هي كحوريات الليل... تنتظر المساء لتصلها جسوره بأحلامها.. بعالم آخر ترحل إليه كل ليلة حين تسدل السماء ستائرها... وترحل الشمس إلى الجهة الأخرى من العالم. ترتدي معطف الأحلام، وتشرع بوابة الذكريات، توقد فتيلها وتبدأ برحلة الحياة الأحلام وحدها التي لا يستطيع أحد مصادرتها.. هي عالمنا السري الخاص، نغلق أجفاننا لنبدأ رحلتها. في الحياة توجعنا الفرحة، هي كالزهرة سرعان ما تذبل.. الألم والحزن يحفران بعمق داخلنا، يحددان ملامحنا بجدارة.. كانت غرتها الحياة كطفلة أخذت تركض تتبع فرحتها، تحلم.. تأمل.. تمتطي صهوة الريح.. تسكن رحم الغيم، لتتبعثر كما مطره ورذاذه، كانت أضلعها تحمل قلباً ناصعاً بكراً، وكانت رسمت الحياة جميلها.. رائعة داخل أسوار عينيها كما تراها في حلمها. كان الحب يوماً قرع بابها بعنف.. ودون استئذان.. إحساس ما تشعر به للوهلة الأولى، غمرها.. بدل شكل الكون داخلها..أجهض ماضيها لتستبدله بحاضر بهي. عنى لها هذا الحب الكثير، وبدل الكثير في حياتها، كان صاحبه هو الفارس الذي يمتطي حصاناً أبيض.. لطالما رأته في أحلامها.. لكن الأحلام تختلف تماماً عن واقع الحياة، فالحياة لا تفصّل نفسها على مقاس أحلامنا أبداً. حاولت أن تمتلك روحه.. تنصهر بمشاعره.. تتوحد مع أفكاره.. أن تحيا بنبضه.. في وجدانه.. لكنه لم يقدر أن يتحمل كل هذا الزخم من مشاعرها.. قتلتها أنانيته، فقد تعود دائماً أن يأخذ دون أن يعرف ما هو العطاء. كانت هي تؤمن بوجود الحب الأبدي الذّي يدوم للأبد، وكانت تسعى جاهدة ليكون حبهما أبديّاً.. فالقلب مضخة الحياة لا يمكن أن يتسع لأكثر من حبيب واحد.. ولا يمكنه أن ينبض إلاّ له. كانت إذا أعياها عناده وحبه تقول لنفسها: (هذا هو الرجل الذي قدّر أن يكون لي، سأحاول الاحتفاظ بحبه لكي لا يفرغ قلبي منه للأبد). كان ذات يوم قبلها، وكلما تذكر تلك القبلة ينتفض جسدها ويرتعش قلبها كعصفور بلله المطر.. كانت أهدته بقبلتها جزءاً من روحها.. أنفاسها، كانت تحب أن تتذكر شفتيه، دفء أنفاسه، كانت حالمة جداً.. شاعرة بروحها وعواطفها، لكنها كالريحانة سرعان ما تستسلم للذبول. لم يستوعب امرأة بهذه الشفافية.. بهذه الروح الصادقة المحلقة، لم يقدر أن يتعلم منها العطاء أبداً.. كان الواقع الأليم أكبر من احتمالها، أقوى من حلمها، قدّر لها أن تتسلّم من الحياة جرعة كبيرة.. من الألم ، والحزن.. فارقته لكي لا تهلك روحها، كي تنجو بحطام قلبها. كانت تقنع نفسها بنسيانه، وتعودها على فراقه، تقول في همس لها: ذات يوم سأستيقظ وسيكون كل شيء انتهى، رائحته الملتصقة بجسدي.. بأقلامي.. بأوراقي.. لون عينيه.. طيفه الذي أراه يتجول في كل مكان، دخان سجائره وحرائقها.. لابد أن يأتي يوم تكون ذكراه قد انمحت تماماً، وسأواصل الحياة بما تبقى من حلمي، سأنتظر حلمي لأرسم داخله أسوار حياتي لتكون الحياة حلماً.. سأعود لأحمل أوراقي التي هجرتها، كانت تستريح والآن هي جاهزة لزراعة الحروف والكلمات في بياضها.. فالقلم ينقل تأثيرات البشر من حوله، القلم كالإنسان تماماً، ربما أكتب به عني.. عن حلمي.. فبالكتابة أستطيع أن أنهض بي.. وأنفض ما بداخلي.. وأحلم.. وأحلم وأحلم.