تختلف المجتمعات في مدى استجابة أفرادها «للحوادث »..وفيما تأخذ هذه الظواهر أهمية أقل في المجتمعات الغربية..يبدو أنها تمثل حيزاً مهماً من سلوك الأفراد في مجتمعاتنا العربية؛ ذلك أن الإنسان العربي لا يزال أكثر انفعالاً بالجوانب الاجتماعية.. فيما تُشكّل مثل هذه الظواهر جوانب مهمة من سلوكه.. ليلة ساخنة حيثما حل الجهل كان «للفضول » صولات وجولات ساخنة، ولعل أبناء الريف بسجيتهم البسيطة يستحوذون على النصيب الأوفر من كل ذلك..وفي ذات السياق ينقل لنا الأخ/عبد الغني مهيوب عُبادي صورة معززة لذلك، فالفضول والتجمهر في الريف على حد وصفه أشد ضراوة؛ لأنه ينم عن جهل مُدقع وأعراف بلهاء ما أنزل الله بها من سلطان، وفي حال حدثت مصيبة لا قدر الله ترى الحشود الهائلة تتوافد من كل حدب وصوب، مما يشكل إرباكاً لا يطاق واعتداء مُهينا لخصوصيات الآخرين في فوضى عارمة وسلوك مُشين يضر أكثر مما ينفع. ولصاحبنا عبد الغني حكاية مؤلمة مُتسقة تماماً والتعابير السابقة، فقد قُدر لجده المُسن أن يسقط ذات نهار من إحدى المدرجات الزراعية، وعلى الرغم من أن إصابته بسيطة ولم تستدع إسعافه إلى المدينة فقد امتلأ منزلهم الريفي «صغير الحجم والمتعدد الطوابق » بحشود هائلة جاءت حتى من القرى المجاورة..استوطن الإرباك ذات المنزل من أخمص قدميه حتى ذروة رأسه، حتى إن أخشابه العتيقة لم تتحمل فضاعة الاكتظاظ..تكسرت وتبعثر الجميع فيما سقط البعض مغشياً عليه في حضيرة البقر..!!. يقول عبد الغني ساخراً: «خرجنا من الحادث الأخير بأكثر من مصاب..أسعفنا أغلبهم إلى المستشفى في المدينة، والمصيبة الأكثر إيلاماً ليست في حجم الأضرار التي أصابت المنزل..بل تتمثل في الحشود المسعفة التي رافقت المصابين، ومما زاد الطين بلة ضياع أحد الأطفال في دهاليز المستشفى..فتشتت جهودنا في البحث عنه ومتابعة المصابين، ويالها من «ليلة ساخنة »..!!. قتله مسعفوه ثمة نتائج كارثية جراء هذه المبالاة الفضولية المستهترة بأرواح الناس وخصوصياتهم.. ويحضرني هنا استشهاد الدكتور/طلال عبد الودود «لضحية قتله مسعفوه.. » ما إن أصيب أحد الأشخاص حتى تجمهر عليه حشد هائل غير مدرك لطرق الإسعافات الأولية، صيروا أنفسهم مسعفين ثقاة تناسوا «الكدمة » القوية التي اخترقت رأسه واتجهوا لتطبيب جروح سطحية مُفرقة على باقي جسده أخذت منهم الكثير من الوقت، وفوق هذا وذاك أسعفوه جالساً فوق سيارة عادية، ليفارق الحياة قبل أن يصل بوابة المستشفى بقليل، وفي المستشفى كان توبيخ الطبيب المناوب شديداً للغاية، قالها لهم بصريح العبارة «صحيح أن غرضكم نبيل إلا أنكم أغبياء..لو أسعفتموه ممتداً وبسرعة لكان الآن حياً يرزق..! ». - وعلى ذكر الفئة «الفضولية » ذات الغرض النبيل في تقديم المساعدة وإسعاف الجرحى ثمة محاذير مهمة ينبغي التنبه لها..