من خلال النزعة الفكرية والأخلاقية التي تطبع سلوك شعب ما، يتبين مدى انعكاس أثر ذلك السلوك في الامتداد الفكري والزمني الذي يرتسم فيه سمات وملامح صورة فعل الأجداد، حيث يظهر من خلال المعنوية القومية أو الوطنية والضمير الجمعي، والحس المشترك، والدور القيادي إذا توافرت الشخصية القومية المؤثرة لهذا الشعب أو ذاك، وعادة ما يعيد الشعب تشكيل نفسه في دورة التاريخ الجديدة، بصورة وشكل آخر يعزز إظهار بصماته وسماته في جدران ذلك التاريخ. لقد أدى الحكم في القرار عند التقليل -مثلا- من قدرة ألمانيا على استرجاع مكانتها بعد الحرب العالمية الأولى، وكذا التقليل من قدرة روسيا على المقاومة في بداية الحرب العالمية الثانية إلى الخطأ في توقع النتيجة من قبل الخبراء، بعد أن كبحت معاهدة فرساي وكذا تشكيل عصبة الأمم الدولة الألمانية كثيرا، وحدَّت بل قلّصت من قدرة ألمانيا العسكرية، ولكنها لم تستطع أن تحرم ألمانيا من خصائصها الفكرية والشخصية التي مكنتها فيما بعد من بناء مؤسساتها وتطوير صناعتها الحربية خلال فترة قياسية، كما كان الخبراء العسكريون يتوقعون استسلام روسيا، منطلقين من إمكانية الجيش الروسي وإمكانية روسيا الصناعية الضعيفة.. إلا أنهم نسوا الثبات والإصرار اللذين يتمتع بهما الشعب الروسي، وفي الجانب الألماني كان عدم الاعتدال في التطرف هو نقطة الضعف في الشخصية الألمانية التي أدت إلى تبديد قوة ألمانيا، ومجابهة جميع دول الحلفاء، لكن يبدو أن إرادة الشعب وقوته هي التي دفعت هتلر إلى التطرف أكثر.. في هذا السياق تعكس القضية الجنوبية قضية شعب وليست مشكلة فئة أو طائفة اثنية او عرقية بل الأعقد من هذا كله، أن السلوك الأناني والشاذ باسم الوحدة، جعلها تصعد إلى قضية شعب متمسك باسترداد دولته.. خطورة هذه المطالب تكمن في ابعادها الموصلة إلى أهداف الثورة الجنوبية، حيث ما زال الجنوب كشعب عانى ويعاني يعتبر نفسه دولة صادرها الظلم بفرض القوة، يعزز هذا التصور ما يتمتع به المجتمع الجنوبي من الثبات النسبي في المواقف كظاهرة اجتماعية تاريخية، يتميز بها عن الشريك الذي وضع الشق والهوة قبل ترسيخ الوحدة، لذلك تمسك الجنوب بخصوصياته وسلوكياته القيمية ليحمي نفسه من التآكل الذي فتك به تحت مظلة الوحدة، وحاول الاحتفاظ بالأسس التي أقام عليها دولته السابقة رغم التغيرات التي اقتحمت حياته، وما زال الجنوب يحتفظ بالأدوات والصفات النفسية الاجتماعية التي تدعم نضاله السلمي لتحقيق أهدافه كعوامل قوة لديه، ومنها: 1- الشخصية القومية: والتي تعني للشعب الجنوبي أحد العوامل المهمة جدا على صعيد تقييم تماسكه وتوحده لتحقيق أهدافه، وعدم توافر الشخصية الرمزية بالنسبة للحراك يعتبر معضلة كبرى لأنها تربط بين الحراك السياسي والالتفاف الجماهيري، واختلاف قيادات الحراك الثانوية لها دور مؤثر كذلك، لكن الالتفاف الجماهيري حول الشخصية الوطنية الجنوبية أصبح أمرا واردا.. خاصة بعد الإدراك الواسع للجماهير والقيادات الثانوية للحراك بأن الشخصية القومية تعتبر من العوامل المهمة جدا على صعيد قوة النضال السلمي الجنوبي الحالي، وتوحد الهدف والالتفاف حول الشخصية القومية التاريخية يتسق إجمالا مع درجة المرونة والاستعداد لتقبل التبدل من خلال النزعات الفكرية والأخلاقية الجوهرية التي تطبع سلوك الشعب الجنوبي كامتداد للفضول الفكري الذي سار عليه رموزه المناضلة في السباق، مع الوعي في الاستفادة من أخطاء الماضي، وهناك تعهد واضح من قبل القيادات الرمزية للحراك بأنهم لن يتحكموا أو يبقوا في السلطة بعد استعادة الدولة، وهذا ما زاد من التأييد الشعبي للحراك السلمي وتوسعه. وهذه المسألة تعتبر من أهم مواضيع الخلاف للجماهير الجنوبية في مطالبتهم باستعادة الدولة مع إخوانهم في الشمال المرتكسين في سجون الماضي وموروثه المعتمدين على رموز القبيلة ومشائخها إطلاقا، بينما الهم الأكبر للجنوبيين هو الابتعاد عن هيمنة أية سلطة تقليدية تتكئ على القبيلة أو السلالة أو المنطقة أو موروث الاصطفاء الديني، فكيف لا يطالب الجنوبيون باستعادة دولتهم وأغلب إخوانهم في الشمال منغمسون بالولاء والتبعية لمن دمروا الوحدة. 