لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانباً القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معاً.إن الشاعرة التي أرادت أن توسع من دائرة الشعر، وأن تفتح مجالاته على التعدد، لا تجد في لغة الشعر سوى لغة البوح والتعرية. لغة الانبثاق والفيض،في ضرب من التحولات الصوفية التي تجعل المصطلحات تصب في معجمية خاصة، كثيرا ما يتفاداها النقد الأدبي لغموضها وتعدد وجوهها. والتي تنتهي سريعا بالقارىء إلى شاطئ الحيرة والتردد. ولنا أن نسأل الشاعرة عن مرادها من الأبدية.. هذه الكلمة التي زجت بها في نهاية هذه العبارة لتنهي بها كلاما لن ينتهي أبدا إذا ما عُولج بمثل هذه المصطلحات. إذا كنا قد لمحنا في حديث “حمر العين خيرة” مستويين: الأول مبني على لغة مباشرة تقول حقيقتها بحرفيتها التي يفهمها العامة من الناس، فإن المستوى الثاني استعاض عنها بلغة صوفية،جميلة الوقع، بيد أنها خالية من الدلالة النقدية، لأن في مستطاع أي كان أن يحمِّلها ما يشاء من دلالة تأويلا وتفسيرا. ولكننا مع الشاعرة “زينب لعوج” نقرأ لغة واضحة الدلالة، بينة المقصد، لا يمكنها أن تحمل إلا معناها الذي يرتسم على وجهها أولا.. إنها تجد الشعر:« هو اللغة المشتركة بين الناس التي لا تعترف لا بالحدود، ولا بالحواجز، ولا بالعرق، ولا بالجنس، ولا باللون. ديانة الشعر الأولى والأخيرة هي الحرية. وهي هذه القيمة العليا التي هي الإنسان، والعاطفة النبيلة، والمتسامحة والسخية التي يسكنها فينا. مع الشعر تنتفي الديانات، والثقافات، واللغات كلها تنصهر لتصبح الواحد المتعدد. لذلك يجب أن نوفر كل المنابر الممكنة لإسماع الشعر، ولقوله، ولغنائه، ولإنشاده، ولنشره.»([6]) وكأن الشاعرة “زينب لعوج ” تتفق مع “حمر العين خيرة” وتتقدم عليها خطوة للمناداة بعالمية الشعر. فليس الشعر مقصور على فئة دون أخرى، ولا على شعب من الشعوب دون آخر. وأن المطلب الأساس في الشعر لدى هؤلاء وهؤلاء هو الحرية.. الحرية في القول.. حينما ينتهي الناقد إلى هذه العتبة، يحق له أن يسأل نفسه، وأن يتريث عند دلالة الكلمات.. ما المراد بالحرية؟ كل الشعراء عبر اللغات والشعوب يقولون أشعارهم كيفما يشاءون.. يحترمون القواعد أو ينتهكون حرمتها.. ينسجون على منوال أو يتمردون عليه.. يجربون.. يحطمون القيود.. يصادمون الأذواق.. يخلخلون السائد والمستتب.. إنها حريتهم التي ينشدونها ويتلذذون بمرارتها.. فإذا كان هذا ما تقصده الشاعرة، فإن الحرية مطلب قديم أزلي، يستمر ما استمر الشعر في الألسنة. أمّا كان ذلك مجرد تحرر شكلي فقط لا يلامس إلا قشرة الشعر وهيكله، فما الحرية المطلوبة إذا؟ هل هي حرية ستطال المضامين؟ ليقول الشعر ما يريد، أم إنها حرية تجاوز المحظور، وتخطي الحدود، وانتهاك حرمة المقدس؟ ذلك ما تعاهد كثير من النقاد والمثقفين على تسميته بالتابوهات والمحرمات وفي مقدمتها: الدين، ثم الجنس، ثم السياسة.. إنها (ج،س،د) جسد الشعر الجديد الذي يحلو لهن عرضه على أسطر النصوص عرضا يتراوح بين الإشارة الخجولة والإعلان الفاضح. عبر اللغة. ترى الشاعرة ” سعدية مفرح” أن ليس للشعر من مهمة أصلا! وتتساءل قائلة:« هل على الشعر فعلا أن يعبر عن مآزق الحياة والإنسانية؟ هل هذه هي وظيفته أو إحدى وظائفه؟ هل للشعر وظيفة أصلا؟ هل ينبغي أن تكون له وظيفة؟ هل على الشاعر أن يكون بطريقة أو بأخرى، وبدرجة أو بأخرى مسئولا عن ملفات الحياة حوله؟. أنا الآن أصبحت مقتنعة أن الشعر ليس مسئولا عن كل هذا ولا ينبغي عليه أن يكون أصلا، ولعلنا نحمِّله ما لا تطيق رهافته وعفويته إن نحن فعلنا ذلك. لأنني لم أعد أؤمن بوظيفة خاصة أو عامة للشعر، ولا بشروط محددة له . يكفي الشعر أن يكون وحده هو القضية، وهو الهدف، وليس مجرد وسيلة جميلة لبلوغ أي هدف. جمالية الشعر تحميه من كل افتراضات مسبقة. لا ينبغي أن نضع الشروط ونؤطر الأطر، ونحدد القضايا للشاعر قبل أن يبدع القصيدة. عليه أن يكون نفسه وحسب وهو بصدد الشعر» ([7]) وكأن الشاعرة تعود بنا إلى نهاية القرن التاسع عشر مع دعوات “الفن للفن” التي رامت تخليص الفن من وظيفته والاحتفاظ بالجماليات المبهمة التي يترجمها كل فنان حسب مزاجه وهواه. فإذا تخلص الشعر من ملفات الحياة من حوله كما تسميها الشاعرة، فلم يبق له سوى مهمة اجترار ذاته. لقد أكثر شعراء الجيل الجديد الحديث عن الشروط المؤطرة للشعر، والمحددة له من دون تسميتها، وكأنهم يوهمون الناس بأن هناك طرفاً يصر على وضع الشروط والقيود في دروبهم وأنهم يتعثرون بها، فينشغلون في إزاحتها وتجاوزها. وإذا هم سئلوا عنها لم يسعفهم جواب صريح، ولم يجدوا بين أيديهم سوى ادعائهم ذاك يرتد عليهم. فالشاعرة «سعدية مفرح» التي تتحدث عن الشروط والفروض والقضايا التي تحدد للشعر مسبقا، لم تفصح عن شيء منها. لأنها سريعا ما تعود لتخفي حيرتها في لغة مبهمة – على النحو الذي صنعته الشاعرات قبلها-لتقول قولا يملأ الفم ولا يشبع البطن. فما معنى قولها:” جمالية الشعر تحميه من كل افتراضات مسبقة”؟ لأننا ندرك أن لفظة “جماليات” من المصطلحات الغامضة الشاسعة التي تبتلع كل تعريف يروم الإحاطة بها. ثم ما هي الافتراضات المسبقة؟ من الذي يفترضها؟ ما هي سلطته؟ وما درجة تأثيره في الشاعر والشعر؟ لن تستطيع الشاعرة أن تجيب، لأنها تدفع بمثل هذه الأقوال لترد عن سؤال يباغتها في لحظة غفلة، فتبحث في ذاكرتها عن مفهومها للشعر، عن وظيفته، فلا تجد سوى هذه اللغة الفضفاضة تتوارى خلفها، وتدس فيها حيرتها.. واسمع إليها تقول مباشرة بعدما نفت أن يكون للشعر من مهمة:« طبعا هذا لا يعني أن الشاعر يكتب من فراغ معرفي أو أخلاقي مثلا، بل كونه يعبر عن ذاته وحدها يعني أنه يعبر عن هذه الذات بكل مكوناتها المعرفية والأخلاقية، وبكل تاريخها في مراحله المختلفة. وهذا يحدث غالبا لحسن الحظ مع الشعر الحقيقي ومع الشاعر الحقيقي.» ([8]) فالشعر إذا لا يكتب من فراغ، وإنما هو تعبير عن ذات، وأن