يعود الكثير من المهتمين بقصيدة النثر إلى أمين الريحاني، حيث يشيرون إلى أنه كتب عام 1905 الكثير من الشعر المنثور أو العديد من الكتابات التي أطلق عليها شعراً منثوراً. ولا شك أن مثل هذه العودة تغني المشهد النثري الشعري وتوثق لإمكانية التعدد. والواضح أن الذين كتبوا قصيدة النثر لم يستقروا على تسمية واحدة إلا أخيراً، ولعل من التسميات التي لحقت بهذا النمط الشعري قصيدة النص والكتابة بعيداً عن الوزن والنص المفتوح، وقصيدة الكتلة، وقد سماه حسين مردات «النثر المركز»(1)، وسماها الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح «الشعر الأجد». وقال عنها الدكتور كمال أبو ديب: «خلق إيقاع شعري حديث ليس عملاً مفتعلاً، إنه حتمية تاريخية ولقد جاء حتماً، ودور المؤثرات الخارجية يجب أن يجدد من جديد». وقد كان الدكتور حاتم الصكر أكثر توصيفاً لمهارات ومناقب هذا البديل المنُقدّ من حلم صار واقعاً في المشهد الشعري العربي، حيث أوجز ذلك في عدة نقاط: « الإيقاع أسبق من العروض والوزن وأشمل منهما. لا يجدد الإيقاع الداخلي خاصة تحديداً حصرياً، لأنه شخصي ومتغير. يتغير الإيقاع كلياً بتغير البنى المكملة ثقافياً. لا يظهر الإيقاع الداخلي مجسداً بالإنشاد بل بالقراءة وما يترتب عليها من مزايا. وهو إذاً مهمة فنية تأليفاً، وجمالية استجابة وقراءة وتلقياً. ثراؤه في هدم أسوار الشعر والنثر للانتفاع من إيقاعات مختلفة. سيظل الخلاف حوله طويلاً لأنه مركز تقاطع لعدة قضايا تجمعها كلمة واحدة. لكل قصيدة إيقاعها الذي تصنعه المهيمنة سواء على المستوى الدلالي أم الصوتي أم التركيبي(2)».. أسهبت في الاقتباس هنا للضرورة الجوهرية للمحتوى. ولعل تاريخية ظهور قصيدة النثر حقيقة ترتبط بمجلة «شعر»، «وسواء بالنسبة لأنسي الحاج أم لأدونيس أم لجماعة مجلة «شعر» عامة فإن الانتباه إلى قصيدة النثر كان في حد ذاته مؤشراً إلى يقظة قصوى تحس مخاضاً آخر للتعبير الأدبي في حقل الشعر، ويكفي الآن أن نقارن تلك اليقظة بالنوم النقدي العميق»(2). إن محاولة إيجاد جذور تراثية لقصيدة النثر بعيداً عن التهور الذي يصمها بالخارجي والأجنبي هو حقاً مشروع، سواء كان ذلك على المدى البعيد أم القريب. وأجمل ما يمكن الاتكاء عليه إزاء هذا المبحث أو اللون أو النوع الأدبي هو ارتباطه بالشعر الصوفي واللحظة الصوفية المشرقة. وإذا كان أنسي الحاج أحد أهم أقطاب قصيدة النثر قد رأى بأنه يجب على الشاعر أن يمارس فيها الجنون والتخريب المقدس، وهذا الحديث ينطبق كثيراً على شعراء الطريقة الصوفية، الذين واجهوا بسبب معارفهم وأشعارهم المتمردة كل صنوف التعذيب والانتهاك، إلى الحد الذي قدم فيه الحلاج حياته ثمناً لمعتقداته التي آمن بها على طريقته ودعمها بخلاصة فكره وأشعاره ودمه وتجلده. وتعد حياة الحلاج المتمردة الشجاعة صورة نموذجية للاستلهام المغاير المشفوع بالتصوف النبيل، التصوف الملتصق ب«صفاء المعاملة» كما عرفه الجنيد، وهي حياة لم يألفها الناس بما تحمل من أفكار ومشاعر، حتى أن الشيخ عبدالقادر الكيلاني اعتبره «سكراناً غائباً عن العقل»، وهو في الحقيقة في كامل وعيه وعقله. إن صراخه في أسواق بغداد بمعرفته، تدعم قولنا ولا تخذله، ومن ذلك إصراره على أن يقول (شعراً) هكذا: «أيها الناس اعلموا أن الله قد أباح دمي فاقتلوني.. اقتلوني تؤجروا واسترح اقتلوني تكتبوا عند الله مجاهدين». وبالفعل فقد حكم القاضي أبو عمر المالكي بقتله، ونُفذ ذلك على طريقة التصفية القذرة إذ قطعت يداه ثم رجلاه، ثم أحرقت جثته وجُمع رماده فذروه في نهر دجلة. قتل الحلاج وهو يندح قصائد نثرية إلهية بديعة: «هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي، تعصباً