كانا يدرسان معاً في نفس الصف ونفس المدرسة وكان صفهما هو الوحيد الذي يجمع الأولاد والبنات معاً، وكانت تربطهما علاقة غريبة نوعاً ما فهما لا يكفان عن الخصام والتحرش ببعضهما طول الوقت ولكنه كان يحمل نحوها حباً غامراً يأخذ عليه كل شغاف قلبه ومع ذلك لم يقل لها يوماً انه يحبها فهما مازالا في نفس السن التي هي بين الطفولة والصبا. أما هو فكان متميزاً من الناحية الدراسية واما هي فكانت تقطف آخر أوراق الطفولة وتجري سريعاً نحو الصبا، بشرتها بيضاء وعيناها خضراوان ووجنتها حمراوان وشعرها الذهبي الناعم مقصوص إلى أسفل أذنيها. كان كل يوم يحمل معه شوقاً جديداً بالرغم من قسوة أحد المدرسين والذي كان مسئولاً عن الفصل بالكامل تقريباً إلا أن خوفه من هذا المدرس والذي يتجدد كل يوم يغلبه شوقه لرؤيتها والذي يتجدد هو الآخر كل يوم، انقضت الأيام على هذه الوتيرة مترعة بالحياة والنشاط والمشاعر المتأججة. جاءت عطلة الصيف وعلى عكس جميع زملائه فقد كانت العطلة ثقيلة على قلبه لأنها سوف تحرمه لعدة شهور من الصبية التي تتدفق حياة وألقاً وجمالاً، قضى العطلة حزيناً مكروباً لم يكن يعزيه إلا صحبة أحد أترابه حيث كانا يذهبان بين الحين والآخر إلى المنطقة التي يقوم فيها منزلها وينتظر عسى تطل من شرفة المنزل ولكن يمر وقت طويل وينصرفان بلا طائل فيعودان وهما يتحدثان عنها، وكان ترب طفولته كريماً لأنه يتحمل كل الحديث الذي يدور عنها فقط. مضت العطلة كئيبة بالحزن والشجن ولكنها انتهت مثلما ينتهي كل شيء في هذه الحياة،عاد للدراسة وكان كل يوم يقربه من موعد بدء الدراسة يشعره بأن رحلة العذاب موشكة على النهاية وانه سيلاقي حبيبته مع أول يوم للدراسة. عذبه كثيراً أنه لم يجدها وأسلمته الساعات إلى الساعات منتظراً قدومها فلعلها تأخرت كما كانت تفعل من قبل ولكن انتهي اليوم الدراسي وهي لم تأت، وخبا شوقه المبرح في قلبه وانتظر وصول اليوم التالي وذهب إلى المدرسة محملاً بالشجن واللوعة ولكنه فوجئ أنها لم تكن موجودة، لم يعد يتحمل فسأل أحد زملائه فأخبره أنها لن تأتي أبداً لأنها قد انتقلت إلى مدرسة للبنات. انطفأت كل فرحة وذوى كل شعور بالنشوة وانكفأ الصغير على ذاته ولم يعد أي شيء في المدرسة يبعث على السعادة وتوالت الأيام رمادية قاتمة لا تحمل أي طعم، حتى مدرسه القاسي لم يعد يأبه كثيراً لقسوته وان عاقب فهو يعاقب كل طلاب الفصل وبلا رحمة وبلا سبب أيضاً ولكن اليوم يمر على كل حال بما يحمل من شقاء وحزن وشعور بالوحدة الموحشة. دارت الأيام دورتها وتتابعت الشهور ومضت سنة أو أكثر منذ آخر لقاء، وكانت هذه الأيام هي من أقسى أيام عمره فهو عاشق قبل الأوان محب بلا طائل والطريق أمامه لا نهاية له ولكن هذه الأيام القاسية ربما تكون قد أنضجت مشاعره وأرهفت وفتحت عينيه على العالم