استيقظ على أصوات أناس. لم يتذكر أين كان قبل قليل، ربما أربكته أحلام اليقظة والسرحان المستمر. أصوات جموع من الناس تتداخل، تعلو، تقترب لكنه لا يستطيع رؤيتهم. تساءل في نفسه: من أين تأتي هذه الأصوات يا ترى؟ أين سيارتي؟ تلفت يبحث عنها لكنه لم يرها. شاهد مجموعة من الناس تسير في طرف الشارع، ينادون بكلمات غير مفهومة، إنهم يهللون ويكبرون، إنها جنازة، قالها وهو يسير باتجاههم. سار معهم يهلل و يكبر، دفعه أحدهم بكوعه فالتفت: إنه أخي جلال؟ قال في نفسه. تنبه بأنه لا يرى بوضوح وتساءل: أين نسي نظاراته الطبية؟ قال وهو يدق بيده على ساعد أخيه: من الميت يا جلال؟ لم يرد جلال، فقرر معرفة الأمر لوحده، تلفت فرأى الكثير من الأهل والمعارف واقفين حول القبر، أنزلوا الميت إلى القبر وقرؤوا القرآن، دعا الواقفون فرفع هو يديه ودعا معهم للميت، ثم التفت ولم يجد أحداً. قال في نفسه: لماذا ذهبوا بسرعة؟ ماذا بهم؟ تذكر أنه وجد جميع أفراد أسرته فخاف أن تكون عمته المريضة هي المتوفاة. تلاعبت به أفكاره بأن الميت قد لا تكون عمته وقد تكون والدته، فجرى بخوف ودموعه تسبقه. عندما وصل شاهد المنزل مكتظا ً بالناس. كان والده جالساً في الغرفة يبكي، ركض إليه يسأله: أبي ماذا بك؟ تجاهله والده، فهز كتفه يسأله من يا أبي؟ من؟ اقتربت أخته حنان تواسي والدها. صرخ فيهما: ماذا جرى؟ هل حدث لوالدتي شيء؟ احتضنت حنان والدها ولم يردا عليه. ركض لغرفة والدته، كانت على فراشها تبدو مريضة جداً تبكي. هدأ قلبه عندما شاهدها فاقترب و أمسك بيدها قائلاً: أمي ماذا جرى؟ سحبت يدها وغطت بها وجهها وبكت. اجتمعت النسوة حولها يهمهمن بشيء لم يفهمه، لكنه فهم كلمات: ادعي له بالرحمة. جن جنونه، حاول تذكر الفرد المفقود في الجنازة وهو يهز أمه صارخاً: من مات ما الذي يجري هنا؟ تجاهلنه و انخرطن في بكاء ونحيب مع والدته. خرج من الغرفة كالغريق يبحث عن قشة يتعلق بها في المحيط. تفحص الوجوه، يبحث عن المفقود من العائلة، جرى من غرفة إلى أخرى يبحث بين الموجودين. سأل هذا وذاك. الجميع يتجاهله ليتحدث مع غيره أو يواسيه. صرخ في الجالسين: من مات، ما الذي يجري لماذا لا يقول لي أحد؟ ورغم هذا لم يرد أحد، فعاد لغرفة والدته. التفت لأخته حنان وهي تصلي في الغرفة المجاورة، اقترب منها ليسمع دعاءها المبلول بالدموع. إنها تدعو لشخص ما، من هو؟ من بين دموعها وحشرجة الكلمات سمع اسم جمال. ارتسمت ابتسامة مهزوزة خائفة وهو يحاول التأكد مما سمع: جمال من؟ سألها وهو يقترب: جمال من؟ فجأة أصبحت الأصوات أوضح، الصور أوضح، وضع يده على نظارته. لم تكن في مكانها. سمع صوت والدته تبكي في غرفتها والنسوة حولها وهي تصيح: ابني جمال لا... صرخ بأعلى صوته: أنا هنا يا أمي... أنا هنا... سرت قشعريرة في جسده البارد، رفع كفيه، كانتا شاحبتين جداً. ركض لغرفته نظر في المرآة. لم ير شيئاً، سوى انعكاس صورة الغرفة خلفه. عجز عن تحريك يديه، ثقل التراب فوق جسده الجامد، غابت الأصوات واختفت الألوان في جيش من الظلام.