من أشهر الكتب التراثية التي تضمنت تلك النوادر: «المستطرف من كل فن مستظرف», «عيون الأخبار», «العقد الفريد», وغيرها الكثير. تخصص البعض من أصحاب القلم في ترديد النوادر, وقد تصل إلى أكثر من عشرة رواة في التراث العربي البعيد، منهم: «ابن النديم, أبو زياد الكلابي, دهمج بن محرز, أبو مسحل عبدالوهاب بن حريش, وأبو المضرجي, واللحياني غلام الكسائي, وعبدالله بن سعيد الأموي, والفراء, وقطرب, وأبو زيد الأنصاري, والأصمعي, والأثرم والتوزي, وأبو عمر الزاهد وأبو اليقظان النسابة, والهيثم بن عدي والمدائني, وأحمد الأشعري..» وغيرهم. إلا أن السؤال القديم المتجدد دائماً.. من هو جحا؟ أقدم من نسبت إليه النوادر ودوّن كثير منها في كتب هو «دجين أبو الغصن بن ثابت الفزاري البصري».. عاش في الكوفة وتوفي عام 160هجرية. وقد جرت دراسات عديدة عربية وأجنبية تتناول الشخصية, مقارنة وتحليلاً بين «جحا» العربي والأجنبي.. من هؤلاء: «رينيه باسيه, و.هارتمن, وأ.فاسليكي, هونزكرايمسكي..» ومن العرب «عبدالستار أحمد فراج, أنيس فريحة, عبدالحميد يونس, عباس محمود العقاد, محمد رجب النجار». لعل الأخير هو آخر من أعاد تصنيف النوادر حسب أحدث المناهج على ثلاث نواحٍ: الناحية التاريخية: وترصدها من الأقدم إلى الأحدث. الناحية الموضوعية: وتهتم بالجانب الفكري أو الفلسفي. الناحية الفنية: تتناول الشكل الفني للنادرة. وقد خلصت أغلب الدراسات إلى عدد من الحقائق: «نوادر جحا تعتبر أقدم النوادر التي سجلتها القريحة الإنسانية في العالم كله.. أمكن جمع النوادر العربية التي تخص جحا, ولا توجد أية نادرة دخيلة بعد أن أمكن الباحثون الكشف عن خصوصية نوادر جحا العربي.. إلا أنه من المؤكد أيضاً أنه توجد نوادر عربية أدخلت على نوادر جحا الأصلية.. تتسم النوادر العربية لجحا.. أنها تخلو من التفاصيل الجزئية الكثيرة, وهو ما يجعلها أقرب وأنسب إلى الإلقاء الشفاه.. لم يدخل على نوادر جحا العربية الكثير من التغييرات الجوهرية, على العكس من الكثير التي دخلت على «جحا» الأجنبي للشعوب المختلفة.. تلاحظ اقتراب بعض المواقف في جحا الأجنبي بنوادر جحا العربي, ولأن العربي هي الأقدم فهي مصدر الأخرى.. شخصية جحا الصيني, والمدعو «الأفندي نصرالدين» هي أقرب شخصية لجحا العربي, يكاد البعض يؤكد أنها ترجمة عن العربية.. الطريف أن جحا الحبشة ومنطقة السواحل الشرقية بإفريقيا هي العربية إلا أنهم نسبوها إلى «أبي نواس».. نموذج مقارن من جحا الصيني: «اقتحم لص ذات يوم دار الأفندي, فاختبأ الأفندي في صندوق. فتش اللص كل مكان في البيت ولم يجد شيئاً يستحق السرقة, فجاء أخيراً إلى الصندوق وفتحه فرأى الأفندي فيه، فقال له: «ماذا تفعل في داخل الصندوق يا هذا؟».. فقال الأفندي: «خجلت لعدم وجود شيء في بيتي يروقك فاختبأت هنا؟!». وقارئ جحا العربي يجد الصور والحكاية والتفاصيل, وربما الحوار بإحدى النوادر العربية الشائعة لجحا العربي. أما وقد أصبحت شخصية جحا عالمية الانتشار عربية المنشأ, فلا يمكن القول