كل عمل إبداعي مهما كان نوعه فهو كالنهر يتغذى من ثلاثة روافد ليبقى جاريا مترقرقا وإلا جفّ وأضحى مغيضا يتصادى فيه نقيق الضفادع ولا يُعدّ من الإبداع في شيء . والنص القصصي وعاء لهذه الروافد التي هي ذات المبدع ( قلبا وقالبا) ،والتي تتشكل بدورها من ثقافته العامة بما تحبل به من رواسب تراثية وتربوية واجتماعية أو( الجانبية النفسية للقاص) ( son profil psychologique ) وعماد سلوكه ، ثم المجتمع أو البيئة التي تحتّم على المبدع التعايش مع أقانيمها والانصهار فيها حد التماهي ، والتي مهما حاول التسامي على بعض أنماط حياتها الفجّة ، فإنها تترك عقابيلها ، إن لم تكن على جسده ، ففي نفسه ؛ وأخيرا دائرة العالم وما تزخر به من تقلبات سريعة للنماذج الجاهزة والمبادىء الهشّة والأهداف الملتوية المسالك .. وهذه الدائرة تحيط بالأولَييْن ، وكثيرا ما تمتزج هذه الدوائر في أثر القاص في لحمة واحدة حتى لقد يصعب على المتلقي العادي تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود . اتخذت القصة القصيرة من هذه المحاور مواضيع لها مند ظهورها بمثابة فن أدبي للتعبير ، وانفرادها بخصائص مستقلة عن أشكال التعبير الأخرى بعدما أرسى قواعدها المنظرون الرواد . كان القارىء العادي ، المتوسط الإدراك لا يحتاج لبدل مجهود كبير عبر قراءاته المتعددة لسبْر أغوار نص قصصي واكْتِناهه واستجلاء الموضوع الذي يقود حتما إلى الهدف المنصوب من طرف القاص عبر معالم كانت،في أغلب الأحيان مرصوفة بطريقة متّفق عليها مسبقا.. إن نظرة القاص إلى هذه العوامل في علاقة جدلية وما ينتج عن تصادمها تارة وتوازيها تارة أخرى ، تولّد عنده قلقا غامضا يعتمل بداخله حدّ الاستبداد وإفراز حالات نفسية أخرى جارفة مكتسحة، أشبه ما تكون بذبابة جائعة استمرأت جرحا نقيفا .. إنها الرغبة في البوح بما فاض عن الكأس الخبيئة والتي تشتدّ ولا تفتأ تلحّ عليه حتى تتبلور في إبداع يحاول القاص من خلاله تكريس بعض أنماط من العلاقات الإنسانية والعادات الحميدة حتى تضحى تقليدا ،أو انتقاد سلوكات مشينة والتمرّد عليها ومحاربتها لطمسها أو على الأقل تعديلها وفق منظور جمالي وأخلاقي أسمى . إن المهتم بالحركة القصصية عبر مسارها قصد دراسة النصوص وتصنيفها حسب اتجاهاتها الأدبية أو أشكالها السردية أو حسب تصنيف آخر سيلاحظ أن الوعاء لم يتغير ، بل تغير مفهوم هذه العملية الإبداعية ورسمُ حدودها لأسباب عدة من قبيل تطور العلم وسيطرة المادة على التفكير وميلاد ما يسمّى بالحداثة والعولمة،وهيمنة الصورة ، والتقدم السريع للتكنولوجيا وبروز قيم جديدة وطريقة التفكير في حلول مُبَسْترة .. لقد كان الباحث يقارن في دراسته حصيلة الإبداع في قرن بالقرن الذي سبقه أو الذي يليه ، أما الآن فالمقارنة أصبحت تتم من خلال أعمال عقد أو عقدين .. لا يمكن الجزم بأن الجيل الجديد قطع بصفة نهائية