إن نصه يعد ضربا من المزايدة أو المغالاة على نص شاتوبريان. في قراءتنا لبرتراند اليوم، لا نتجاوب مع الوصف الساذج، أو مع رمزية التمثيل المباشر لواقع الصحراء. فالقارئ يتجاوب مع الصحراء من خلال نص آخر: ذلك النص الذي يقرأ القارئ النص الراهن في مقابله، ولا يمكن للقارئ تفادي مقابلة النصين ببعضهما لأن الاقتباس الاستهلالي يفرض عليه قراءة تزامنية للنصين معا. وما تؤكده القراءة المزدوجة هو أن كلتا الصحراوين جغرافيتين على المستوى الظاهري فقط، فصحراء سيناء وصحراء ديجون Dijon مجرد حيلة. القراءة المزدوجة توضح بجلاء أن الصحراء هي صحراء في داخل النفس، وهو ما عبر عنه لامارتين بالفعل: “أن تفتقد لوجود فرد، وكل شيء خلو ممن يأهله”. الآن نرى أهمية الاقتباس الاستهلالي: فحالما نتعرف على نص شاتوبريان، يبدو نص برتراند وكأنه صيغة للمبالغة من نص الشهداء.Les Martyr هذا التأويل بعيد كل البعد عن ما قام به سانت بيف، الذي يرى الاقتباس الاستهلالي مجرد حلية، أو بومبونة(4) pompon كما يسميه. بالعكس، فالاقتباس الاستهلالي شيء جوهري: فقراءتنا كلها للقصيدة تعتمد عليه. إن هذا الاقتباس الاستهلالي هو الذي يمنح النص ثوابته ويجعل منه قصيدة. الثابت من الممكن أيضا أن يكون تقاطعا لسلسلتين من المترادفات، كما في حالة قصيدة رامبو Ornières، التي سنطالعها الآن. الأخاديد “آثار العجلات على الأرض اللينة” على اليسار، ينبه فجر الصيف أوراق الشجر والضباب والأصوات في هذا الجانب من الحديقة، والمنحدرات على اليسار تستبقي في فيء أشجار اللافندر الآلاف من الأخاديد الع ج ل ى على الطريق الرطب. موكب من الأعاجيب. كل هذا: مركبات محتشدة بحيوانات مزينة بالخشب المذهب، صواري وأشرعة مشرقة الألوان، عد و شديد لعشرين من خيول الحلبات المرقطة، وأطفال ورجال فوق الدواب المدهشة؛ عشرون عربة، مزركشة، ومكسوة، ومزينة بالورود كعربات العصور القديمة أو الحكايات، المحملة بالأطفال المزدانين نحو الضواحي الريفية، حتى التوابيت تحت أردية الليل تشب بأنواطها الأبنوسية، مندفعة إلى هرولة الأفراس السوداء الكبيرة. إنني أطرح هذا النموذج الثاني لأنه يبدو بالنسبة لي حالة من الصور المتباينة ظاهريا، والتي ت در ك في آخر الأمر كسلسلة متصلة. هذا التواصل الشكلي الذي يتم إدراكه، ولكنه غير مفسر بالضرورة، يمثل المعادل لتحدي الوزن المتمثل في غياب العروض. إنها تكمن في اتحاد سلسلتين من المترادفات في ختام القصيدة، معطيا لتلك الصور الختامية تعقيدا في المعنى يربط جدائل الخيوط التي يحاك منها النص. وهذا التلاقي النهائي، هذا التحويل لخاتمة تبدو مجرد خاتمة طبوغرافية، هو المكون النصي الذي يفسر صيغة الجمع في العنوان. لا أعتقد أن أحدا قد علق أبدا على هذه النقطة، ولكنها هي التي ستستكمل توضيحي. السلسلة الترادفية الأولى هي متوالية مرادفات “السرعة”: وهي تبدأ ب “الأخاديد العجلى” وتستمر مع “عد و شديد”، بل ويمكنني القول بأنه “عدو شديد لعشرين من الخيول المرقطة”. في الواقع، فإن نظام التمثيل الأدبي للواقع على هذا النحو يؤدي هنا معنى أن عدو عشرين حصانا يعطي شعورا بأنه أسرع من عدو حصان واحد، أو من العدو في عمومه. المتوالية الترادفية للسرعة تنتهي بتوابيت “تشب نحو الهرولة” تبلغ، أو بالأحرى، تبلغ الأوج. إن الهرولة - على وجه الدقة - أبطأ من العدو” ولكن “نحو الهرولة” أضافت إلى الفعل التعبير عن ازدياد السرعة النهائية وخفة الحركة في “تشب”.filan الأكثر أهمية، أن هذه الحركة تعطي إحساسا بأنها سرعة قصوى لأنها غير اعتيادية بالمرة، ومستغربة جدا في صلتها بالتوابيت. هذه الغرابة في حد ذاتها موظفة بصورة هزلية من قبل