كثير من الإبداع الحقيقي يكمن في قدرة البعض على صناعة السعادة للآخرين ممن هم بحاجة إليها كاحتياجهم إلى الماء، فعلاً إنه الإبداع الحقيقي يتجلى في أحلى صوره، وأرقى حلله حين تمتلك ناصية الفعل في إدخال السعادة على الآخرين، ولعمري إنه لعمل عظيم أن يستطيع الواحد كمنا صناعة حياة للآخرين كانت على وشك أن يعمها الموات. إن من أسوأ الأمور التي يعيشها مجتمعنا وتغلغلت في شتى مفاصل حياتنا هذه الأيام انعدام مبدأ التكافل الاجتماعي، وتنميته في نفوس الناس، وتعزيز معانيه في أوساط الأسر، وتكريس ثقافته، إنها مأساة المجتمعات الحقيقية وخاصة عندما تمر هذه المجتمعات بأوقات عصيبة على أبنائها تضيق من خلالها أحوال الناس، وتنكمش دائرة معايشهم التي تسوء يوما بعد يوم. وكمسلمين لست أدري لماذا تغيب مثل هذه المعاني المهمة في حياة الشعوب، ولست أجد جواباً شافياً يفسر هذا الغياب السافر لمثل هذه الأخلاقيات التي تأخذ الناس إلى فسحة في عيشهم وحياتهم. لقد كان النبي صلى اله عليه وسلم جوادا كالريح المرسلة التي تأتي على كثير من الناس حتى إنه عندما لا يجد ما يجود به لا يجد حرجاً في أن يجود بما يلبسه جبة كانت أو رداء، أما اليوم فللأسف الشديد فإن الأحوال قد تغيرت بحيث أصبح الناس لا يتفقدون حتى جيرانهم الذين لا تبعد جدران بيوتهم عنهم عدة أمتار، فيعيش البعض في شظف من العيش دون أن يكلف الجار المقابل نفسه عناء السؤال عن جاره الذي يتضور جوعاً ويمنعه حياءه من إعلانه. لقد تعجبت من قصة شاب مع رجل كبير يرقد في المستشفى فكان هذا الشاب يزوره كل يوم ويجلس معه لأكثر من ساعة يساعده على أكل طعامه والاغتسال ويأخذه في جولة بحديقة المستشفى، و يساعده على الاستلقاء ويذهب بعد أن يطمئن عليه. دخلت عليه الممرضة في أحد الأيام لتعطيه الدواء وتتفقد حاله قائلة: “ما شاء الله يا حاج الله يخلي لك ابنك وحفيدك يومياً يزورك، ما في أبناء في هذا الزمن مثله” نظر إليها ولم ينطق وأغمض عينيه، وقال لنفسه “ليته كان أحد أبنائي ..”هذا اليتيم من الحي الذي كنا نسكن فيه، رأيته مرة يبكي عند باب المسجد بعدما توفي والده وهدأته.. واشتريت له الحلوى، ولم أحتك به منذ ذلك الوقت ومنذ علم بوحدتي أنا وزوجتي يزورنا كل يوم ليتفقد أحوالنا حتى وهن جسدي فأخذ زوجتي إلى منزله وجاء بي إلى المستشفى للعلاج وعندما كنت أسأله، لماذا يا ولدي تتكبد هذا العناء معنا؟ يبتسم ويقول (ما زال طعم الحلوى في فمي يا عمي)، وما أحلى قول الشاعر في هذا السياق: ازرع جميلا و لو في غير موضعه فلن يضيع جميلا أينما زرعا إن الجميل و إن طال الزمان به فليس يحصده إلا الذي زرعا بل إن المرء ليحار من إبداع البعض في إدخال السعادة والسرور على المحيطين من حوله كالرجل الذي يفطر مع زوجته كل يوم رغم إن عمره أقترب من الثمانين عاماً،عندما سأله المصور عن سبب دخول زوجته لدار الرعاية للمسنين؟ قال إنها هناك منذ فترة لأنها مصابة بمرض الزهايمر ( ضعف الذاكرة ) أي إنها لا تعرف أحداً، سأله المصور: وهل ستقلق زوجتك لو تأخرت عن الميعاد قليلاً؟، فأجاب : إنها لم تعد تعرف من أنا!!، إنها لا تستطيع التعرف عليّ منذ خمس سنوات مضت!!، فقال المصور مندهشاً: ولازلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباح على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟، ابتسم الرجل وهو يضغط على يد المصور وقال: هي لا تعرف من أنا ولكني أعرف من هي. حتى يدرك الناس أن من أقرب الأبواب التي يسهل الوصول عبرها إلى الله عز وجل هو باب تفقد الآخرين والرحمة والترفق بهم، وصناعة السعادة لهم وهي أبواب بالمجمل تؤدي إلى أن ينظر الله إلى العبد بعين الرحمة فيجعله من المفلحين، ويجعل روحه في خفة ونشاط تسمو إلى الملأ الأعلى عبر مدارج السالكين، بخلاف المعرضين عن الله الذين ليس له هم إلا مصالحهم ومنافعهم الشخصية فلا يرون شيئا في الحياة إلا إذا أتى ملامساً لما يصبون إليه من لعاعة الدنيا، الأمر الذي يجعلهم أثقل ما يكونوا عن التفاعل مع الآخرين، والسعي الحثيث من أجل قضاء حوائجهم، وكم يحزن الإنسان عندما يسمع بتلك القصص التي تدلل دلالة واضحة عن غياب الرحمة وتفقد لعل منها تلك الواقعة التي حدثت في إحدى المدارس حيث وجه مديرها بتفتيش الحقائب الطلاب لسرقة حدثت وعندما وصلت المفتشة التي تقوم بعملية التفتيش إلى إحدى الطالبات نظرت إلى المفتشة وهي صامته وقد ضمّت الحقيبة إلى صدرها رافضةً أن يفتح أحد الحقيبة، فظن الجميع أنها السارقة، وعند تحويلها إلى إدارة المدرسة صدمت المدرسة بامتلاء الحقيبة بفتات الخبز (السندوتشات) نعم هذا هو الموجود وبعد سؤال الطالبة عن هذا الخبز قالت بعد أن تنهدت: هذه بقايا الخبز من فطور الطالبات حيث يبقى من السندوتش نصفه أو ربعه فأجمعه وأفطر ببعضه وأحمل الباقي إلى أهلي، إلى أمي وأخواتي في البيت لتكون هذه البقايا غداءً وعشاءً لأننا أسرة فقيرة ومعدمة وليس لنا أحد ولم يسأل عنا أحد وكان سبب منعي من فتح الحقيبة لكي لا أحرج نفسي أمام زميلاتي في الفصل. ثم انفجرت بالبكاء ورافقها الجميع بدموعهم. همسة: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. [email protected]