الشمس لم تخرج بعد من خدرها وصوته الجهور يملأ المنزل.. يعلو صوته أكثر داخل المطبخ . يخرج من مكانه سريعاً إلى كل أزقة المنزل الذي يشبه جُحر الأرانب لا تعرف أوله من آخره، تنهض الأسرة لترى من أين الصوت القادم .. يهدأ الصوت قليلا. ثم يعاود من جديد الأسرة لقد عرفت مايريد يعود الجميع إلى غرفهم .. قامته الطويلة تطول سقف باب المنزل فعندما يريد الخروج من باب المنزل ينحني بقامته إلى الأمام . جسمه النحيل الذي يشبه عرجون النخل القديم تجعله أكثرة صلابة لقامته الممتدة إلى الأمام. هذا المساء جلس في مكانه المعتاد أمام فناء المنزل يدق وريقات القات دون سماع الصوت المعتاد . الأطباء منعوه منه .. القات والسجائر .. لكن ظل يزاول تلك العادة حتى سقط على الأرض أخيراً .. قبل مايقول له الاطباء . . خرج هذا الصباح متثاقلاً ليس كعادته ظل ينظر إلى الشارع وكأن شيئاً فقد عنه . ظل يتأمل القادمين يتفحصهم فارداً ذراعيه عند عتبة الباب الخارجي للمنزل وكأنه يعرفهم من زمن ما. عاد متثاقلا . الأطفال يتسللون إلى الخارج واحداً تلو الآخر ينظر إليهم يرشقهم بنظرات المحبة.. هم يحبونه رغم صوته وصولجانه تركهم وحالهم يتجولون في الساحة كما يشاؤون . كان متعباً كشمس واهية راجعة إلى مخبئها دخل منزله دون كلام.. الشمس بدأت بالغروب وغراب ينعق بصوته الأجش يعلي ويهبط. بدا هذا الصباح وجهه شاحباً صوته الجهور الذي عرفناه أصبح بعيداً كغريق يستنجد من بحر لجي . قال له الطبيب : اترك القات والسجائر وستعود إلى حالتك الطبيعية . قال : هذا أمر صعب هما متعته: العقل والروح.. بدونهما حياتي ستكون بالية وليس لها طعم . بدأ التعب يظهر على حياته كان قلبه ينبض كعصفور في قفص مغلق عليه بحديد لايستطيع الفرار أعياه المرض نقل على اثرها إلى المستشفى قال له الأطباء: إنه متعب.. فنقل إلى الخارج عاد صحيحاً بعد أن قطع تلك العادة . رفع قامته وأصبح عرجون النخل شامخاً كنخلة طال انتظار قوامها زمن بعيد عندما كان يخرج مرتدياً بدلته العسكرية، لقد تخطى الزمن تذكر الماضي فأذرف دمعه .. يعرفه الكثير؟ تذكر كثيراً من الأشياء في مخيلاته هو خريج الكلية العسكرية البريطانية حمل كثيراً من الأوسمة والنياشين.. أعطى لهذا الوطن دماً وعرقاً تقلد مناصب كبيرة إلى أن تمدد عمره وأصبح اليوم كهلاً.. من الذي سيقبله. طرح بدلته العسكرية وأصبح مقصوص الجناح كتب على بدلته (هنا آخر حياتك) وبجانبها الشهادة العسكرية.. عندما كان الوطن مجزأ لم يرتح له بال . الباب هذا الصباح مفتوح على مصراعيه والصوت الجهور ضاع بين سراديب المنزل والجسم النحيل خرج يبحث عن شيء مجهول. بدأ العد التنازلي .. عاد يحمل معه بقية أيامه داخل منزله ( مت ..قاعد ) عرفه كثيراً من الناس من الذي دربهم علمهم هم الآن لايعرفونه ولا يعرفون ماذا يخبئ الزمن له . قال : اترك القات والسجائر هذا مستحيل عاد إلى ما هو عليه .. وأسرته . أخذ مكانه في في موقعه المفضل وراح يدق وريقات القات كان جسمه يهتز كعرجون نخل قديم يابس ليس له حياة . هذا الصباح لم نسمع له حساً أشرقت شمس الصباح والحارة هادئة ليس لها حس أبداً. قال : إنه أخلد إلى نوم عميق.. الشمس في كبد السماء ولم يكن هناك حس له أبداً لكن صوت آخر خرج مسرعاً يشعر الناس بالحارة بأن الرجل مات . كانت دموعه تنهمر على خده . تجمعت الحارة تنظر إليه النظرة الأخيرة وتودعه الوداع الأخير غسلوه وكفنوه حملوه فوق الأعناق واروه التراب.. نام هناك بصمت .