المطلقة متمردة، والعانس لم يقبل بها أحد، أما الأرملة فامرأة مسكينة شاء قضاء الله أن تحمل هذا اللقب، وكتب عليها القدر مواجهة الحياة ومعاناتها بمفردها، وأن تعيش محنة حقيقية تختبر إرادتها وتكتشف معدنها، بعد أن غاب سندها الأول ورفيق عمرها وخطفه الموت ورحل به إلى الرفيق الأعلى. تدخل عالم الأرامل بكل ما فيه من غُبن، وبؤس، و قسوة على الذات، ومشاعر جمة مؤلمة.. تدخله محاولاً الحصول على إجابات لتساؤلات تطرحها، على استحياء، لتتكشف معها معاناتهن المتعددة “النفسية والمعنوية والاقتصادية و... خصوصاً أن ثمة من لا يرحم المرأة الوحيدة بلا رجل مهما كان سبب تلك الوحدة. مذكرات أرملة أم فاروق امرأة نالت لقب أرملة، قبل عشر سنوات، ولطالما تمنت ألا تكون واحدة ممن يحملن هذا اللقب الذي وسامه الأسى ووشاحه “الزي الأسود” ليس إلا لما طالها من الأسى والحزن والحرمان والبؤس الحياتي، جراء غياب زوجها وعائل أولادها، والذي قضى نحبه في حادث إطلاق نار من شخص معتوه مريض نفسيا، وتحملت هي مشاق تربية وإعالة خمسة من الأبناء خلفهم لها. أم فاروق وإن بدت قوية وصامدة أمام أمواج الحياة العاتية التي غالباً ما تواجهها وحيدة إلا أنها سرعان ما تنفك عن صمودها هذا، وتكون عاجزة عن إيقاف دمعة باتت معالم سريانها بارزة على خدها. تقول أم فاروق: “في لحظات كثيرة وخصوصاً لما أكون في حالة انفراد، أستعيد فيها لحظات الصفا، وذكريات الماضي الجميل، وأحن في ساعات الجفا إلى أيام العشرة الخالدة التي لا تمحوها السنون، وحينها قد تنساب الدموع من عيني بغزارة وأبكي وفي جداني لوعة ومرارة، وخصوصاً إذا ما قارنت هذا بذاك، هذا الذي صرت إليه من الحياة التعيسة والصعبة، بتلك الأيام التي خلت وكنت فيها سيدة البيت أتبختر غير مبالية بمجريات الأيام المتوالية. وتختم أم فاروق: “من الأمور التي أراها صعبة والتي أواجهها بعد فقداني زوجي ما يتعلق بتربية الأبناء، وخصوصاً الذكور منهم، فهم غالباً ما أحس أنهم في أمس الحاجة إلى وجود والدهم ليس لشيء ولكن اعتقاد مني أن دوره في تربيتهم سيكون أفلح وأنجح مما أقوم به أنا في هذا الشأن، حيث إن القسوة أحياناً مطلوبة في التعامل معهم ليتعلموا الرجولة والعنفوان، وهذا مطلوب بحقهم أكثر من شقيقاتهم البنات، وتلك خصال قد لا تستطيع امرأة غرسها في نفوسهم وسلوكياتهم، ولهذا فأنا أحاول جاهدة أن أقسو عليهم حتى لا يقال لهم مثلاً بأنهم “تربية امرأة أو أبناء مرملة”. صرخات تمرد مخنوقة أما أم أحمد فقصة أخرى على ذات السياق، فقبل نحو 15عاماً توفي زوجها بعد معاناته من مرض عضال ألم به وأدى إلى وفاته، وترك لها حينها، أحمد “ثلاث سوات” وفاطمة “عام ونصف العام” وفي تلك اللحظة التي حصلت فيها على صفة أرملة، قرر لها أن تعيش في بيت أهل زوجها. لم تستطع تلك الجميلة حينها أن تخلع عنها السواد أبداً، وظلت تسمع تلك الكلمات التي تصفها دائماً بالأصيلة التي لم تترك أبناء زوجها وأهله وأنها لا تخرج من باب البيت إلا برفقة حماتها “أم زوجها” لتبدو وكأنها تعشق تلك القوالب التي وضعت فيها، وتخشى دائماً أن ترتدي ثوباً ملوناً، فتسمع كلمات مغايرة لما اعتادت عليه من التشجيع، فيقال انظروا لقد نسيت زوجها..”. “أم أحمد” لا تعرف القراءة والكتابة، فلم تخرج حياتها عن إطار واحد متمثلاً في خدمة والدي زوجها المتوفى وشقيق زوجها الذي لم يتزوج بعد، وكذلك ابنها وبنتها أيضاً، لم تتمرد يوماً على شيء، فكل القرارات كانت تؤخذ لها بدءاً من الطعام والملابس إلى مواعيد الخروج لزيارة الأهل والعودة، لكنها فجأة وبعد نحو عشر سنوات أصبحت تعاني حالات مرضية من ضمنها تشنجات وهيستيريا تنتابها بين الحين والآخر، وكأنها صرخات تمرد مخنوقة في عالم يسوده الجفاء والقسوة. نظرة قاصرة الخبراء والاختصاصيون الاجتماعيون يرون من ناحيتهم، أن المرأة الأرملة ما تزال تعاني نظرة قاصرة من مجتمعها، رغم ترسخ مبدأ القضاء والقدر.. مشيرين إلى أنها هي ذات النظرة التي تعانيها المرأة المطلقة التي ربما طلقت لأسباب خارجة