لو قدر للواحد منّا أن يقرأ (في المتوسط) كل أسبوع كتاباً، وقدِّر له عمر مديد تمكن فيه من أن يقرأ ستين سنة لكان قد اطلع على ثلاثة آلاف كتاب، وهو رقم متواضع للغاية إذا ما قورن بمئات الألوف من الكتب التي تعج بها مكتبات العالم، والتي هي في تصاعد مستمر؛ هذا الوضع يجعل التدقيق في نوعية ما نقرأ جزءاً من حرصنا على الحياة نفسها!.إننا حين نقرأ نستثمر العقل والوقت في القراءة، ولابدّ أن يكون هذا الاستثمار مربحاً بقدر المستطاع لاسيّما أنّ عالمنا الإسلامي يفيض بالكثير من المؤلفات التي لم يتعب أصحابها في إعدادها والإعداد لها؛ مما يجعل كثيراً منه لا يختلف عما يقال في مجالس التسلية والترويح عن النفس!!. وقد كان علماؤنا الأقدمون يقولون: (العالم من عرف كل شيء عن شيء وشيئاً عن كل شيء)؛ وهذا هو بغيتنا في هذا الزمان، كما كان في كل زمان؛ إذ إنّ القراءة في كل ما هبَّ ودبَّ ستعني معرفة خاطفة سطحية، أو ستعني شذرات من العلم تفقد الترابط، وتفتقر إلى الانظمام في مفاهيم عامة؛ وهذا لا يختلف كثيراً عن الجهل!!. وفي مقابل هذا فإن أصحاب الاختصاصات (المغلقة) يفتقرون غالباً إلى الرؤية المجتمعية الشاملة؛ مما يجعل وعيهم بذواتهم ومجتمعاتهم معدوماً أو محدوداً، ويجعلهم ألعوبة في أيدي محترفي التجارة بالعلم وثماره، ودوائر تأثيره؛ ممن يمكن أن نسميهم بالشخصيات العامة. فمن المستحب إذن أن يخصص الواحد منّا 70 % من قراءاته لمجال محدد يصبح إماماً فيه، يستطيع من خلاله رفع عتبة تخصصه، وإضافة شيء إلى التراكم المعرفي؛ ويخصص باقي الجهد للإطلاع على العلوم المختلفة. ومن المعلوم أن في كل لون من ألوان المعرفة رواداً نابهين لهم إسهامات متميّزة في تنهيج تلك العلوم، والدفع بها إلى الأمام، وعلى موائدهم يعيش الألوف من الباحثين الأقل موهبة وخبرة؛ فمن الخير إذن أن نقرأ لأولئك، ونغرف من النبع مباشرة؛ وليس من الصعب التعرف عليهم، فالمختصون في كل علم وفن يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم! وحين يختار المرء تخصصاً ما ليكون محور مطالعاته فإن عليه أن يختار كتاباً يعد مرجعاً في ذلك التخصص؛ وهذا يتم من خلال شهرة الكتاب أو الاطلاع على قوائم المراجع. وحين يشرع الإنسان في القراءة الواعية التي يريد أن يسهم من خلالها. في التخطيط للمعرفة فعليه أن يكون بين يديه دائماً قلم وورقة يسجل فيها المشكلات والقضايا التي يعتقد أنّ المؤلف لم يوفها حقها من البحث، أو التي يشعر أنّه قادر على أن يُوجد لها بعض الحلول الإضافية. فإذا ما انتهى المرء من ذلك الكتاب صار إلى مرجع آخر في التخصص المختار، ويحسن أن يكون ذلك المرجع من الكتب التي تعرض وجهة نظر مختلفة؛ حتى لا يقع المرء ضحية لوجهة نظر واحدة، هي عند أهل الإختصاص موضع نقد وجدل – ولا يوجد مختص سُلِّم له بكلِّ ما يقوله –. فإذا ما انتهى منه صار إلى قراءة كل ما كتب حول الموضوع؛ ولكن تكون القراءة حينئذ سريعة مع إمكانية الإغضاء عن بعض أجزاء تلك الكتب؛ إذ المراد هو الوقوف على بعض المشكلات الجديدة أو الحلول المقترحة لها. ولابدّ من القراءة الناقدة لكل ذلك؛ فلا نسمح للجديد من الأفكار أن يتسرب إلى أذهاننا دون محاولة لاختبار صدقه وفحص دلالته. وهذا لن يكون ميسوراً للمبتدىء غالباً، ولكنه سيكون تهيئة للأرض البكر؛ كي يزرع فيها التفكير المستقل. وبعد مدة من الزمن نشعر أننا امتلكنا نوعاً من الحسِّ الغريزي الباطني الذي يمكننا من وزن الأفكار وتثمين الكتب التي نطلع عليها، والمرحلة المعرفية التي وصل إليها الكاتب، فمن خلال قراءة صفحة من كتاب نستطيع أن نعرف المردود الثقافي الذي سيعود علينا من وراء قراءة ذلك الكتاب؛ وحينئذ نكون قد قبضنا على حاسة الاستشعار المعرفي التي ستساعدنا كثيراً في اختزال الأعداد الهائلة من الكتب، وتحديد ما نحتاجه منها في مشروعنا الثقافي والمعرفي. وتلك هي بداية إمتلاك منهج خاص بنا في التفكير. وإذا ما شعرنا بضرورة العودة إلى قراءة كتاب قرأناه؛ فمن الأفضل أن نعود إليه بعد سنة أو أقل أو أكثر، وحينئذ فسنقرؤه بعيون جديدة، وسنجد نتيجة لنمونا الثقافي أننا قادرون على تسليط بعض الأضواء الناقدة عليه أكثر من المرّة الأولى، بل قد نشعر في بعض الحالات أننا قادرون على الإضافة إليه. المصدر: كتاب الرحلة إلى الذات (فصول في التفكير الموضوعي)