رمى خرق القماش على الطاولة, وبعد أن أخذ نفساً عميقاً, قال بحشرجة وصلت حد السماء: هل يمكن أن تصنع قميصاً؟ أخذت الألوان بالبكاء, وعلى صوت نشيجها الحزين , خيّم صمت مرعب على الغرفة الصغيرة. أحسّ الضوء الأبيض القادم من خلفية الخرق بدأ يشحب بدوره, كأن السماء تنذر بقدوم ليلة سوداء. تصاعدت أسئلة كالشياطين تفر من ذكريات خلت, وعلى ايقاع ضجيجها تختمر المعاناة, ويطبق الصدر على النفس الأخير. نظر إلى الجراح التي شقها بيديه, تماهت الألوان أكثر واقتربت وتلاشت مع الخيوط المنسلة من الجرح العميق. عبثاً حاولت تشكيل الجسد, فتناثرت بعض التعابير على أرض الهزيمة مشرعة أبواب نكسة أخرى لم يمنعها أمل ضئيل. غرق بين ذكريات بدأت مع ميلاد- لحظة الغروب- طفله الأول, وانتهت بموت ابنه الأخير. رأى وجوهاً مقنعة لمن شاهدوا معرضه الأول, كانت الأقنعة تتكلم بلغة أخرى لم يفهمها, ورغم حرارة لوحاته فقد حافظت الأقنعة على لونها الأسود البارد. جلس على الكرسي الخشبي محدقاً بيدي الخياط, الذي شرع يلملم أشلاء لوحاته, ويحاول دون ادراك أو تنسيق رص الحدود على الحدود. اعتصر قلبه حزناً وأطبق الصدر أكثر على النفس الأخير, وتطايرت الألوان في كل أرجاء الغرفة عندما بدأت ابرة حادة بخياطة شرايين قلبه. قطب الخياط حاجبيه ونظر إلى القميص رافعاً إياه أمام الضوء الخافت وسأله فجأة دون أن ينظر إليه: ماذا ستفعل بالقطع الزائدة؟ أجابه بيأس: لن تصلح لشيء بعد الآن, وخرج يحمل قميصه هائماً على وجهه. تصاعد الدم في شرايينه في اليوم التالي, واعتصره ندم فظيع حين وقف مشدوهاً أمام لوحة ذات اطار خشبي لامع قدمها الخياط هدية له.