كان الرجل الطويل صاحب القامة النحيفة الممتشقة كشجرة صفصاف، هزيلا إلى درجة يقترب فيها من حجم عمود كهرباء، وجهه أخذ لون الصفرة كأوراق الخريف، عيناه بارزتان كحبتا برقوق، عظام وجهه بارزة، و شعره الذهبي هو فقط من أبقى شيئا من الجمال الآدمي فيه ودونه تخاله ملك الموت يحمل مذراته على كتفه متجها إلى قبض أرواح موتاه. لطالما أخبره الطبيب بخطورة حالته و أن الدواء وحده غير كاف لمعالجة كبته، نصحه بالتخلص مما في أعماقه، لكن الرجل الطويل يصر على هذا الإنطواء و هذه الفردية، هو في الواقع لا يملك أصدقاء و لا يحاول إيجادهم و إن وجدوا ابتعد عنهم قدر الإمكان، لقد دأب على هذه الحالة مذ قتل الناس الإنسان داخله آلاف المرات. مليء هو بالصمت والصمت أحيانا يقتل صاحبه، لا شك أن فهم العالم يجعل العبارة تضيق، وعلى ما يبدو لقد أتسع فهمه للوضع مما جعله صموتا و وحيدا. الرجل الطويل صاحب الشعر الذهبي لا يبحث عن الموت صمتا كما الخائفين لكن كما الحكيم، و لا يثير الصخب داخله إزعاجا للرجل الذي داخله، لا يريد الحياة في بحيرة نفسية باردة و عميقة مظلمة يختارها له الملاعين، يعملون على إكمالها و إتمامها كل يوم و يجتهدون في إغراقه فيها. ينظر إليهم فتستوي في أغواره الظلمات والنور، الليل و النهار، الظل و الحرور، لذلك يرغب في تحويل نظره إلى جهة ما، إلى جهة البحر، أ يلقي بنفسه في أحضان الحلم البعيد، يريد أن تمتلئ جرته بماء طهور مقدس، خلاص جديد من نجاستهم و جنابتهم، إنه يسأل نفسه و لطالما سألها: - كثير عليهم لو تركوني لوحدتي؟ هم لا يتركونه حتى لخياله ليهمس لغيوم السماء و لو على مسافة بعيدة آملا في بعض ظلال المطر ورائحة الرمل بعد الغيث و صورة ألوان قوس قزح و قد تمددت الألوان بعضها فوق بعض. كان كل يوم يجلس قبالة البحر في الجهة الغربية من الشاطئ حيث الصخور الوعرة المملوءة نتوءات و أشواك والتي تمنع المتجولين من وصولها. يجد الرجل الطويل ضالته في هذا المكان، وحيداً هنا يترقب الأمواج التي تصنع نفسها فتصنع البحر و الشاطئ ؛ ويشعر بالغبطة كلما صفعت الموجة هذه الصخور و أحدثت صوت القوة ثم تضعف شدتها، صوت الموج، صوت الهيجان والإطمئنان في الوقت نفسه، تتفجر داخله الآلام، يزول مفعولها الواخز، يرقب البعيد من المدى حيث تتحد السماء بآخر نقطة من الماء، يرقب الأزرق ببصره كزرقاء اليمامة في يقين، يرى بأغواره الآتي قاسيا. يطول مكوثه، لا يأبه لجوع أو عطش، ينتظر الشفق الجميل الباهر الساحر يتنفس من خلاله ذكرياته، ينسى جروحه، يعود محاذرا الإنزلاق من على هذه الصخور السوداء كقلوب البشر الملاعين، تبقى حبيبات الرمل بين أصابعه و رائحة الطحالب تفوح من ثيابه، يعود إلى سكنه حيث الجدران المسلوخة و بقع الرطوبة السوداء الداكنة التي تفوح منها الرائحة العفنة بخاصة أنه لا يفتح نوافذه ليلا أو نهارا. يصادفه الجيران، يتحاشونه و لو ألقوا التحية، يردها ببرودة غير آبه بهم، إنهم نسخ مكررة ولو ألقوا مع تحيتهم معاذيرهم. الرجل الطويل الذي هدده الموت كان يتخفى كالممثلين في ذاك الزمن، يتخفى في أزياء النساء و بمساحيق و قبعات، ينتقل كل شهر إلى مدينة مؤمنا بصلة القرابة و الصداقة، كان كلما طرق باب أحدهم رأى الإمتعاض في الوجوه، و اللاترحيب على الشفاه، كان مرغما على الدخول، يعظّ على قلبه و يتحمل الإهانة