لهذه الذات امتداد تاريخ وثقافي وديني وسياسي.. وما شئنا من الامتدادات. وأن لها من الآمال والأحلام ما يجعل ملفاتها الحياتية ملفات حافلة بالتناقضات والأوهام والرؤى السديدة.. وأنها في كل ذلك لا تخبط خبط عشواء، وإنما تستند إلى معرفة تنير لها درب التحولات التي تسلكها. وأنها في تقلبها ذاك إنما تعبر عن قضية.. إذا لم تكن هذه السلاسل الممتدة من الذات إلى ما ترنو إليه في حاضرها مستقبلها من مهمات الشعر العظيمة، فأين هو الثقل الذي أرادت الشاعرة أن تحرر الشعر منه؟ إننا في فعل الكتابة أمام التزام أمام الذات والآخرين والتاريخ.. فكل حرف تخطه اليمين مشبع بحمولات ترتدُّ بعيدا في الماضي المشترك الذي تحتمله اللغة والثقافة والتاريخ في سيلها الهادر أبد الدهر. والذي ينكر على الشعر مهمته، يجب عليه أن ينفض يديه من كل هذا وأن يكتب في غيره.. أو فيما أسمته الشاعرة بالجماليات.. وليس يغفر للشاعرة سقتطها أن تزجي بين أيدينا رأيا آخر أشد غرابة حين تزعم أن هناك شاعراً حقيقياً وأن هناك شعراً حقيقياً،فذلك أمر يستدعي نقيضه. فهل كل من حمل الشعر قضية شاعر مزيف؟ إنها تسارع لتجيب قائلة:« لا يمكن أن نحرم الشاعر من كتابة قصيدة عن قضية لأننا لا نؤمن بوظيفة للقصيدة، أو لأننا ضد المباشرة والتقريرية في الشعر، أو لأننا لا نرى للشعر أي دور فاعل في الحياة. بل ما أقصده أن يكون هذا هو وظيفة الشعر، وهو دور الشاعر بدلا من أن يكون وسيلة للشعر وأداة للشاعر أحيانا.»([9]) إنه إذا دور الشاعر وليس مهمة الشعر! فكيف نوفق بين دور ومهمة يتعارضان في المبدأ؟ كيف يمكن أن نجعل الشعر محض جمال يتلهى بصنعته الشعراء، وفي نفس الوقت نرى له دورا في قضية من القضايا. يبدو الخطاب النقدي النسوي كثير الاضطراب، كثير التشوش، لا يستقر على رأي. وكأن الشاعرات لم يكن في لحظة من اللحظات على وعي بحقيقة الشعر في جوهره، وإنما نظرن إليه من خلال وسائلية تتراجع من العام إلى الخاص لتغدو شأنا خاصا لصيقا بالذات في همومها الصغيرة التي تطرأ عليها كل حين فتدفع بها إلى لغة الاعتراف. وحين تستفيق الشاعرة ” سعدية مفرح ” من غيبتها وتثوب إلى رشدها تقول بعد قولها السالف مباشرة:« ومع كل ما قلته، عليّ أن أشير باحترام وإعجاب إلى قصائد كثيرة كانت لها تلك الوظيفة التي رفضتها للتو. وإلى شعراء كثيرين قاموا بالدور الذي لم أعد أستسيغه، ولا أعتقد أنني سأقوم به لاحقا. فالشعر يبقى دائما خيارا مفتوحا ولا نهائيا» ([10]) وحين نسعد بالرأي الصريح الذي أزال عنا كثيرا من الغبن الذي لحق بنا ونحن نقرأ الرأي ونقيضه، نقع مرة أخرى في بئر الحيرة مع العبارة الأخيرة! لماذا الشعر خيارا مفتوحا؟ وعلام يكون مفتوحا؟ ولماذا لانهائيا؟ فقد لا يتسع مجالنا للتفتيش تحت كل حرف من حروف الشاعرة لنسأل، ونعلل، ولكن علينا أن نقول سريعا إن الخيارات التي تتحدث عنها الشاعرة هي التجريب الحر الذي يضع على رأس كل “ناتج” أو “منتوج” نعت “شعر”.