لدينك وتقرباً إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفته لي لما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما لقيت ما لقيت، فلك التقدير فيما تفعل». وقال قبل موته: «سأعود بعد أربعين يوماً». وكان الحلاج الذي ضرب ألف سوط قبل موته قد كتب أجمل الأشعار في حب الله؛ ذلك الحب الذي تحول إلى عشق وجنون أوصله إلى حالة من السعادة القصوى (النرفانا)، فآمن بأنه توحد مع الله وأصبح هو «الحق». وقد استند خصومه إلى هذه المفردة: «أنا الحق»، فقتلوه إلا أن قتله أزاد من نشر أفكاره وأشعاره «وطواسينه» التي جاءت كآيات في كتابه «الطواسين»؛ وهو عبارة عن قصائد تفجرت مثل عيون الماء في بحر اللغة وأصبحت مميزة داخل السياق الصوفي نفسه وخارجه، ومما جاء في «الطواسين» الذي يعد كتاباً مليئاً بالأسرار: «اشتق اسم إبليس من رسمه». وإذا كانت قصيدة النثر تميل إلى الإيجاز فإن هذه السمة هي أيضاً من سمات قصائد النثر الصوفي والشعر المكثف، المعتمدة في حركتها على غاية محددة: تفجير اللغة وصياغتها لتحمل قراءات متعددة في أقل قدر من الكلمات والجمل؛ ومن ذلك موقف النفّرّي الشهير: «أوقفني في كبريائه. وقال لي: أنا الظاهر الذي لا يكشفه ظهوره، وأنا الباطن الذي لا تراجع البواطن يدرك من علمه». وتعد «مواقف» النفري من أهم الأشعار التراثية التي تأثر بها جيل الرواد من كُتّاب قصيدة النثر، يضاف إلى ذلك القصيدة المترجمة، ولعلنا سنلمس ذلك في استشهادات أدونيس ومؤلفاته وقراءاته، ومن ذلك هذا الموقف الذي استشهد به أدونيس كمفتتح لأحد دواوينه: «أوقفني في التيه وقال: اقعد في ثقب الإبرة لا تبرح، فإذا دخل الخيط في الإبرة لا تمسكه، وإذا خرج لا تمده، وافرح فإني أحب الفرحان». وإذا كانت قصيدة النثر تنشد غايات كثيرة فإن أهم هذه الغايات تلامس الفائدة المباشرة في الارتقاء باللغة والسمو بالتناول بحيث يصبح الأمر إبداعاً مخالفاً لما هو سائد؛ ومن ذلك مثلاً قول ابن عربي: لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان، ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف، وألواح توراة ومصحف قرآن وإن من الأشياء التي يجدر التطرق إليها تلك العلامة المشتركة بين الطرف الأول قصيدة النثر الصوفي والطرف الممتد منه قصيدة النثر الحديثة، فقد طبقت القصيدة الحالية مقولة النفري في أن «الرؤية متسعة والكلمة أو العبارة ضيقة». وإذا كان العصر يتطور والزمن ينمو فإن ذلك يدعو إلى توسيع الرؤية بحيث تحتوي لغة جديدة؛ ومن ذلك ما قاله جلال الدين الرومي: «يظهر الجمال الخاطف كل لحظة في صورة فيحمل القلب ويختفي في كل نفس يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد، فشيخاً تراه تارة، وشاباً تارة أخرى، ذلك الروح الغواص في المعاني قد غاص إلى أعماق الطينة الصلصالية». ومن ذلك رؤية البسطامي التي تترك أسئلة فلسفية تبحث عن قراءات جديدة وإجابات ليست بالضرورة محددة؛ يقول أبو يزيد البسطامي: «ومن أبو يزيد...؟ ومن يعرف أبا يزيد؟ أبو يزيد يطلب أبا يزيد من أربعين سنة فما يجده». وفي العصر الحديث كانت حياة الشاعر الكبير محمد الماغوط صوفية بحتة، فقد اختار العزلة بعيداً عن الناس، لكنه عبر عن أحلامهم وجوعهم وآمالهم، وهي عزلة مفروضة لأنه اختار الجماهير. يقول: «أظنها من الوطن هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين أظنها من دمشق هذه الطفلة المقرونة الحواجب هذه العيون الأكثر صفاءً من نيران زرقاء بين السفن أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعد.. الرصيف الحامل طفله الأشقر يسأل عن وردة أو أسير عن سفينة وغيمة من الوطن والكلمات الحرة تكتسحني كالطاعون».