الوحدة اليمنية الحدث الأبرز في المنطقة العربية لمائة سنة منصرمة، لما يحمله من دلالات ومعان بعد انتكاسات مريرة واخفاقات متكررة. لذا كانت الوحدة حلماً ظل يراود أفئدة اليمنيين حتى تحقق هذاالحلم بعد قرن أو يزيد من المعاناة والقهر والتشرذم.. واليمني هو وحدوي بفطرته وحدوي القلب والأرض والجغرافيا، فهو لحمة واحدة وإن كانت مجزأة يوماً ما، لكن عندما نبحث عن دور الشاعر في فترة ما قبل الوحدة يتبادر إلى الأذهان عديد شعراء جسدوا الوحدة وتنبأوا بها وحلموا وعشقوا يوماً سوف يأتي وأتى أمثال: عبدالله عبدالوهاب نعمان، ومحمد سعيد جرادة، وغيرهم من الذين جسدوا قيم الوحدة وعبروا عنها، دون مواربة ولامداراة.. ومحمد سعيد جرادة، شاعر, عالم، عاصر أحداث ماقبل الوحدة في الجنوب والشمال، بل نجد معاصرته تمتد إلى ماقبل الثورة، فحياته سجل نضال كبير يستحق الوقوف أمامه.لذا نجد محمد سعيد جرادة يجسد كل قيم الوحدة عن وعي قل مثيله وذلك ناتجاً عن إحساسه العميق بمأساة الوطن وتشرذمه وتمزقه وهو يرى بأم عينيه حياة البؤس والشقاء والتعاسة بعرض الوطن وطوله. فلقد عاش مأساة الوطن في الجنوب وهو يرزح تحت نيران الاستعمار البريطاني الذي أذاق الشعب صنوفاً من العذاب، ثم نجده يعايش مأساة اليمنيين في الشمال تحت حكم الجهل والتخلف والمرض، الثالوث الرهيب الذي تجسد في حكم الإمام يحيى وابنه أحمد، الذين قضوا على كل نسمة حرية وتعلم وذلك حين عاش شاعرنا فترة من الزمن في مدينة تعز وحينها يعايش الفجر الأول عند انبثاق ثورة 26 سبتمبر التي رآها المرحلة الأولى نحو تحقيق الوحدة اليمنية، لذا نراه يقول مذكراً الجموع الوطنية بالوحدة : بوركت ياأيلول إنك صورة اليمن الجديد ورمزه المتجسم إن الجماهير العريضة قدمت أغلى الفداء ولاتزال تقدم والوحدة الكبرى أجل قصيدة يصغي لها هذا السواد الأعظم وهكذا كان نداء الوحدة مبكراً عند محمد سعيد جرادة بل قد نراه قبل ذلك في قصيدة قالها بعد القضاء على ثورة 48م الثورة التي ململت الشعب وأيقظته نحو حقوقه وأحلامه المهدرة، لذا رافق هذه الثورة الكثير من السلبيات أولها كشف برنامجهم مبكراً، حتى عرف ولي العهد أحمد حينذاك فعمل على تطويق الثورة.. لذا شاعرنا يسعى إلى إيجاد الموعظة من هذه الثورة التي يجب أن تكون وحياً ملهماً للثوار والانطلاق نحو خلاص الشعب وتحريره وتوحيده فقال : عصر الحضارة لاح وجهك هادياً ليحرر الأقطار والبلدانا ماذا حملت من الجمال لأعين سئمت ضروب القبح والألوانا لقد اختلفنا فاستبد قوينا ولقد خسرنا فاستفاد سوانا جهلت تعاليم الإله عقولنا والجهل أنفذ في القلوب سنانا واليوم تبتسم الحياة لمن رمى ثقل الحديد وقاوم الطوفانا فلتلق الأبصار في متموّج للعزم يخلق نهضة وكيانا إن لم يلح للشعب مشعل نوره لاقى الردى بعد الزمان زمانا فهكذا تبدت صورة 48 