حيثما وليت في شوارع المدن الرئيسية، تراهم بأم عينيك تحت أشعة الشمس الحارقة، يتسولون، يسرقون، يبيعون ويشترون.. ويباع بطفولتهم ويشترى بها.. يخترقون الفوضى والزحام بأجساد كالحة، ووجود شاحبة وملابس مهترئة مختلفة المقاسات.. تخال البسمة شاقة عليهم.. يصرخون يبكون يستعدون بجوراح منهكة للمشيب قبل انبلاج الفجر.. يشكلون مجتمعاً صغيراً وسط مجتمع لا يرحم جل حكاياهم استثنائية تتشابه، تتكرر، تختزل مساحات شاسعة من الوجع المنظم.. فتحرق خلايا الدم وبريق الوجه، وصفاء القلب المفجوع. تسول وسرقة عندما يتحول البيت إلى جحيم بسبب الإهمال أو القسوة أو القهر أو التفرقة في المعاملة بين الأبناء، فإن من يشعر منهم بالظلم يفضل جحيم الشارع على المنزل، ففي كليهما جحيم لكن الفرق بينهما أن الأول مكان مفتوح، والآخر داخل أربعة جدران واجمة..وفي النهاية يكون الشارع أكثر قسوة؛ لأنه لا يمت لذلك الطفل بصلة، وباعتقادي أن "ظلم ذوي القربى أشد ضراوة"! الطفل فيصل غالب أحد هؤلاء الذين تجرعوا النارين ذو جسد كالح وبشرة سمراء داكنة وقلب مليء بالكره والحقد على كل شيء.. سألته عن عمره فأجاب: ماناش داري! ملامحه تفصح أنه في منتصف عقده الثاني وجل ما يتذكره أن والدته تطلقت من أبيه بعد سلسلة من المشاكل بقي في كنف أمه فترة ليست بالطويلة ليأخذه أبوه منها عنوة.. الخالة جرعته الويلات وحولت الأب المسكين إلى طاعته. هرب من منزله الريفي إلى المدينة بحثاً عن حياة جديدة استبدل دراسته النظامية بأعمال مهنية لا تتناسب مع عمره وجسمه النحيل، عمل في أحد البناشر ثم بائع ماء وفاين في الجولات والفرزات ليصل به الأمر إلى “جرسون” مباشر في مطعم شعبي، حيث قابلته وتعرفت على حكايته المؤلمة فهو كما يصف عاش فصولاً من المعاناة في البيت حيث الخالة وفي الشارع حيث “المعاناة” بلا حدود جوع، برد، بلطجة، ألم، حرمان.. فيصل اعتبر عمله الأخير محاولة إنقاذ من أحد أقارب أمه.. وهو قبل ذلك بقي سنتين يقتات على ما تجود به أيادي العابرين في الشارع والمصلين في الجامع، وحينما لم يستسغ هذا التسول، لجأ إلى السرقة بعد أن دله على وسائلها طفل متشرد مثله.. سألت فيصل عن أمنياته المستقبلية فقال بأنه يحلم بأن يكون ثرياً صاحب عمارة كبيرة ومطعم وسيارة آخر موديل، وأن أباه يطلق خالته ويرجع أمه. حق القات بالقرب من ذات المطعم التقيت بالطفل يوسف ابن العشرة الأعوام منهمك في تنظيف إحدى السيارات بملابس رثة وقدمين حافيتين ووجنتين محترقتين بفعل الشمس، حينما رآني متهيئاً؛ لأن ألتقط له صورة بللني بإسفنجة التنظيف!! والابتسامة تكسو محياه الشاحب، اعتقدت بادي الأمر أنه متخلف عقلياً، حتى جاءت الإجابة بعكس ذلك من زميل له يشاركه نفس المهنة.. أحمد 12عاماً وقد أفاد هذا الأخير أن أب وأم يوسف هما من أجبرا ابنهم على العمل في الشارع من أجل توفير مصاريف البيت والقات! سألت أحمد هل حكايته مشابهه فأجاب “لا” لأنه يتيم الأب والأم ولم يزد على ذلك ببنت شفه؛ لأن سيارة أخرى كانت في انتظاره. وعد وعيد ما جبلنا عليه كبشر أن تكون خشيتنا أكبر على مستقبل أجيالنا ككل مع التركيز الجاد والأكثر قلقاً على الفتيات الصغيرات؛ لأنهن الأضعف والأقل تحملاً وتكيفاً مع متغيرات الحياة، وفي قضية كهذه يحكمها الضياع تبقى الصورة أكثر قتامة وأشد إيلاماً وقسوة.. فهذه الفتاة