بأن الشخصية عدلت من سماتها وملامحها بعض الشيء بما يتناسب مع شعب على حده, وربما هذا هو السر الخفي وراء استمرارها وطرافتها للكبير والصغير. ثم انتقلت قصص الحيوان إلى أوروبا عن طريق الأندلس، مثل الكثير من الفنون والعلوم. وعرفت حكايات «جان دي لافونتين» التي ازدهرت في أوروبا في العصور الوسطى, الذي ولد عام 1621م وتوفي 1695م. وقد عرف عنه أنه بدأ في كتابة الشعر وهو في الثلاثين من عمره، وتعتبر الخرافات أول أشهر أعماله التي اشتهر بها، حتى حاز عضوية «الأكاديمية الفرنسية» التي تضم أهم الشخصيات في فرنسا. خرافة «الغراب والثعلب».. «وقف السيد غراب فوق شجرة، وفي منقاره قطعة من الجبن.. وسال لعاب السيد ثعلب، عندما شم رائحتها.. فخاطبه قائلاً: صباح الخير يا سيد غراب.. كم أنت مليح.. كم تبدو لي جميلاً!! صدقني.. لو كان غناؤك في جمال ريشك!!.. فأنت أعجوبة هذه الغابة.. اهتز الغراب فرحاً لهذه الكلمات.. وفتح منقاره ليثبت أن صوته جميل.. فسقطت منه غنيمته.. وأمسك بها الثعلب، وقال: أعلم يا سيدي أن أي منافق يعيش على حساب من يصغي إليه.. ولا شك أن هذا الدرس يستحق قطعة من الجبن.. شعر الغراب بالخزي والخجل.. وأقسم بعد فوات الأوان ألا يقع في مثل هذا الفخ أبداً.. لكن بعد فوات الأوان..». وحديثاً مازال «الحيوان» مادة لإبداع أدباء كبار، خصوصاً في إفريقيا، مثل الكاتب السنغالي «سليمان ديوب».. الذي تميزت أعماله بالبساطة والوضوح والحكمة, فضلاً عن توظيف «الحيوانات» واستنطاقها أو أنسنتها. من خلال تلك الحيوانات قدم الكاتب (كما كل الآداب الإفريقية الشفهية) الكثير عن تاريخ الأجداد, والعادات والتقاليد, والأحكام الاجتماعية الموروثة فضلاً عن كونها مسلية وطريفة. قصة «لقاء الضبع والعنزة» (بقليل من الاختصار): «لا يجهل أي حيوان, أن الضبع حاول دائماً الإمساك بالعنزة, وبقيت العنزة تحاول الإفلات. كانت العنزة «بيا» عائدة ذات صباح, بعد زيارة عمتها المريضة. عند المنعطف, في مكان بعيد حدث اللقاء مع الضبع «بوكي». ارتعبت «بيا», فقال «بوكي»: «لن يفيدك الهروب, سأمسك بك بسهولة, هيا أخبريني: ماذا تفعلين وحدك؟». «زر... زرت عمتي, وها أنا أعود إلى البيت, قبل أن ألتقي بأحد لا أحبه». «اللقاء, حدث. تكرهينه؟ بالنسبة لك, نعم, أما أنا فأحبه, اليوم عندي مزاج للثرثرة. اسمعي: إذا ذكرت لي أربع حقائق, سأدعك تمضين في سلام». لم تصدق «بيا» ما سمعته, وقالت له: «موافقة, الأولى: تناولت وجبة كبيرة منذ قليل.. فسألها: هذا صحيح, كيف عرفت؟, ردت بيا: ببساطة لأنك لو كنت جائعاً, لالتهمتني فوراً. ابتسم قائلاً: «هذا صحيح.. وماذا عن الحقيقة الثانية؟». قالت بيا: لو قلت لأهل القرية أني التقيتك, وأني مازلت حية, لما صدقوني.. فقال لها: «أنت محقة, بعد هذا اللقاء يجب أن يكون أحدنا في بطن الآخر, ما الحقيقة الثالثة؟». قالت بيا: «لو كنت أعلم أني سوف أقابلك, ما خرجت من كوخي». راح الضبع يفكر, ثم اعترف قائلاً: «صحيح, لو كنت متيقنة, لبقيت في بيتك.. ما الحقيقة