في أحد شوارع المدينة الكبيرة القديمة الثكلى بذكريات الماضي لامس أوتار روحها شيء ما، أدخل الدفء إلى جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها ، شيء ما أعادها إلى الوراء عشرين عاما ، و أضاء فيها شموعا كانت قد انطفأت ، و رعشة كانت قد راودتها لأول مرة في الماضي البعيد . هل من السهل حقا أن نبعثر الماضي ..كل الماضي في لحظات ..هل من الممكن بسهولة أن نعود بمنتصف العمر للوراء ، لنعيش ذات اللحظة التي كنا حملنا نَعشها ودفناها في أعماقنا ، و قرأنا عليها السلام ؟ هل من الممكن أن ينهض شيء فينا كنهضة أهل الكهف من سباتهم ، لكن من نهض فينا بتنا غرباء عنه ، هو في الزمان والمكان الخطأ ، و في الجسد الذي صار غريبا عنا و لم نعد نملك أفراحه أو أحزانه ، أو نملك خارطته.. هي النظرة ذاتها التي كانت تعودت أن تراها في رجل حمل في قلبه الصغير كل حنان الكون ، و في نظراته ترى كل دروب الحب بأمسياته وآلامه وأشواقه وأحلامه ،لحظات تجد نفسها أمام ماض بأكمله ، و أمام حب كانت قد طوته صفحات الذاكرة ، ولم تنعشه الحقيقة حتى اللحظة . الحاضر يعود للوراء عشرين عاما..وإذا به نفس الرجل الذي حاولت جاهدة أن تعود نفسها على فراقه..هو هنا وحيث كانا يلتقيان منذ زمن وكان آخر لقاء ،حمله المكان والأقدار إليها من دون موعد ،فاستحضرت اللحظة كل الأشواق والحب المدفون عميقا ، والحياة عادت من جديد . صار للحياة نبض آخر في عروقها ، يعني الحياة من أجل الحياة وليس من أجل البقاء فقط ، صارت في لحظات كالشاطئ حين يعود الموج إليه بعد جزر وغياب ، فيرطب رمله ويهديه كنوز الأعماق و أصدافا ومحارا . ماذا تراها تصنع الأقدار بعد ؟ تتذكر حين قالت له ذات مساء : - لا أريد أن أحبك أكثر لأنني أخشى أن أدمن حبك فأجابها : - لك أن تحبيني كيفما تشائين ، فلماذا لا ندمن بعضينا ؟ فردت : - لأنني لا أكتب الأقدار..هي التي تسيرنا ، وأخشى عليّ من فقدانك وفراقك . تمر هذه اللحظة صعبة قاسية ، تتمنى لو تعود لشكلها كما من عشرين عاما ..تريد نفسها أمامه صبية الثامنة عشرة ، تعرف إليها حيث لم تتكلم ،وعرفته حين استفاقت أنوثتها لما مرت به ، لقد اهتدت حواسه وجوارحه لتلك المحبوبة التي سلبها الزمان منه ،كانت تعلم أن الحب إذا أراد أن يعيش فيجب أن يتوقف عليه الزمن ليصبح ذكرى كي لا يمر بخريف العمر وعجزه. وها هو يصبح كالمارد حين يخرج من قمقم الأعماق . وقف بكل الماضي أمامها ووقفت بكل ما حملته إياها الأيام، يقتلها الصمت وفراغ الكلمات ومعالم الحقيقة ، و وليد زواج عاثر يلهو بين يديها . قلبان في جسد واحد أصبح يتسارع نبضهما :قلب الماضي الذي لم يتوقف نبضه يوما داخلها وقلبها الآخر الذي يعمل كمضخة لاستمرار الحياة .،.لكن الماضي يستطيع أن يظل هامدا ..ساكنا ..حبيسا كما كان من عشرين عاما ، لكن ماذا تفعل بكل ما ورثته من حاضرها و أين تلقي به ؟ و هل يمكن أن تتجاهل حياة استمرت ما يقارب العشرين عاما؟! فوضى القدر تعبث بكل شيء ، و تتعارك الأزمان داخلها ؛ يعلم في قرارة نفسه أنه ما هو إلا أطياف ذكرى لا يمكن أن تبدل حقيقة الأشياء أو تعيد ما راح يوما ، فيختار لذلك الحب أن يبقى كما الأفق بعيدا ، يريده نزيها عن عبث الأيام و معاولها ، يسير و يبتعد كما لو أنه لم يرَ سوى سراب حلم جميل ،وعيون حملها من القدم كل الأماني الجميلة وترك لحياتها أن تستمر من دونه ،ليجنبها مرارة الاختيار .