الأليمة عنده، فوجدها مرحلة للانطلاق نحو تحقيق الأهداف وتوحيد الصفوف، وبداية العزم لمرحلة جديدة فيها من مشاعل التنوير، والانطلاق نحو الغد المشرق للأرض اليمنية. وعلى هذا النحو نلاحظ ذلك العمق الوحدوي في شعر الجرادة الذي نستطيع أن نسميه الوعي الوحدوي، والإيمان بالقضية والنضال من أجلها، فلقد كانت الوحدة شغله الشاغل، وحبه الأبدي النابع من حبه لليمن أرضاً وإنساناً، حاضراً وتاريخاً، لذا يرى حياته ناقصة من دون بلاده اليمن، التي تحيا في مجرى دم، وتسري في عروق قصائده التي ينثرها دوماً وأبداً أمام فاتنته اليمن الذي يهديها إبداعه وفكره : يابلادي عوداً إليك فقد سافرت في رحلة القصيدة الجهيده هزني في رباك صوت حبيب كهزار الربيع غنى وروده وحدوي الصدى يعانق القلب حفياً مباركاً ترديده إنها تلك الاة العميقة النابعة من وجدان الحب والعشق العذب للوطن، إنها ترديدات القلب صائحاً معلناً وحدويته فيتردد الصدى مباركاً ذلك الصوت بالحب للوحدة والدعوة لها، والإعلان بها والتبشير لعله بذلك يستشرف آفاق المستقبل، ويستطلع أسرار الواقع، وهو بعيد ويرتب أفكاره من أجل الوحدة إيماناً بها فيريد أن يعمم هذا الإيمان، لذلك نراه يبحث عن ذلك في مفردات ومعاني التاريخ مذكراً الجموع بأجدادها ومآثرها وخلودها الذي لابد أن يتخلد في قلوب الناس، لذا لابد من أن تتسلل أفكاره هذه إلى وعي الناس وحياتهم، فنراه يعمق إدراك الناس بالوحدة وإنها لابد أن تكون في المستقبل القريب، لذا نراه أولاً في كثير من القصائد يمجد الوطن، وأنه قد ملأ كل كيانه فنراه يتحدث قائلاً بحميمية العاشق الوامق : إن تسلني أيها الجمع الكريم عن بلادي فبلادي في وجودي في كياني النضو في قلبي الكليم في ذهولي في وجومي في شرودي في قصيد مثل أنات الجحيم قلته في وصف فردوسي الفقيد فنرى شاعرنا بذلك الحب المتوقد فبلاده هي كل وجوده ومنمنمات حياته المليئة بالجروح، ووحدة بلاده غدت فردوساً مفقوداً، لابد منه، للابتعاد عن عذابه وتمزقه وتمزق شعبه المجيد، شعبه الذي يعتز به، ويتمنى وحدته التي طال انتظارها، كما ينتظرها الملايين غيره من أبناء الشعب الواحد الذي دائماً ينجذب إلى الأرض ويعشقها حد العبادة، ويتوحد فيها حيث لاتحضر لا أصول أو فروع، إنما هو الهدف الأسمى والأرفع، التوحد والانعتاق يمانون نحن وإن بعدوا مقاس الحدود وإن قربوا تؤلف مابيننا نزعة إلى الأرض أعراقها تجذب ويجمعنا يمن واحد به يصهر الفرع والمذهب ونحو العروبة أرتالنا تسير ومن نبعها تشرب فهنا تحضر الصرخة الوحدوية وبأن اليمن موحد وجدانياً فهو قدر اليمني الذي تجسدت فيه كل قيم التسامح والتعايش بعيداً عن المذهبية، كل ذلك يجسده بحبه لليمنالذي يشدو بها بألحان زاهية حتى في عشقه وحبه دائماً يتجه إلى لفظ «يمنية» يمنية طابت أرومتها وسمت بها الغايات والمثل ياغادة