هذا ما أطلعنا عليه الدكتور طلال، مفصحاً أن أفضل طريقة للمساعدة في مثل هذه الظروف هو إخلاء المكان للإتاحة للجهات المنقذة أن تقوم بعملها بسهولة ويسر، وهو كما يشكر هذه الفئة على حُسن نواياها..إلا أن هذا الشعور الطيب والحماس لا يكفي، لأن كثيراً من الحوادث قد تؤدي إلى إصابات تتطلب عدم تحريك المصاب ونقله، خوفاً من المضاعفات إلا بطريقة محددة يعرفها المسعفون، كما هي حال بعض الكسور أو بعض الإصابات القلبية أو الاختناقات وغيرها، وحين يقوم البعض وبدافع المساعدة والشهامة قد تكون النتائج عكسية. هلموا رب حادثة صارت مزاراً؛ إذ يسارع فلان من الناس بأن يبلغ أصحابه وذويه «بأن هلموا إلى مكان كذا فقد وقع كذا.. » وترى المتطفلين أكثر من المسعفين، فيما الحادثة وضحاياها قد تلقفتها تلفونات الجميع وأنت يا «بلوتوث انشر ولا تبالي.. »، ومن هنا كان لابد أن نعرج على إشكالية مهمة تتمثل في استخدام الهواتف المحمولة في تصوير وقائع تلك الحوادث، وهو بإجماع الجميع أمر مُشين لا يقبله عقل ولا يقره شرع فيه انتهاك لحرمات الأشخاص وهم في حالة يرثى لها، مع العلم أن التصوير متاح للجهات الأمنية وذلك لاستخدامها في مصلحة ملف القضية، سواء كانت حادثاً مرورياً أو اشتباهاً في جريمة، وهي في ذلك في أيدٍ أمينة وبعيدة كل البعد عن التسريب. كما أن التصوير في موقع الحادث مسموح به قانوناً لرجال الصحافة والإعلام وذلك وفقاً لمعايير معينة تتمثل في عدم إظهار الوجوه ولوحات السيارات المتسببة في الحادث إن وجدت، إلى جانب المعايير المهنية الأخرى التي لا تتسبب في إعاقة جهود إنقاذ المصابين في أي حادث. أزمة ضمير وفي هذا الإطار يقول المهندس حلمي الصلوي: إن هذه الظاهرة مرتبطة بشخصية الإنسان وتشكل لكثيرين مادة إعلامية خبرية مهمة، تفتح الباب للأحاديث المختلفة، والقصص والروايات التي يستمتع البعض بأن يرويها، فيشعر أنه من خلالها بأنها مادة تجذب انتباه الناس إليه، ويجب أولاً أن نقدر الفضول كطبيعة بشرية..والواجب الأهم ألا يتعارض هذا الفضول مع الواجب الإنساني، مشيراً إلى أن الأمر يعتبر مقبولاً عندما يستوقف الإنسان موقف غريب، ويبدأ في تدوينه بما يتاح له من وسائل التقنية الحديثة، ما لم يتعارض هذا الفضول مع تأدية الواجب الإنساني، أما من دفعه الفضول إلى التصوير من دون مساعدة المحتاجين إلى المساعدة، فإنه يجب على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم، وعلى مؤسسات المجتمع أن تتحرك للحد من هذه الظاهرة، التي تنبئ عن أزمة في الضمير الإنساني. وهنا أقول: لو أن كل فضولي تخيل نفسه أحد هؤلاء المصابين ما أحب أن يحتشد عليه الجميع، وأن يتطفل عليه جاهل، وأن يصوره هاو فضولي وهو في حالة يرثى لها، وتكون مصيبته أكثر في حال كانت عائلته برفقته..ولأدرك أن العمل الصحيح الذي يتوجب عليه فعله في حال مصادفته لتلك الحوادث أن يبادر بتوجيه الناس وإبعادهم، ويستجلب أهل الاختصاص والدراية حتى من بين الحاضرين أنفسهم.. طرفة.. ذات يوم وقع حادث تصادم..