التي تلجأ للشارع مجبرة بحكم ظرف ما تكون أشد عرضة للآلام النفسية والجسدية والاجتماعية والثقافية التي تعايشها وتزيدها ضياعاً على ضياع. قدر لعبير وهي فتاة ما تزال في بداية العقد الثاني من عمرها المكدود، تستوطن الشارع أكثر من البيت، ممتهنة لنوع شريف من التسول! تحمل في كلتا يديها كتيبات صغيرة عن الوعد والوعيد وعذاب القبر والآخرة وتستجدي بصوتها المجوع كل من يمر أمامها بأن يلتفت إلى بضاعتها ويتعظ ويشترى منها!! قابلتها في دهاليز إحدى المستشفيات الخاصة ذات جسد نحيل ووجه طفولي بريء تسكنه تجاعيد، مرتدية لزيها المدرسي المهترى المليء بالثقوب والأوساخ. وهو الأمر الذي أثار استغرابي.. اقتربت منها تفحصت بضاعتها الوعيدية التي لا تخلو أغلبها من عبارة يهدى ولا يباع، اشتريت منها كعربون فتح حديث بعد أن نهرتنى ب “خلينا نطلب الله” وبصعوبة أجابت أنها يتيمة الأب وهي واحدة من أربع بنات وثلاثة بنين يسكنون بيتاً للإيجار ويكدحون هنا وهناك من أجل مساعدة أمهم المسكينة في تحمل مصاريف البيت. زواج سعيد قد تكون ظروف عبير أقل قسوة من غيرها، بحكم أن عملها لا يتجاوز مربع المشفى الخاص، حيث قابلتها وأن أخاها الأكبر منها يعمل في بوفيه بذات المستشفى ويعيدها إلى البيت مساء كل يوم، وليس هذا فحسب فوالدتها مهتمة بتدريسها وأخواتها الصغار، وهي كما تفيد تدرس في الصباح وتعمل من بعد الظهر أما في العطلة فإنها تعمل طوال اليوم. بعد عبير انطلقنا إلى حيث الزحام والحكايا الأكثر إيلاماً فالسنة العامة حافلة ببلاوي وتتسلى بين الفنية والأخرى بأخبار فتيات اختفين أثناء بيعهن في الشوارع أو تعرضن للاستغلال الجنسي فزوجهن أهاليهن غضباً أو تعرضن للتعذيب الجسدي أو الحبس. وهي نفسها السنة العامة التي قادتني إلى سوسن بائعة الزعقه واللبان في أحد أسواق تعز المزدحمة قابلتها بصعوبة وتحدثت إلي بصعوبة أكبر مفصحة عن حكاية غرامية أدت إلى كسر قدمها اليمنى وأصبعين من يديها اليسرى ورضوض تفرقت على باقي الجسد لتبقى حبيسة أربعة جدران طيلة أربعة أشهر قد ولت منذ أكثر من شهرين.. سوسن البالغ عمرها حوالي الثانية عشرة أو الثالثة عشرة قالت إن والدها الأصم من فعل بها ذلك عقاباً لها على وشاية أخيها الأصغر منها بأنه رآها في حضن سعيد ماسح السيارات. سوسن ورغم صغر سنها أفصحت عن رغبتها بالزواج؛ لأنها تريد أن ترتاح من “اللف والدوران” في الشوارع مستدلة بزميلة لها وفي نفس سنها أتى لها ابن الحلال وهي الآن مرتاحة وفي أحسن حال. شياطين الإنس وبما أن قضايا الطفولة وحكايا أطفال الشوارع تتشابه، تتكرر في أكثر من مكان وزمان أكتفي بما ذكرت آنفاً مع ضرورة الإيضاح أن بعض الأطفال المشردين في الشوارع لم تكن الأسرة مسئولة عما وصلوا إليه من ضياع، فقد يتأثر أحدهم بأصحاب السوء فينتج عنه سلوك مغاير يجعله يفقد روح المسئولية حتى تجاه نفسه، فالبيت كما يعتقد يقيد أفكاره ويجبره على فعل سلوك معين والتزامات محدده، وهو يريد الانطلاق والحرية وأن يعمل كل ما يحلو له.. وبما أن أصدقاء السوء في هذه الحالة قدوته يصبح الشارع ملجأه الوحيد ليفعل كل ما يحلو له، بعيداً عن المراقبة واللوم وتقييد الأفكار. حكى لي الزميل فهمي م،ع أن أخاه الأصغر منه 15عاماً استحوذ عليه شياطين الإنس وبلاطجة السوء، وصار عضواً فاعلاً في إحدى العصابات “الفوضوية” والشكاوى