2- المعنوية القومية للشعب الجنوبي: ويقصد بها، درجة التصميم الذي يدعم به المجتمع الجنوبي قياداته وسياسات وتوجهات الحراك، وهي عبارة عن صياغة الرأي العام الجنوبي تجاه الهدف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويتمثل ذلك في نضاله في إطار الحراك السلمي الذي استطاع استعادة صورة مكونه الاعتباري في الدولة السابقة، وتمكن من تجميع قواه ولملمة شمله بعد العثرات والتدمير الذي أصابه جراء سلوكيات سياسيي دولة الوحدة. وتظهر المعنوية الوطنية في أوقات الأزمات عندما يتعرض وجود الأمة أو الشعب للخطر، وعندما تعرض الشعب الجنوبي للخطر جراء الممارسات المخلة والفاشلة في الوحدة، برز الجانب المعنوي عنده، واستطاع أن يبدأ الخطى من أجل النهوض، اعتمادا على الجانب المعنوي للإرادة الجمعية التي تُميز هذا الشعب، وبالتالي استطاع إظهار أصالته الحقيقية التي حاول مدعو الوحدة تدميرها ودفنها إلى الأبد. 3- سيكيولوجية المجتمع الجنوبي: وهي مجموع أنماط السلوك والعادات والتقاليد والأفعال الاجتماعية المتوارثة منذ القدم، وقد تعلم الشعب الجنوبي بمختلف فئاته ومكوناته على التعاطي مع حياة الدعة والاستقرار، والتي فرضها امتداد وانبساط محيطه الجغرافي المكون لأغلب مساحة الجنوب خاصة الشرقية والغربية منها من جهة، ومن جهة أخرى تأثير الاستعمار الغربي خاصة البريطاني على الحياة الاجتماعية بعد إيجاده أنظمة وتشريعات تنظم حياة المجتمع بمختلف مكوناته وارتباطاته في محافظات الجنوب، وهو الأمر الذي مهد لتوحيد جميع الإمارات والمشيخات من غير مصاعب تذكر، وعلى ضوء ذلك أقام الجنوب دولته بعد الاستقلال مباشرة، فكانت على درجة كبيرة وعالية من المؤسسية والبناء الهيكلي التنظيمي والإداري المنضبط بالاعتماد على الدستور والأنظمة والقوانين.. وبناءً على المذهب السيديولوجي (الاجتماعي) عند (دوركايم) أن الإنسان مخلوق مزدوج، مزيج من صفاته الفردية والصفات التي أوجدها فيه المجتمع، هذا التأثير المجتمعي هو ما تميز به المجتمع الجنوبي منذ عهد الاحتلال وعند قيام دولته بعد الاستقلال إلى أن وصل إلى التوافق المجتمعي وتشكل لديه الضمير الجمعي. 4- الضمير الجمعي للشعب الجنوبي: في تعريف (دوركايم) للضمير الجمعي بشكل عام يقول: "لكي نستطيع أن نفهم قوة المجتمع يجب أن نعرف أن اجتماع الأفراد ينتج عنه ما يسمى بالضمير الجمعي"، وهو المحور الذي يقوم عليه تفسيره للظاهرة الأخلاقية والظاهرة الدينية، هذه الظاهرة في المجتمع الجنوبي برزت من خلال الموقف الموحد للمجتمع بكامله ويمكن التعرف على ذلك من خلال المؤشرات التالية: أ- أن المجتمع الجنوبي قد تعرّف على المشكلة التي حاولت أن تمزقه وتفرض عليه التخلي عن مقوماته المشتركة من خلال وحدة مزيفة تخدم مصالح الأقلية في المجتمع، توصل إلى الرفض الذي يبديه الضمير الجمعي الجنوبي. ب- أن الضمير الجمعي الجنوبي قد حدد طريقه ورسم هدفه في التخلص من جميع آثار ما لحق به من ظلم وتهميش ومصادرة لحقوقه المادية والمعنوية، على درجة متسقة من التوافق المجتمعي، الذي يفترض فيه إثبات وجوده الإنساني وحقه في البقاء. ج- أن الضمير الجمعي أصبح أكثر تماسكا من قبل عند قيام الوحدة بعد أن كاد يضيع ويتشتت بفعل الصدمة وهي صدمة الانتقال من وضع سابق إلى آخر مختلف