تنطوي علاقة الهامشي بجماليات التعبير الأدبي القديم على تعقيد ظاهر, مرده, فيما نعتقد, إلى تداخل تجليات الهامشي في نصوص وأنواع ذلك التعبير, على الرغم من وضوح دلالته المرجعية العامة. فالهامشي مبدئياً هو المثال الإنساني المقصي عن دائرة الاهتمام, والمنبوذ في عرف الأخلاق, والمقموع من قبل مؤسسات المجتمع والعقل والعقيدة والسلطة. وإذا مااستعملنا اللغة الخلدونية, يمكن أن نختزل الهامشي في الكيان المجرد من «العصبية»..ولعل موازنة المثالين المتعلقين بهامشية الآخر الجنسي بمثالين آخرين عن هامشية المجال الجغرافي البعيد والمختلف، من شأنها أن توضح أكثر المعنى المقصود بصدد تماهي مفاهيم (السرد) و(الآخر) و(الهزل) في إنتاج الهامشي في جوهر الخطاب التقليدي: جاء في المثال الأول: «روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سأل كعب الأخبار عن البلاد وأحوالها، فقال: يا أمير المؤمنين لما خلق الله سبحانه وتعالى الأشياء ألحق كل شيء بشيء، فقال العقل: أنا لاحق بالعراق، فقال العلم: وأنا معك، فقال المال: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتن: وأنا معك، فقال الفقر: أنا لاحق بالحجاز، فقالت القناعة: وأنا معك، فقالت القساوة: وأنا لاحقة بالمغرب، فقال سوء الخلق: وأنا معك».(10) فالجدير بالاهتمام في هذا النص الشديد الدلالة بالنسبة لطبيعة تمثل الذهنية العربية المشرقية للمجال العربي الإسلامي، ليس فقط تلك النظرة التبجيلية لمحور التحكم السياسي وهو العراق في هذه الحال، وانما أيضاً تلك الهالة القدسية التي تنفذ بها الأحكام المعيارية، بصدد الأطراف والهوامش، بحيث يتجلى الإزراء بالهوامش كجزء من الإقرار بقدرة الخلق والتفضيل الإلهيين، سواء كان الهامش بلداً كالمغرب، أو قوماً كاليهود، أو جنساً كالنساء. كما أن ضعة المنزلة التي تقرن بالمجال البعيد والنائي جغرافياً، تصور بوصفها بداهة تكتسب صفة اللزوم بالنسبة للآخرين الخارجين عن دائرة الألفة الفضائية واللغوية والعرقية، ومن ثم فإن مراكمة الأوصاف القدحية لا تبدو تحيزاً في منطلق السلطة الذهنية المنتجة للأحكام التفضيلية، بقدر ما تدرج من حيث هي معطى اعتقادي ضروري لتوازن الصروة المشكلة بصدد الهوية الهجينه للوجود العربي الإسلامي. أما الملاحظة الثانية بصدد هذا النص فتتجلى في أن الهامشي بذاته يرتب على درجات أدناها بلاد الشام، حيث يلتبس الغني بالفتن، أي صفة موجبة بأخرى سالبة، وأقصاها بلاد المغرب، حيث لا وجود لمزايا تخفف من وطأة البعد، بل يكتنز النأي بالقبح والدناءة، وهي الصفات التي لا ينبني التصاقها بصورة الهامشي، على مبدأ الواقع، والفهم، بقدر ما يستند إلى الالتباس الذي يمثله في الوعي. أولاً لبعده المجالي ثم لغموضه اللغوي والثقافي وبناء على ذلك يغدو سوء الفهم والتأويل المغرض وانعدام التواصل والتكييف الصوري بدائل خطابية، تتوسل بالخيال والتخييل والمتخيل عوض الواقعي والمفترض والممكن. وفي تعبير بالغ الذكاء بصدد علاقة الهامشي والغريب ببلاغة الاختزال والتكييف، يرى (تودوروف) أن «صورة الغريب والمختلف، المنتمي إلى جغرافيا قصية، تحيل دوماً على واقع من يقوم بتشكيلها وهي تعبر عنه أكثر مما تترجم واقع من مثلت صورته».(11) وهو ما يتجلى بوضوح في النص المقتبس، حيث تطغي صورة الذات الرائية المصورة المالكة لسلطة الخطاب على صورة المجال البعيد، وبدهي بعد ذلك أن يمثل الهامش كتفصيل مجازي في فسيفساء الصورة المؤطرة لحضور وفعالية المركز. وعلى أي فإن «البلاغة في تمثيل الآخرية، اختزالية في الغالب وتتضمن دائماً تهديداً لمن تجعله موضوعاً لخطابها، وهي أيضاً فن منبنٍ في العمق على عدم التناظر بين وضع تكون فيه رائياً.. ووضع تكون فيه مرئياً»(12). في مثال ثانٍ عن الهامش الجغرافي يستأنف الطابع التغريبي في الحضور بحدة، إنما الجديد هذه المرة هو الإصرار على ربط هامش بعينه، وهو في هذه الحالة المغرب الأقصى، بصورة نمطية موغلة في الاختلال والاختلاق الخيالي، يقول النص: «قال ابن سعيد والإقليم الثالث هو صاحب سفك الدماء والحسد والحقد والغل وما تبع ذلك، ثم قال وأنا أقول إن الإقليم الثالث وإن كثرت فيه الأحكام المريخية على زعمهم فإن للمغرب الأقصى من ذلك الحظ الوافر لاسيما في جهة السوس وجبال الدرن فإن قتل