لافونتين في قصيدته Le Cure et Ie mort “الخوري والميت”: “خوري كان مبتهجا وهو في طريقه لدفن هذا الرجل الميت على عجل”. يستخدم رامبو هذا التنافر لا ليبدع معنى هزليا وإنما فانتازي. وتقودني هذه الوسيلة إلى السلسلة الترادفية الثانية، متوالية الفانتازيا أو الحلم. إنها تبدأ مع “موكب من الأعاجيب” وتمضي قدما مع “بحيوانات مزينة بخشب مذهب” وال “مركبات” التي تشبه “العربات [الفاخرة التي تجرها الخيول]” ، تفصيلتان تدعمان كونه وصفا لألعاب السيرك والحواة، ولكن قراءة ثانية سوف تعزز انطباعنا عن الفانتازي. هذا الانطباع، الذي ينشأ في البداية بعيدا عن فكرة “الأعاجيب”، ناتج عن مشهد “الدواب المدهشة” متبوعا بمشهد “العربات [الفاخرة التي تجرها الخيول] في العصور القديمة أو الحكايات حتى تكون “الحكايات” مشابهة ل”الأعاجيب”. وتصل السلسلة لذروتها مع ظهور المركبات، ليس فقط في اقترانها بالعربات الميدانية، ولكن فعليا في مطابقتها لها: “حتى التوابيت تحت أغطيتها الليلية”. وبالتأكيد فهذه المظلات تخص الخيول التي تجر عربات الموتى المغطاة بغطاء أسود - ولكنها كذلك مصاغة استعاريا من خلال النقل من black “أسود” إلى “(night) ليلي”. والاستعارة كفيلة بمنح الوصف تلوينا للفانتازي. إنها تؤكد وتلح على كيف ينبغي أن تبدو التوابيت مهيبة في موكب مقصود منه إضفاء البهجة للصغار والكبار. وفي النهاية، فالفانتازي يؤيده، على نحو مبالغ، السباق الذي تجري فيه التوابيت. فالمواكب الجنائزية بطبيعتها متوانية ورزينة، كما في القصيدة الرابعة لبودلير من “سأم باريس”: وموكب جنائزي طويل، بلا طبل ولا موسيقى، يسير ببطء داخل روحي. السرعة في قصيدة رامبو، كما أشرت من قبل، خروج على المعتاد يمكن أن يكون شبيها بقصيدة لافونتين، كما أن قصيدته يمكن أن تنحو نحو السخرية وتفسر بوصفها هزلية. غير أنه إذا كان السياق لا يسمح بمثل هذا النزوع الهزلي، إذا كانت الدعابة متعذرة، فإن ما هو مناف للطبيعة - من ثم - يغزو المشهد. أنا أذكر مشهدا من فيلم “دراكولا” حيث يرى مسافر تائه عربة موتى تعدو بها الخيول في أرض مقطوعة الشجر يغمرها ضوء القمر، وكانت الخيول سوداء كما هي في قصيدة رامبو. الآن ندرك كيف تحقق الخاتمة ذلك التأثير. فالمتوالية الترادفية للسرعة ومتوالية العجائبي مربوطتان برباط مهم يحول السباق إلى موكب عربات فانتازي. وباستخدامي لعبارة “موكب عربات فانتازي” فإنني أستحضر للذهن تيمة مألوفة موظفة كثيرا في الأدب لإضفاء الانطباع بالخارق للطبيعة. ولكن إذا كنا سنبتدئ بالمتوالية الثانية، فإنه بإمكاننا كذلك القول بأن السباق بمثابة منظر عابر يلوح، أو حلم خاطف. إن المزية الشعرية في النص، أو ما يجعل من هذا النثر قصيدة، هو أنه في داخل تصوير شديد الانتماء للواقعية، أو على الأقل واقعي، نكون مجبرين على الإقرار بوجود ضرب من التخييل أو الإيهام، حلم أو رؤيا يقظة. إن الخاصية الشعرية تكمن في التوتر الحادث بفعل مخالفة للواقع تصير، للحظة، واقعا. وينبغي أن أؤكد على أن هذا التوتر التوليدي للشعرية يكمن برمته في تراكب المتواليتين معا، في هذا الثنائي من التقييدات الشكلية للنص، وفي الخاتمة التي تحقق هذا التراكب. إن خاصية شكلية ستكون ملحوظة كذلك في المكونات النصية المولدة للمتواليات الترادفية: الجمع بين الأضداد ملاحظ من ق بل كل النقاد ولكنه لم يفسر أبدا، هؤلاء الذين يقولون إن عمله لم يكن مفهوما. كذلك لم تفسر صورة “موكب من الأعاجيب”، المتجسدة بجرأة من خلال كناية “الأعاجيب”، المجردة من تجريديتها ومردودة إلى دلالتها المسرحية. بمعنى أنها ترد إلى الدلالة التي تحتم عليها أن تكون في نص للخيال أو الهلوسة..