ضده في ازدياد مطرد، تتوارد إلى البيت باستمرار. فهمي أكد أن ظروفهم الأسرية جيدة، وأخاه لم يعش معاناة الأسرة من سابق.. الآن:”ابن الصالح يطلع طالح”؟! وبلغة المحبط ختم فهمي حديثه: نخليه للزمن يمكن يقدر يريبه. المستبعدون وتختلف الدراسات في تعريف أطفال الشوارع فبعض منها يضع معايير مثل أن يقيم الطفل في الشارع أو يكون محروماً من مصدر للرقابة أو الحماية سواء أكان من الأفراد أو المؤسسات، أو يكون مصدر دخله وبقائه هو الشارع وتنصرف كل هذه التعريفات عن تحديد المصدر البنيوي للمشكلة أو تعجز عن ربطها بالسياق الاقتصادي والاجتماعي الذي توجد فيه.. وبصورة أكثر وضوحاً وشموليه تعرف الدكتورة عزة خليل وهي باحثة مهتمة في هذا الجانب أطفال الشوارع بأنهم الأطفال المستبعدون من النظام الاقتصادي والاجتماعي بكل مؤسساته والذين يقيمون في عالم منعزل عن عالم الكبار التقليدي وموازٍ له، تربطهم صلات بعالم الكبار المهمشين مثلهم، ويصعب إدماج هؤلاء الأطفال في العالم التقليدي طالما أن عالم الشارع يحقق لهم إشباع الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والوجدانية التي فشل العالم التقليدي في إشباعها. إستراتيجية وطنية تقول ليلى مطهر الشريف، وهي باحثة اجتماعية مهمته بهذه القضية: إن مشكلة أطفال الشوارع من المشكلات العالمية الشائكة وذلك لارتباطها بالسياق التاريخي للتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما أن المشكلات والحروب والأزمات الاقتصادية وعلى وجه الخصوص في البلدان النامية التي ألقت بظلالها على المجتمعات ومن بينها مجتمعنا اليمني أصبحت تشكل خطراً على مستقبل الأمن الاجتماعي إذا لم يتم دراستها وتحليلها ووضع المعالجات الصحيحة لها. ومن هذا المنطلق أكدت الشريف أن قضية أطفال الشوارع قضية اجتماعية، إلى جانب كونها هم وطني يحتم علينا إلزامية الوعي والإدراك العميقين في معالجة المشكلة معالجة حقيقية من حيث حجمها وآثارها ونتائجها المستقبلية معالجة نستمد مشروعيتها من وجود إستراتيجية وطنية للأمن الاجتماعي لطرح إجراءات فعالة واقعية لاجتثاث ليس فقط ظاهرة تشرد الأطفال، ولكن كل العادات الشاذة البعيدة عن مجتمعنا. وأبدت الشريف استغرابها من بعض الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين الذين يتحاشون الخوض فيها.. والواجب أن تحظى هذه القضية بمزيد من الاهتمام في مجالات البحث العلمي والأكاديمي. التشخيص السليم الصغار هم في النهاية ضحايا الكبار هذا ما لفت إليه الباحث الاجتماعي سليم العزعزي معتبراً مشكلة أطفال الشوارع من الظواهر الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع، وتعكس طبيعة المشكلات الاجتماعية والقضاء عليها يستلزم التشخيص السليم لضمان العلاج السليم والتغلب على العوامل التي أدت إليها بعد تحديدها بدقة؛ لأن لها آثارها السيئة سواء من الناحية الصحية أو الاجتماعية أو الأمنية.. وختم العزعزي حديثه بأن الجميع مسئول عن هذه الظاهرة بدءاً من الأسرة والمدرسة والمسجد والهيئات والمراكز والمجتمع والدولة بكل مؤسساتها وهيئاتها والمطلوب من هذه الجهات ومن خلفها الجهات الخارجية الداعمة التصدي بقوة وحزم للحد منها من خلال إستراتيجية شاملة وخطط وبرامج واضحة للاهتمام بالطفولة والنشء؛ كونهم جزءا من الحاضر وكل المستقبل.