الإنسان عندهم كذبح العصفور، قال وكم قتيلاً قتل عندهم على كلمة وهم بالقتل يفتخرون، ثم قال: إن الغالب على أهل المغرب الأقصى كثرة التنافس المفرط والمحاققة وقلة التغاضي والتهور والمفاتنة»(13). يرد هذا النص في سياق بيان أقسام الأرض، وكيف يتصف كل قسم بطباع غالبة، وهو تقسيم قديم قصد به تفضيل أرض الخلافة وعاصمة الحكم عما سواها من الأقاليم، وانطلاقاً منه تم تصوير الهامش الجغرافي بمعيار القدرة الحسية المجاوزة لحدود المألوف، ومجافاة النظر العقلاني، ولعل الهدف من هذا التزيد التغريبي هو إظهار التفوق الأخلاقي للمركز العربي الإسلامي كجزء من جبلة إنسانية تنبتها الطبيعة. فالغدادي (نبيل) (كريم) و(حليم)، لأنه من إقليم (شريف)، بينما المغربي (أسود) و(لئيم) و(حقود)، لأنه من إقليم (خسيس) لهذا فإن الإيغال في تمثيل المساوئ هنا لا يتم استحضارها للزراية بالآخر الهامشي فقط، بل أساساً لبيان رفعة المكانة الإنسانية التي يحتلها الراوي المشرقي في عرف الرتبة الحالية من الجبلة الإنسانية، وبذلك فإن القدح لا يتحول إلى سلوك سالب لقيمة المروي عنه إلا من حيث هو تمييز للمكانة السامية للراوي وإفراد لها بالظهور الموجب. 3 الهامشي ومنزع الهزل «أخبار الحمقى والمغفلين» نموذجاً: والظاهر أنه على طغيان نبرة الجد في مثل هذه السرديات وكثرة تكرارها في كتب الرحلات وقصص تكوين الكون، ك«بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، وأخبار المسالك والممالك، وتراجم البلدان، بل والسعي إلى إسنادها إلى مصدر قدسي فإن مصدرها الهزلي لا يخفى، ذلك أنها تدرج أولاً ضمن طبقة من الأخبار الخارقة أو الطريفة المقصود بها الإدهاش والترويح أكثر مما يهدف بها إلى التبيين والتحقيق. ومن هنا نعود إلى ما أشرنا إليه في فقرات سابقة من هذه الدراسة من أن الهامشي يكتسب صفته في الموروث الخبري من ارتباطه بمقولات تستجلب باستمرار صفات القدح وهي مقولات (السرد) و(الآخر) و(الهزل). فالسرد هامشي كما أشرنا لارتباطه بأراذل القوم ومجافاته لرصانة الخطابة والشعر وتمثيله للموضوعات الرديئة. و«الآخر» هامشي لبعده وغموضه واختلاف ذاته وصفاته عن ذات (الأنا) وصفات (المركز). أما الهزل فهامشي لخرقه مهابة العقل، وارتباطه الموضوعي بمجتمع القاع، وانصراف أغلب أصناف السرود الهزلية إلى الإخبار عن «اللصوص» و«الشواذ» و«الحمقى» و«المعوقين». يقول الوشاء بصدد مبدأ الهزل: «اعلم أن من زي الأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء وذوي المروءة والظرفاء، قلة الكلام في غير أرب، والتجالل عن المداعبة واللعب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمزاح، لأن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة ويفسد الأخوة ويجرئ على الشريف الحر أهل الدناءة والشر»(14). من هنا يمكن فهم لماذا لم تفتن بلاغة الهزل في التراث العربي، على الرغم من طغيان الأغراض الهزلية في هذا التراث، فقد ظلت بلاغة مقموعة، غير مفكر فيها هامشية إلى أبعد الحدود وذلك لغلبة المفهوم القادح في قدر الفكاهة والمزاح، لدى المشتغلين بأدب وعلوم العربية، طالما أن دلالة النص القرآني جاءت قاطعة كما يذهب أغلب المفسرين في جعل مضامين الفعل الهزلي والقول المازح سالبة لصنف هذا الخطاب أي مكانة في عرف العقل الراجح.(15) كما أن الهزل ارتبط بالأغراض التخييلية (القصصية) التي لم يجرؤ أصحابها على التصريح بمقصودهم في خطاب جدي مخافة التنكيل(16)، فكان الخطاب السردي الهازل الموجه إلى الهامشيين أداة بديلة لتبليغ الرسالة الفكرية، ذلك ما نجده عند ابن المقفع، واخوان الصفا، وأبي حيان التوحيدي، وغيرهم... غير أن هامشية الهزل ستتجاوز كونه وسيلة لتبليغ المحظور والمحرم، فتحوله لخطاب نقيض لتصانيف مجالس الحكم ودواوين الخلافة، ومؤلفات العلوم الشرعية وإن كانت تروج في العوالم السرية للأمراء ومجالس أنسهم، بحيث ظلت تمثل دوماً الوجه المخفي في مقابل الوجه المكشوف للشعر والخطابة والمصنفات الشعرية، فكتب «ثمرة الألباب»و«الصداقة والصديق» و«ألف ليلة وليلة»... كانت زاداً للوجدان الباطن ولستر الليل ولفضاء المهاترة والدعة. في حين كان «الموطأ» و«ديوان الحماسة» و«تفسير ابن كثير» زاداً للعقل الظاهر وخطاباً لوضوح النهار وللجد والعمل المسؤول.