جذريا عما هو مألوف. د- أن الضمير الجمعي الجنوبي قد تماهى باضطراد مع تصاعد نضاله السلمي مع ما يحقق أهدافه المستقبلية، بعد التأكد من أن الوحدة الحقيقية لم تقم بعد، وليس بالإمكان قيامها مع مجتمع إرثي ارتدادي يعيش في الماضي ولا يفكر بالمستقبل، مجتمع لا يحترم حق الإنسان في الحياة. احتفالية الثلاثين من نوفمبر أنموذج تعبيري للنضال الجنوبي: كانت احتفالية الجماهير الجنوبية بذكرى عيد الاستقلال ال45 تأكيدا على استمرار النضال السلمي وتصاعده في قادم الأيام، وتأكيداً على ما سبق لا نقصد هنا المبالغة في رسم صورة الواقع، ولكننا مضطرون إلى عرضه بصورة تقترب من النظرة العلمية، ونحن اليمنيين عموما لا نؤمن بالطرق العلمية ولا الاستفادة من المعطيات أو الدراسة أو البحث او طرح الحلول لمعالجة الواقع، بل نُزيّف الحقائق وننساق وراء العواطف والأهواء فنصطدم بالواقع ونقع في الحيرة والعجز، ذلك هو حالنا.. لنعود إلى تصوير الواقع على الأرض في الاحتفالات المذكورة في محافظة عدن، لقد ظهر التعبير في ذروته في هذه المناسبة، مظاهر الاحتفالات هذه كانت أقل من الصورة التي يمكن ان تكون بسبب ضعف الترتيبات وكذا مصادفة يوم الجمعة الذي شتت مظاهر الزخم وتجمع الحشود في أكثر من مكان، وأرهق الجموع ببرنامج احتفالي منذ الصباح الباكر إلى المساء، وقطع المسافات الطويلة في حركة الجماهير، وتعددت التعبيرات الاحتفالية بين المسيرات المتفرقة وبين صلاة الجمعة والتشييع الجنائزي للشهيدة فيروز والتجمهر والاندفاع والحركة من مكان إلى آخر كتعبير دلالي بهذه المناسبة مع ملاحظة التالي: - أن الناس جميعا من الصغير إلى الكبير ومن الشيخ العجوز إلى المعاق، (والمرأة لم تخرج بعد لظروف خاصة)، كلهم كانوا جميعا كأنهم على قلب رجل واحد، فاضت بهم المشاعر فكانوا يتحركون منتظرين توجيهات من قيادات الحراك، لكن القيادة هذه المرة اختفت عنوة فشاركت ضمن الجماهير، وكانت الجماهير تقاد بالتوافق الجمعي من دون خلافات تذكر. - شاركت الجموع في هذا الاحتفال بهدوء وسكينة، ولم تسجل أبسط الحوادث، وكان الناس رغم الحماس يتحركون بكل اطمئنان وثقة في خطاهم كأنهم ذاهبون إلى دور العبادة تعظيما لهذه المناسبة، وكل تجمع التقوا فيه كأنهم في منزل عائلي يتجاذبون أطراف الحديث، قياما وقعودا، زرافات وجماعات، بل كتلاً بشرية منقطعة النظير لنستنتج مما سبق التالي: - أن الجنوب يعيش ثورة حقيقية على الواقع، لها أهداف واضحة ومحددة تسعى أغلب الجماهير لتحقيقها. - أن المجتمع الجنوبي قد حزم أمره لاستعادة دولته بدءاً بمحاولة استعادة دور شخصيته القومية وشخصياته الوطنية ودفعهم إلى المقدمة في المرحلة الحالية بعد وعد جازم من هذه القيادة بأنهم لن يبقوا في هرم السلطة بعد بلوغ الهدف. - بروز المعنوية القومية للشعب الجنوبي وتفتق الضمير الجمعي، وهذا مؤشر على تصميم الجنوبيين على الوصول إلى نتيجة تحقق طموحهم. - يتضح أن الجماهير الجنوبية تسير في خط انتصار الثورة لأن مؤشرات نجاح وانتصار الثورة يكون كما يلي: أ- استمرار الثورة. ب- تصاعد النضال الثوري السلمي إلى الأعلى. ج- وحدة القيادة والهدف. د- توفر الإرادة الجمعية والضمير الجمعي في نضال موحد مع الانقياد بسلاسة. ه- الثورة الجنوبية قامت انطلاقا من الوعي الشعبي، ولم تكن عفوية، بعد إدراك عام في الجنوب أن هناك حقائق وأرقاماً مذهلة لا تصدق جراء عبث العابثين من القوى والأجنحة المتصارعة على السلطة في دولة تستسلم لرحمة المنتصر بعد صراع البقاء للأقوى وبالإسناد القبلي نفسه. وأخيرا هناك حقيقة يجب أن يعرفها الجميع أن الشعب الجنوبي قد خرج ولن يعود أو يستظل تحت سقف إلا بعد تحقيق طموحه وأهدافه. ولله الأمر من قبل ومن بعد