فجأة أحس بالخواء والضعف يغزوان جسده, تثاقلت خطواته, تراءى له الشارع أكوام ضباب, أحس بالدوار يلتهم رأسه, وتوقف عن السير للحظات, أخذ يحاول استعادة شيءٍ من قوته لكنه أدرك بعد لحظات أن لاقدرة له على مواصلة السير, قرر العودة إلى المنزل الذي لم يكن قد ابتعد عنه كثيراً, كان كل عضو في جسده يشكو الإرهاق والتعب, يتمنى أن ينفتح باب المنزل أمامه بسرعة أو أن يجده مفتوحاً, بصعوبة بالغة تمكن من الوصول. كان الباب مفتوحاً, دلف بخطوات متثاقلة إلى الداخل, اتجه صوب غرفته, استلقى على فراشه, استغرق في التفكير, كانت هموم كبيرة تتسكع في ذهنه, تتناهى إلى أذنيه أصوات أطفاله, ينظر إليهم وكأنه يشاهدهم لأول مرة, يحدق فيهم وهم يلعبون, تعلو شفتيه ابتسامة غامضة, يتمتم بكمد: ماذنبهم كي يعيشوا معي في هذا الوضع المؤلم؟! أوآه ألم يك أجدر بي أن لاأضيع ماورثته من أموال؟! ارتسم الماضي في مخيلته, تذكر كم كان لديه من أموال طائلة, تلوح له أماكن اللهو التي كان يرتادها, وأسواق القات التي كان لاينقطع عنها يوماً واحداً, أصوات بائعي القات تخترق أذنيه, تبدو له وجوههم مفزعة, كمٌّ هائلٌ من جلسات المقيل التي ارتادها تتناثر أمام عينيه, يتسرب إلى أعماقه شعور بالحسرة والعذاب. يأخذ نفساً عميقاً, يرنو إلى المرآة, يتأمل وجهه الشاحب المائل بكثرة إلى الاصفرار, يتذكر نصائح الطبيب, وعصيانه له, يعاود في أخذ نفس عميق, يسلّم رأسه للوسادة, يعلّق عينيه في سقف الغرفة, يشرع في البحث عن حل لمأساته. كان أطفاله الستة بملابسهم الممزقة وأجسادهم النحيلة يتحلقون حول والدتهم, يستمعون لحكاياها, وكانت زوجته تتمنى أن يصل إلى حل يعيدها وأطفالها لتلك الحياة الكريمة التي كانوا يحيونها قبل سنوات, ترمقه بنظرات حسرى وتدعو الله في سرها بأن يتحقق شيء من ذلك. تمر الدقائق, وتنقضي الساعة تلو الأخرى, يذهب الأطفال إلى فراشهم, تتقدم زوجته نحوه, تهتف بصوتها المبحوح: ألن تنام؟! تعاود نداءها, يثير انتباهها صمته, تقف أمامه, تتأمله, تناديه: أحمد ألن...؟ تجثم على ركبتيها, تتطلع في عينيه المفتوحتين وجسده الساكن, تقترب منه أكثر, تتسارع نبضات قلبها, تسري الرعشة في ذراعيها, وقدميها, تهتف في أعماقها: يارب!! وترفع كفها نحو وجهه, تلامسه, تهزه, يقتحم صراخها فضاء المنزل, تنتابها نوبة بكاء شديدة. يتوافد الجيران على المنزل, يلحق بهم الأهل, في الصباح خرجت الجنازة, ورحل أحمد عن منزله. انقضت الأيام والشهور وأطفاله وزوجته مازالوا غير قادرين على استعادة تلك الأيام الجميلة التي كانوا يحيونها قبل سنوات!.