اليمن التي نزلت في العين طيفاً ليس يرتحل مني إليك تحية حملت شوقاً به الأحشاء تشتعل فمن هنا يتضح الوعي العميق بالوحدة، الذي جسدها بألفاظه ومصطلحاته التاريخية والتراثية الذي هي أيضاً تشكل وعي اليمنيين، لذلك نجده لايهمس أو يتمتم، ولكن يجهر بالدعوة للوحدة بصوت يتردد صداه في جبال وسهول الأرض اليمنية.. هذا أيضاً أشار إليه الدكتور أحمد علي الهمداني بأن موضوع الوحدة عند الجرادة كان يرتبط بالقضية الوطنية في تجربة الشاعر الإبداعية بالنفس الوطني الذي كان يستولي على أغلب مناحي القصيدة في حياته وتجربته. فنلاحظ ذلك النفس الثوري الوحدوي القوي في قصائده التي يستنهض بها الهمم، وأنه قد جعل كل حياته ونتاجه من أجل بلاده وتوحدها، من أجل الثورة والميلاد الجديد، حيث قافلة الصباح، مذكراً الجموع بحياتها السابقة تحت حكم الطغاة والجلادين وهم يعملون على تقسيم الأرض الواحدة وتفتيتها، واصفاً حكم أشباه السلاطين في الجنوب الذين كانوا أذناباً للاستعمار ناهيك عن حكم الإمام البدائي في الشمال الذي يحكم بعقلية العصر الحجري، لكنهم ذهبوا إلى غير رجعة وبقت الجموع المتحررة. جمعوا على وعد لفرقتنا وتفرقوا من غير ميعاد ذهب الجميع وعاش بعدهم يمن الأباة الثائر الغادي فأعداء الحرية والتوحيد والسلام قد ذهبوا إلى غير رجعة رحل الاستعمار وانجلى ليل الإمامة فكانت الثورة وانبلاح نور الحرية فلا بد من السعي للوحدة وتحقيقها وهاهو يتذكر الرموز التراثية التي توقظنا إلى الحرية والوحدة. طوفت كل مدينة عبقت بشذى من التاريخ مياد وسمعت عبد يغوث يوقظنا من خلف أبعاد وأبعاد نادى بتوحيد البلاد وقد ربض الردى منه بمرصاد فهو لايريد الثورة فقط إنما، الوحدة الحلم الذي لابد أن يتحقق فهو المزيد الذي يبتغيه ففي قصيدة مغناة قالها بالتغزل بعيد ثورة اكتوبر يذكر ذلك : وتمضي السنون تحث الخطى ويكتنف الأرض عهد جديد ينال به الشعب أهدافه ويطلب من فوق ذلك المزيد لاكتوبر المجد أن البلاد في ظله أدركت ماتريد ولم يبق لحن تغنى به بلادي في بحرها والصعيد سوى وحدة اليمن المبتغاة فهي الرجاء الوحيد الوحيد فعلى هذا النحو نرى وعي شاعرنا جرادة بالوحدة وأنها كانت شغله الشاغل، وهو النابع من روحه الوطنية والقومية الذي نراها بوضوح في قصائده التاريخية، وقصائده المغناة التي استقاها من معين حبه الصافي للوطن، لذلك كانت الكلمة عنده من أجل الوطن ومن أجل حياته الهانئة السعيدة، فهو الذي جسد حب صنعاء وعدن برمزية التوحد والذوبان في بوتقة الالتقاء الشعري الجميل ومن خلال نصوصه الشعرية «كوجه صنعاء» «دمعه علي الزبيري» «إنسان اليمن وعمود الشعر» «بعد حصار السبعين يوماً» لانرى ذلك التجذر الوحدوي العميق قولاً وفعلاً ولمالا وهو مازال يردد صيحاته لايقاظ الشعب وتنبيهه. فياشعب قد آن أن تنجلي غداً باسماً مونقاً ناضرا