كثيراً ما ترتبط كلمتا النغم والإيقاع بمجالات الموسيقى وأوزان الشعر العربي و قلما نجدها متداولة الاستخدام في الفنون التشكيلية والسبب يعود إلى ظهورها متأخرة مع ظهور النقد الفني في القرن السادس عشر في أوروبا .. ولكننا عندما ندخل في هذا العلم الراقي لا ننسى العالم العربي الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي ( 100 - 173هجرية ) وهو من كبار علماء البصرة في اللغة والنحو وصاحب علم العروض لأوزان الشعر العربي وكتب النغم والإيقاع و العين وعلم الموسيقى وغيرها، والتي لازالت تقرأ وتدرس في مدارسنا... أما لماذا سمي كتابه بعلم العروض فيذكر انه كتبه في مكةالمكرمة في منطقة العروض . ويقال ان الفراهيدي كان يوماً يمشي في أحد الاسواق يردد بيتاً من الشعر فسمع مطرقة على طست ( صحن ) فاذا هو يستنتج من وقع المطرقة - مقارنة بين ايقاع المطرقة وبين ايقاع الفاظ بيت الشعر. وبالتالي أدى به الى اكتشاف بحور الشعر العربي المعروفة ( وهي 15 بحراً ). وكان كلما يعود الى بيته يتدلى الى البئر و يبدأ باصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة . كما يذكر ان كلمة إيقاعRitmo أول ما استخدمها الغرب في الشعر اليوناني واللاتيني واللغات الاوروبية، فكان احد مكونات عروض شعرهم , واستخدمت أيضاً في الموسيقى , واعتبرت همزة وصل بين فنون الكلام وفنون النغم ... والإيقاع مصطلح ورد في الثقافة العربية للدلالة على مكونات الموسيقى و يقابل هذا المفهوم مفهوم الوزن في الشعر العربي . والإيقاع له تعاريف كثيرة مرتبطة بالمجال المعرفي أو السياق الدلالي الذي يظهر فيه... ويستخدم في المجالات الفنية والجمالية كالرقص والرسم والنحت، وهو خاضع لتصورات الناقد وأحاسيسة وانطباعاته... والبعض يتكلم عن ايقاع القلب وإيقاع التنفس وإيقاع الليل والنهار ... وهو يعرف بطرائق مختلفة متفاوتة الدقة , وتكون معانيه مرادفة للسرعة والتناوب أو الزمن . والبعض يعرف الإيقاع بانه طريقة لتنظيم الحركات المتكررة او هو منهج لمعالجة ظاهرة تكرار شيء معين , ويعني أيضاً شكل من تأليف الاصوات في تتابع لغوي ... والإيقاع ظاهرة مألوفة في طبيعة الانسان نفسه , فبين ضربات القلب انتظام وبين وحدات النفس انتظام وبين النوم واليقظة انتظام, وهذا الايقاع فطري يثير فينا الراحة والطمأنينة ونقلق إذاً فقدناه ... واذا نظرنا الى ضروب الايقاع في الطبيعة لوجدنا أنها وثيقة الصلة بشروط بقاء الانسان نفسه وايقاعاته الذاتية.. فكل عمل يؤديه الانسان لابد ان يكون خاضعا لنوع من الايقاع الذي ينسجم مع ايقاعات الطبيعة، فهناك ايقاعات كونية وهناك ايقاعات يومية وهناك ايقاعات ذاتية .. فلو حدث مثلا خلل في ايقاع حركة الارض لانعكس سلبا على حياة الانسان. لهذا فان كل عنصر من عناصر العمل الفني كالخط واللون والمساحة والنور والظل لابد ان يحقق نوعاً من الايقاع مع نفسه ومع سائر العناصر الاخرى التي تشارك في العمل الفني. والايقاع في الفن الاسلامي يعتمد على التماثل والتناظر والتبادل كما يعتمد على الخط اللين والهندسي . والخط نجده أحيانا له ايقاع متراقص يوحي بالمسرة ... وتوزيع العناصر في المنمنمة بشكل عمودي يوحي بإيقاع الخفة والطيران.. وحتى في الفن الحديث نجد أن الفنان يتصرف بايقاع فطري أو وجداني أو عن طريق اللاشعور. والنغم : هو جرس الكلمة وحسن الصوت في القراءة .. والنغم الكلام الخفي والنغمة الكلام الحسن . وسكت فلان فلا نغم بحرف وما تنغم بمثله وما نغم بكلمة... والنغية مثل النغمة , وقيل النغية ما يعجبك من صوت او كلام. وناغى الصبي: كلمه بما يهواه ويسره. والنغم في العمل الفني يختلف عما هو في الموسيقى