراعيه... بأن عليه أن يتصرف بشهامة الرجل الذي يحب بصدق مشاعر الطفل الذي عرفته فيه... وبأنه ليس من حقه أن يعتب أو أن يحاسب من كان مثلها ضحية العادات والتقاليد البالية!. وبأن كل النجاحات التي حققها في الحياة لم تكن لأن يحصل عليها لو أن القدر قد جمعهم منذ البداية تحت سقف واحد!. ففي التحدي انتصار على المجهول... وفي الصبر والوفاء للحب العذري الطاهر الذي جمعهما سلاح فتاك قادر على إسقاط أعتى الشياطين!. وبأنه إذا ما أراد حقا أن يكون وفيا للمرأة التي صنعت -ببعدها عنه- كل تفوقه أن يغفر لها ويكافئها على صبرها وحبها!؟. وبأنها في قسوتها عليه وإبعاده عنها بالطريقة التي فعلتها... لم تقم بأكثر من ترجمة لخوفها وقلقها عليه وعلى مستقبله!. وكما تفعل الطيور عندما تقهر صغارها على الطيران برميها من الأعلى لتكتشف قوتها وأجنحتها ومهارتها في التحليق عاليا واستقبال الحياة هي كذلك فعلت؟. واستغرب وهو يغشاها بقبلاته وهمساته ويشاركها ذوبانها في محيطها... عن تلك القدرة التي يمتلكها المحب والعاشق الصادق بحبه لكي يغفر لمن يحب كل عثراته وأخطائه!؟. وبأنه لم يستطع أن يرى بها -رغم كل شيء- إلا صورة عفيفة نقية لمن أحب... فهي بعد كل هذا لم تكن أكثر من انعكاس لصورته على صفحات الحياة الرقراقة النقية كالألماس... قاسية مثله وشفافة مثله وباهظة الثمن مثله تماما.