الرابعة لأني بدأت أشعر بالجوع الآن». فقالت: «إليك الحقيقة الأخيرة.. ليس عندك نية في أن تدعني أمضي».. فضحك «بوكي»: «إنها أفضل الحقائق, لأن أبناء جنسي لا عهد لهم. كم أمتعني هذا اليوم.. ها ها ها!!». ضحك بوكي لأنه استطاع خداع العنزة, ولأنه سيحصل على وجبة ثانية حالاً. وبقي يضحك ويضحك حتى انقلب على ظهره فوق العشب. استغلت بيا الفرصة, فركضت بكل قواها, حتى بلغت القرية.. ونجت بجلدها. سعدت العنزة «بيا» بنجاحها من أنياب الضبع, لكنها لم تتوقف عن التفكير: «إن رويت حكايتي, من سيصدقها؟». بكل تأكيد.. لا أحد. لعل مجمل تلك القصص تحمل الكثير من خصائص الحكايات، التي كتبت باستخدام «الحيوان»: خلق الجو الأسطوري العام الذي تشكله عناصر الحكاية, مع أنسنة الحيوانات وجعلها تنطق وتفكر وتدبر أمرها, ومفردات واضحة مباشرة دالة للمعنى.. مع إبراز القيم الاجتماعية, وطبيعة الصراع بين القوي والضعيف, مع غلبة الأضعف في حالة واحدة فقط: ألا وهي استخدام العقل. وهي ثيمة تميزت بها شخصية «أولي» الإغريقية الدميمة ذات العين الواحدة, إلا من استخدام العقل فينتصر دوماً.. الشكل الحكائي في ذاته, يحمل خصائص تعتمد على الشفهي (غالباًً) وتوريث القيم والأفكار بالحكاية, فضلاً عن إبراز شكل العلاقات الاجتماعية, وعلاقات الإنسان بالحيوان في تلك المناطق. وكل تلك الملامح تجعل من الطبيعي أن ندرجها في أدب القص للكبار، كما ندرج هذه الأعمال ضمن أدب الطفل دون حرج.. نظراً لأنها تتميز بأنها قصيرة وعلى لسان حيوان، وغالباً تنتهي بنهاية سعيدة، أو بحكمة فلسفية. كما تكتب نثراً أو شعراً، بكلمات سهلة، حول فكرة محددة ومباشرة، مع إزكاء القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية: مثل الصدق، الأمانة، الخير. وإن اعتبر البعض أن مثل تلك الأعمال تمثل مرحلة ما وانقضت من التاريخ العقلي للبشرية, فإن قامة كبيرة أدبية مثل «هانز أندرسون» استخدم الحيوان, وراجت بعده في إطار «أدب الطفل» تحديداً, وأيضاً بعض الأعمال الروائية للكبار مثل «مزرعة الحيوانات» التي انتقدت النظام الماركسي والاستبداد في العالم, بل لعلها تنبأت بسقوط القهر السياسي والاستبداد, بسقوط الأنظمة الشمولية. مصادر ومراجع: 1 - النجار، محمد رجب.. «التراث القصصي في الأدب العربي» (مقاربات سيو-سردية)- هيئة قصور الثقافة-عام2003م. 2 - مجموعة كتاب.. «ثقافة الطفل العربي»، العدد 50. 3 - ألن، روجر..«مقدمة للأدب العربي»- ترجمة «رمضان بسطاويسي-مجدي توفيق» - سلسلة المشروع القومي للترجمة - المجلس الأعلى للثقافة. 4 - عزوى، أمحمد.. «القصة الشعبية الجزائرية-سلسلة دراسات شعبية، هيئة قصور الثقافة، عام 2002م». 5 - سليم، لطفي حسن.. «الطفل في التراث الشعبي» - سلسلة الدراسات الشعبية، هيئة قصور الثقافة، عام2001م. 6 - نصار، حسين.. «الشعر الشعبي» - هيئة قصور الثقافة – عام2000م. 7 - سوكولوف، يوري.. «الفولكلور..قضاياه وتاريخه»- ترجمة «حلمي شعراوي-عبدالحميد حواس» - هيئة قصور الثقافة - عام1999م.