بكل ما يحمل من متناقضات. وسط هذه الأيام الثقيلة قررت المدرسة أن تجهز رحلة إلى المخا، وهكذا كان فقد تحرك الطلاب في سيارة كبيرة تشبه عربات الجيش وذهبوا إلى المخا في رحلة لم يكن فيها ما يبعث على الانتباه. حدث في عصر ذلك اليوم حادث أخرجه بكل قسوة مما كان فيه فقد جاء إليه ترب طفولته فرحاً سعيداً يبشره بأن مدرسة البنات قد رتبت هي الأخرى لرحلة إلى المخا وأن الطالبات يتواجدن على الشاطئ في مكان قريب وان بينهن فريدة..!! هرول الاثنان مسرعين وكانت سعادته غامرة إلا أنها مشوبة بخوف غامض، وصل إلى المكان وكانت مجموعة من الفتيات يقفن فيه وأشار زميله إلى واحدة منهن كانت تقف بعيداً قليلاً عنهن وقال له هذه هي فريدة. لم ير أمامه الصبية المشاكسة وانما رأى أمامه فتاة كان جسدها قد تفجر براكين من الانوثة الطاغية والشباب المتدفق وكانت قد تشكلت امرأة كاملة معتدلة الطول بادية الفتنة ترتدي معطفاً (بالمطر) تحته بنطلون وتخبئ يديها في جيبي البالطو، وتضع على رأسها غطاءً يستر شعرها، وكانت ترتدي خماراً أسود إلا أنه كان شفافاً يضفي على الجمال حسناً، وعيناها الخضراوان ووجنتاها الحمراوان وحاجباها وشفتاها تطل جميعاً من تحت الخمار الذي خالط سواده الشفاف بياض وجهها ليصنع الجميع لوحة من الجمال كأنها السحر بعينه وكان من الواضع انها أصبحت تحمل قدراً من الوقار هي محتاجه إليه حتى يكبح جماح الصبا والشباب وهكذا بدت تلك الآنسة الصغيرة. لقد صدمه ما رأى وأحس بأنها غدرت به فقد ذهبت لتكبر وتركته على حاله صبياً صغيراً نحيلاً مشاعره أكبر منه، وهكذا أحس بفداحة التناقض فإما ان يكون قد قذف إليها من الماضي أو ان تكون قد تدلت إليه من المستقبل، والماضي والمستقبل لا يلتقيان والزمن لا يمكن إيقافه فلا هو سيكبر بسرعة حتى يلحق بها ولا هي يمكن ان تعود نفس الصبية المشاكسة التي أحبها. تأملها لدقائق وانصرف وهو يشعر بحزن طاغ فقد انتهى كل شيء ولن يلتقيا بعد الآن فالليل والنهار لا يلتقيان ولكنه كان قد اعتاد أن يهزم دائماً وان يطوي حزنه داخل قلبه، وقطع رحلة العودة وسط زملائه لا يرى إلا وجهها الذي غادره للمرة الأخيرة فظل صامتاً ذاهلاً يعتصره ألم هذه المصادفة التي لم تكن في حسبانه والخسارة التي لم يكن يتوقعها. واصل الصغير دراسته واجتاز المرحلة الابتدائية دارساً في سنة واحدة مقرر سنتين وكانه يحاول ان يثبت أنه قادر على ان يسابق هو الآخر في مجال الدراسة ، وذهب لمواصلة الدراسة في القاهرة وكبر بشكل سريع وأكمل الثانوية والجامعة وشب واكتهل. لابد وان فريدة قد تخطت الآن منتصف عمرها وربما كانت سيدة وقور لها عدد من الأبناء والبنات وربما الاحفاد، وربما يسعدها أن تعرف ان الكهل الذي كتب هذه السطور ما زال يحمل نحوها ذكريات لطيفة وانه أحبها لسنوات طويلة دون ان تدري.