تجمهر الناس..وإذا بشخص فضولي يصل لمكان الحادث..إلا أن زحام الناس منعه من رؤية الضحية عن قرب، فصاح بأعلى صوته وهو يتظاهر بالبكاء ..! «ياناس افسحوا لي فالمصاب بن عمي.. » عند ذاك تركه الجميع يصل إلى قلب الحادث ليتفاجأ أن الضحية «حمار »..!!. كما أن كل القيم والسلوكيات الأممية تنبذ الفضول غير المُبرر حتى أمثلتنا الدارجة تحفظ لغة التشنيع لمثل ذلك وثمة مثل شائع نتمنى على أي فضولي أن يتعظ منه «المفارع يقع له ملان الصميل ».. إلحاح نفسي الإنسان فضولي بطبعه..ولديه رغبة عارمة في التعرف على كل جديد وكل ما يلفت الانتباه، والحوادث بشكل عام سواء كانت حوادث مرورية أو حرائق أو... تحمل في جانب منها عنصر الإثارة والتشويق، وإذا كان «الفضول » عند الناس أمراً طبيعياً كنوع من حب المعرفة، إلا أنه عند البعض يتجاوز ذلك ليصبح إلحاحاً نفسياً لا يستطيعون التخلص منه، إلا بمعرفة جميع تفاصيل المواقف والحوادث التي تصادفهم، وهؤلاء نجدهم أمام الحوادث يتجمعون ويبدأون بالأسئلة حول أدق التفاصيل. - يبقى «الفضول » حسب توصيف الدكتور ياسين العزعزي سبباً رئيسياً لهذه التجمعات، مضيفاً إليها عوامل أخرى يمكنها أن تؤثر في زيادة حجم هذه الظاهرة؛ كالفراغ النفسي الذي يشعر به البعض فيبحثون عن أي شيء يشغلون أوقاتهم فيه، وبالمقابل هناك فئة غرضها من التجمع السؤال عمن هو المصاب للاطمئنان إلى أنه ليس من أقاربه أو معارفه، وهناك فئة تستهدف تقديم المساعدة..وأياً كانت الأسباب يمكننا ملاحظة أن السمة الغالبة للأشخاص «المتجمهرين » أنهم من الشباب والمراهقين الفئة السنية التي تتراوح أعمارها بين 12 – 25 عاماً، لما فيها من عنصر الإثارة. قاطعت الدكتور: إنه أثناء إعدادي لهذا التحقيق قابلت أناسا ليسوا من الفئات الآنفة الذكر بل إنهم مع رؤية أي حادث يهربون من الوهلة الأولى..وبدوره أجاب «هذا صحيح » واصفاً أولئك بالقليلين جداً..فهم إما يخشون مشاهد الدماء والأجساد المصابة، أو الوقوع في إشكالات عقب هذه الحوادث..والدخول في «سين وجيم ».. ونبه الدكتور ياسين في آخر حديثه إلى جزئية مهمة فالمجتمعات تختلف في مدى استجابة أفرادها للحوادث التي تقع أمامهم، وذلك تبعاً لطبيعة المجتمع وخصائص أفراده الانفعالية والاجتماعية، ففي الوقت الذي يبدو فيه أن مثل هذه الظواهر تأخذ أهمية أقل في المجتمعات الغربية، يبدو أنها تمثل حيزاً مهماً من سلوك الأفراد في مجتمعاتنا العربية، ذلك أن الميل العام لدى الإنسان الغربي إلى الذاتية والفردية يجعله أقل اهتماماً بما يحصل حوله من حوادث للآخرين، في حين أن الإنسان العربي الذي لا يزال أكثر انفعالاً بالجوانب الاجتماعية تشكّل مثل هذه الظواهر جوانب مهمة من سلوكه الاجتماعي، وفي كل الأحوال فالزحام الناتج عن مثل هذا التجمهر سيؤدي إلى عرقلة جهود رجال الإنقاذ.