الصامتة، يتحرج بسماعه الإعتذار عن استحالة مكوثه أكثر من ليلة مادام خطر الموت يتهدده فلقد ذاع الخبر بالقتل في البلاد. ما من أحد يملك الجرأة و الشجاعة ليأويه، و لقد نصحه صديقه الذي سقط برصاصات غادرة “لا أحد يحميك، و من الخطأ الدفاع عن الذين لا يؤمنون بأنفسهم”. إن هذا الشفق يذكره بالأمل الذي صنعه لنفسه و أختار أن يعيش حياة الخوف و يتجرع مرارته، اتخذ موقفه في عدم التخفي و مواجهة المقدّر و لكم كانت حياته جحيما، تخلى عنه الجميع بداعي الخوف و الشبهة، ظل أعواما وحيدا، كان زملاء العمل يلّحون عليه أن يسكن معهم الفندق المأمّن، كان يقول لهم: “و ماذا يقول عني التاريخ، سيقول كاتبه خاف على نفسه من كلام فكر فيه وقاله”. و لرحمة الرب به فقد رحمته الرصاصات، نجا منها بمعجزة، كان من أطلق الرصاصات خلفه و لم يكن إلا ابن الجيران الذي سينفذ فيه حكم الموت، كأن ملكا قال له استدر فأنت على مسافة شعرة من الحتف، تلاحم معه في اشتباك جسدي، أبعد عنه المسدس ليجنب جسده الموت، كانت يدا ابن الجيران قوية و أصابعه خشنة لمزاولته مهنة البناء. إن حب البقاء يمنحك القوة اللازمة للدفاع عن نفسك و بخاصة إن كنت بريئا. غيّر مسار الطلقات النارية التي خرجت من الفواهة محدثة رعبا وهلعا في مساكن العمارة، نفدت الرصاصات من مخزن المسدس و بركلة من فخذه أسقط المعتدي أرضا، ظهر شبح شاب آخر يعرفه جيدا من أبناء الحي أطلق عليه رصاصات و لاذا الإثنان بالفرار، كانت الرصاصات قد أصابته و استقرت في مناطق عدة من الجسد سقط من خلالها على الأرض غارقا في دمه. لمّا فتح عينيه كان بعض الزملاء يحفّون سريره داخل مستشفى العاصمة، مرت شهور استطاع الوقوف مجددا على رجليه الجريحتين و سكن الفندق المحروس مع باقي زملائه. تمر السنين مخلّفة رواسب حقبة أليمة، و الرجل الطويل أكترى منزلا في بلدة قريبة من البحر، سكن مهترىء و أجرة تقاعد تكفيه أن يحيا بها ما تبقى من عمره. لقد كان يعمل الرجل الطويل مراسلاً صحفياً لعدة جرائد أجنبية لكنه توقف الآن عن الكتابة التي لم تحمل له إلا المتاعب والأخطار. أوقفها كمهنة لا غير. كان الرجل الطويل يدّون شيئاً ما عن ذكرياته وهذا الوقت الذي تغمره فيه السكينة، كان ذلك ليلا و إلى أن يستفيق صباحا يتجه صوب البحر كما العادة يقوده القلق رفيقه القديم الظامئ إلى أشيائه الثمينة الجميلة البعيدة، قلقه الأعمى السائر بعكاز الغامض المبهم، تشوّقه نفسه الملتهبة تغرقه في قعر الماوراء السر و الحجاب يستعيد من أنوار الفجر ضياءً لأمله، صبره لا ينفد كما الموج، شعوره عميق كما البحر، يقينه بغربته في وطنه رمحاً مغروزاً ، لا ينسى أنه بلا أجنحة ولا يقوى على التحليق في الفضاء البهي الذي رسمه خياله، تمنى لو انتقل من الحالة الشفافة إلى واقع ملموس من أمنيات، إلى أفعال مجسدة أمام عينيه. كان يعتقد في كل يوم جديد هو ميعاده للرحيل. تمنى لو تتاح الفرصة ليكمل مشوار ما بدأ، تلوح من جبهته العريضة تقاسيم تفاؤله بالغد المشرق، جبهته العريضة أين استقرت رصاصة من سنين و تتحرك في طريقها نحو المخ ، الرصاصة التي لم يفلح الأطباء في نزعها. مات الرجل الطويل تاركاً دفتر ذكرياته الذي وُجد في درج مكتبه، دفتر ذكريات أليمة كتبها بقلب دافئ بقلب المتسامح و الذي لم يجعل نفسه فيها بطلا، في الوقت الذي كثر فيه عدد الأبطال.