عن إرادتها، أو المرأة العانس التي لم تتزوج بعد لظروف قد يكون المجتمع سبباً جوهرياً بأوضاعه ومشكلاته المختلفة كالبطالة والإسكان وغلاء المهور وأسباب أخرى عديدة.. شفقة وتوجس الباحثة الاجتماعية رئيسة جمعية الرحمة النسائية الأستاذة أسماء شمار قالت: “إن نظرة المجتمع للمرأة التي بلا زوج أرملة أو مطلقة، هي نظرة واحدة، إلا أنها بالنسبة للأرملة تبدأ بالشفقة، وللمطلقة بالتوجس والشك، ومن ثم فإن النظرة للأرملة أرق وأخف، نظراً لأنها فقدت العائل لظرف خارج عن إرادتها. وتضيف: “إن المجتمع الذي ينظر إلى المرأة على أنها كائن أقل من الرجل، عادة ما يضع علامات استفهام كثيرة حول المرأة الوحيدة سواء كانت عانسا لم تتزوج بعد، ومع هذا يدينها مثل ما يدين المطلقة التي ربما طلقت لأسباب خارجة عن إرادتها، وتبقى دائماً المطلقة هي المدانة والمشكوك فيها وكل العتب واللوم عليها إلا ما ندر وتوضحت أسبابه بأن الزوج هو المذنب. وبخصوص الأرملة قالت شمار: “إن المرأة الأرملة لا تنجو هي الأخرى أيضاً من النظرة القاصرة تجاهها كامرأة وحيدة وإن كانت لا حول لها ولا قوة إزاء الوضع الذي آلت إليه حياتها الزوجية والأسرية عموماً لأن إرادة الله فوق كل شيء والمفروض أن تجد التعاطف ممن حولها, لكنها حتماً لا تنجو من نظرات الشك والريبة فهي دائماً موضوعة تحت المجهر فلو تحدثت مع رجل قيل إنها تسعى للزواج منه، وإذا زارها أحد بقصد النية الحسنة والمواساة تناقلت الألسن الحديث.. المهم أنها تنتقد إذا تصرفت ولو بشكل طبيعي هي وأولادها مقارنة بالمرأة التي ما زال عائلها على قيد الحياة. حرية مقيدة وحسب رئيسة جمعية الرحمة النسائية، فإن المرأة الأرملة تواجه مشاكل عدة، منها أن المجتمع ما يزال يضع قيوداً لحركاتها وحريتها كأن يجبرها بشكل مباشر أو غير مباشر على أن تظل مرتدية الوشاح الأسود ولا تفارقه محرماً عليها بقية الألوان الأخرى، ويجعلها مضطرة دائماً لإرضائه وتجنب انتقاداته الصاخبة، ويحرم عليها لبس باقي الحلي وأدوات الزينة والتجميل النسائية، وكذا عدم حضور المحافل والمناسبات الفرائحية، وإن حضرت مضطرة فبوضع شاذ ومحدود، وإن عرض عليها الزواج وقبلت به تزوجت فهي ليست أصيلة ولم تراع العشرة. في ميزان الشرع عن الرؤية الشرعية لديننا الإسلامي تجاه المرأة الأرملة وفي مقدمة ذلك حقها في الزواج، يوضحها الداعية الإسلامي سيف عبدالرحمن غانم، إمام وخطيب جامع الخير في مذكرة كتب لنا فيها السطور التالية: “إن ديننا الإسلامي الحنيف يراعي الفطرة البشرية التي فطرها الله سبحانه وتعالى عليها، ومن ثم فإنه قد أحل زواج الأرملة، وجعل لها فترة عدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، أو وضع الحمل إذا كانت حاملا، وهذا بينه الله عز وجل في محكم كتابه الكريم حين قال: “والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير” صدق الله العظيم ويوضح الداعية سيف: “الزواج حصن للمرأة والرجل معاً، وإن كانت هناك تقاليد تنظر للأرملة التي تتزوج نظرة سيئة، فهي نظرة خاطئة، ولكن ينبغي أن تراعي الأم مصلحة أبنائها في اختيار الزوج، وأن يراعي الأبناء أيضاً والدتهم، ويحسنوا إليها إذا رغبت في الزواج في أي سن ولا يتهموها، وأدعو المجتمع لمراعاة الأرامل، والرجل الذي يرعى الأيتام في بيته سيكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. ورأى الداعية سيف: “أن الأرملة بحاجة إلى وقت ليس بالقصير لتتكيف مع حياتها الجديدة، إذ تشعر في بداية الوفاة بأنها ضعيفة وعاجزة عن اتخاذ أي قرار، ولا تستطيع تحمل أية مسئولية، وبمرور الوقت تتكيف مع الوضع الجديد، خاصة إذا ساعدها المحيطون من حولها من الأهل والأقارب على تعزيز ثقتها بنفسها وبقدراتها في الحياة.. لافتاً إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد تزوج من أرامل ومنهن أم سلمة، التي عرض عليها الخطبة فقالت ليس من أهلي أحد حاضرا، فقال لها ليس من أهلك حاضر، ولا غائب ينكر هذا الزواج، فقالت لابنها قم فزوج رسول الله.