ولو أن مصطلح الوان تستخدم في الموسيقى ايضا فيقال مثلا إن فلان المطرب في تنوع - لون النغم - أي ضعيف او يقال ان السيدة س المغنية ليس لديها لون.. وهكذا. فهناك اذن تداخل في المصطلحات بين الفنون التشكيلية والموسيقى . والنغم في الفنون التشكيلية هو الشدة النسبية لكل لون من الالوان المتعددة بالنسبة للضوء العام للرسم أو هو تنظيم الألوان لكي تتوافق مع مقياس محدد .. وبالتالي يتحدد النغم السائد للرسم . وكان فنانوا عصر النهضة في اوربا جل اهتمامهم هو اعطاء دور بارز للظل والضوء في خلق تناغم متزن في العمل الفني كما هو عند رمبرانت, حيث كان الاهتمام الكبير في البناء الهندسي للصور والتوزيع للاضواء والظلال ..... وكان راسكين قد كتب في كتابه (مصورون محدثون) محاولة لتحديد معنى النغم في الرسم (انني افهم شيئين من كلمة نغم أولها الارتياح الكامل والعلاقة بين الاشياء في تضادها، وبالنسبة لبعضها البعض في كثافتها وعتمتها.. وثانياً النسبة الدقيقة بين الوان الظلال الى الوان الاضواء حتى يمكننا ان نشعر على الفور بان تلك الظلال ليست الا درجات متفاوتة للضوء نفسه..) اما في الرسم الآسيوي فيختلف النغم حيث ان الخط يلعب دوراً اساسياً في تحديد الشكل وكذلك في الفن الاسلامي والفن الاوربي الحديث. حيث أن التناغم بين الالوان او الخطوط يمكن لها ان تشهد ايحاء بالضوء والظلال نتيجة تقارب الالوان النقية غير المخلوطة كما هو عند المدرسة الوحشية خاصة الفنان الفرنسي ماتيس . والخط في الفن الصيني يعطي الوضوح والايقاع الدينامي وربما أوحى لنا بالكتابة او الشكل الصلب الذي منحه النغم التعبير المكاني الكامل. ولكن كونستابل قد ثار على كل هذه التقاليد التناغمية وتبعه في ذلك ترنر Turnerحيث كان أكثر ثورة وانطلاقاً والذي يعد اعظم الملونين الذي عرفهم العالم , ليرسموا لهم تناغما جديدا في الالوان وفي الضوء والظل. وقد شاهدت أعمال ترنر في Tate Gallery في لندن. ومن أعماله الرائعة التي لفتت انتباهي ونظري لوحتين هما - مدينة على ظفاف النهر - 1833 - و المركب الحربي - 1838 - وفي هاتين اللوحتين يجسد ويبرر لنا ترنر من انه هو والد الانطباعية . اما سيزان فقد رسم هو الآخر نغماً جديداً حيث رسم اللون رمزاً في معظمه, وعنده اللون يحمل الشكل بغض النظر عن الضوء والظل . ومن ذلك يتضح لنا وجود ثلاثة اتجاهات فنية في النغم والايقاع ومسالة التعبير وهو ما يؤكده بعض النقاد وهي: - الاسلوب التناغمي - الاسلوب الرمزي - الاسلوب النقي الاتجاه التناغمي شاع استخدامه في عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر حيث ظهور المدارس الفنية الحديثة والانقلاب الذي احدثته المدرسة الانطباعية على التقاليد الفنية القديمة بزعامة ترنر وغيره من رواد هذه المدرسة... وقد تحدثنا عنه سابقا . اما الاتجاه الرمزي فهو عادة ما يستخدمه الانسان البدائي والطفل حيث يستخدم اللون لأجل مغزاه الرمزي فالطفل دائما يرسم الشجرة باللون الاخضر والبركان باللون الاحمر والسماء زرقاء , وهكذا... وقد وجدت رسوم قبائل - البوشمان - البدائية في روديسيا وجنوب غرب افريقيا وكذلك وجدت رسوم بدائية لانسان الكهوف في التاميرا شمال اسبانيا وهي متشابهه في اسلوبها الرمزي. ويمكن مراجعة كتاب - فن البوشمان - تأليف هيجو اوبرماير وهربرت كوهن 1930 . واستمر هذا الاسلوب حتى نهاية القرن الخامس عشر حسب بعض المؤرخين . واما الاتجاه النقي فهو يعني استخدام اللون لنفسه وليس حتى من أجل الشكل كما هو في المنمنمات الاسلامية وكما هو عند المدرسة الوحشية وكوكان وماتيس. وهو اسلوب شاع استخدامه في العصور الاسلامية وكذلك في العصر الحديث .