مع كل ما يمتّ إلى الشأن العام بصلة ،ذلك أن القاص ، ككل مبدع ، يشغل نفسه بهموم عصره ، ويحاول عن بصيرة واقتناع أو عن ما يشبه اللاوعي ، أن تكون له رؤيته وكلمته الخاصتان به ، والتي تدرك من وراء ظواهر الأشياء حقيقة البيئة التي يعيش فيها واستشراف المستقبل . ولأنه رقيق الإحساس ،ثاقب البصيرة ،فلا بد أن يبرز أثر هذه التفاعلات في إنتاجه بشكل جلي ّأو ملتبس ؛ فهو يستحضر وقائع عاشها أو عايشها ، وظل يتابعها من خلال مرصده . وقد يتنبأ بوقوع أحداث قد تقع فعلا قيد حياته أو بعد رحيله عن هذا العالم ،خصوصا إذا توفرت لديه قوة الحدس والصدق الفني ، وإشراقة الأسلوب والقدرة على تفجير الأسئلة في ضمير المتلقي .. قد يظن البعض أن القاص الحالي ارتكن مثل حلزون في قوقعته إلى نرجسيته المعتمة الزوايا ،يتلمّس تضاريسها ويرمّم ما تصدّع من جدرانها المبلّطة باقتناعات شخصية لم تصمد كثيرا أمام عوامل التعرية الجارفة .. كما قد يتبادر إلى الذهن عند بعض قراء نصوص اليوم ،أنها تحاول مساءلة القيم والمثل والتحرر من النمطية والقوالب الجاهزة ، والسير دون الاتكاء على عكّاز الأجداد ،والقفز دون مظلة المنظرين .بيد أنه مهما تغيرت الظروف والعوامل المواكبة لهذه النصوص فإن المحاور الأساسية التي يمتح منها القاص مادته فإنها لم تَحِدْ أبدا عن المحاور الأساسية : الحق والخير والحب والجمال ؛ ولا جدال في أنها مثل شجرات النسب (arbres généalogiques ) فهي تتفرع إلى أفانين ( تيمات ) تثمر فواكه لذيذة المرارة بطعم الخذلان والغبن والشعور بتنكر الوطن واستقالة الأسرة ؛ ولهذا جاءت لغة الجيل الجديد متدفقة عفوية مسربلة بمعجم الدروب الهامشية والأزقة الضيقة . فالنصوص مما لا شك فيه منفتحة على الواقع ولَبِنتها مجبولة من لغة ( وَقِحَة )أحيانا مثل الظروف التي أفرزتها ، بروائح بلدية ،مستفيدة في قراءتها من الإنجازات الهائلة التي حقّقتها العلوم الإنسانية وخصوصا التحليل النفسي . فالقاص الحديث لم يعد يعبأ بتسلسل الأحداث في القصة القصيرة ، ولا يفرض الرقابة على أفكاره أو يشْكمها كلما حادتْ عن جادّة السبيل ، سبيل السلف ،بل يمتطيها دون سرج أو لجام ، ولهذا تأتي متلفّعة بدلالة غريبة وغامضة أحيانا . فالقصة القصيرة لم تعد تصرّح ، وإنما تلمح وتوحي وألا أصبحت مقالة صحفية . إن عهن القصة عبر الأجيال هو نفس العهن ، بيد أن القصاصين الجدد ينفشونها بمحالجهم الخاصة ذات العلامة المسجلة ، ولهذا تختلف شراشفهم باختلاف أناملهم وطريقة حبكها والأذواق والألوان التي تصبح عصيّة على النقاش .. القاص حاليا ،يحاول تشكيل بناء نصّه من جديد بالوسائل المتاحة لتتخذه الفكرة حصنا منيعا ، فلا تسلم نفسها إلا لمن اجترح مفاتيح وأدوات ، وكلما حاول الدارس التسلل إليها عبر فجوات مريبة انتحرت قبل الوصول إليها ،ولن يجد إلا جثة هامدة شاحبة اللون،باهتة الرونق ..