تتعدد الأماكن الأثرية والسياحية في ربوع وطننا الحبيب، ومن هذه الأماكن ذي إشراق، القرية التاريخية التابعة لمديرية السياني بمحافظة إب الخضراء بجامعها الأبيض الذي يصل عمره إلى حوالي ألف ومائتي عام، ومنازلها المتشابكة كالأنامل، وجبلها الحيزم الشامخ الذي يحتضن دفء الأنفاس كالأم الحنون. قرية الإشراق البكر ذي إشراق اسم قديم ولد مع ولادتها ومعناه القرية صاحبة الإشراق الأول، وقد سميت بهذه التسمية لأن جنين الشمس بمجرد تنفسه يقبلها مبكراً قبل بقية القرى والمدن الأخرى، ويتفرع هذا الإشراق ليشمل الجوانب الأخرى كالوجوه والقلوب والعقول بالإضافة إلى الأحجار والأشجار والأزهار والمياه.. وتتماهى الخيوط اللامعة لابنة السماء ممتزجة بالتراب والكلام والحب والسلام.. كانت عقارب الوقت تتمدد عند الضحى، والأزقة بخور تراب معجون بعطر الأجساد المتحللة، والمقبرة تتربع على الهامش الهش بقرونها الحجرية الناتئة والشاهدة على أن ثمة أشخاصاً يسكنون فيها وعلى حرير العشب الأخضر رعاة البقر والشياه يرددون مواويلهم الجبلية، وأهازيجهم النشيطة بلهجة لم استطع فهمها، وهناك حيث توشك أن تنتهي القمة الشامخة تستلقي شامة بيضاء تسمى سحابة، وتتبدى القرى الأخرى متناثرة كحبوب مجذوب على صخرة ملساء الدمنة وضراس ودار الجبل في الجهة المقابلة، والظفاوة والحميراء والمعموق وقابع ودار الغيل... وغيرها من المناطق التي لا عدّ لها ولا حصر، ويسبح البصر في محيطات من الخضرة السرمدية، فتنتقل العدوى إلى النفس والبدن. وتشع السعادة متفجرة كالنهار الذي أعيش بين أفيائه، فأضطرني إلى البحث في أحشاء هذه الفاتنة الساحرة لائماً قناتنا الفضائية التي تركز على الأماكن المكررة، والمفتقرة بعضها إلى الأهمية السياحية، وكأنها لا ترى تلك البقاع التي تظهرها على شاشتها فقط، والقريبة من متناولها دون اكتشاف الأماكن الأثرية السياحية المهملة، وهذا نداء نوجهه إلى وزارة الإعلام والقناة الفضائية للتذكير ليس إلا. استنزاف عشوائي تقع قرية ذي إشراق على مبعدة خمسة كيلو مترات من مديرية السياني، وحوالي عشرين كيلو متراً من محافظة إب يحدها من الشرق وادي نخلان والدمنة، أو بالأحرى الشمس التي انبثقت تسميتها منها، ومن الغرب جبل الحيزم الذي يصل ارتفاعه إلى ألف وخمسمائة متر تقريباً عن مستوى سطح البحر. أما من الشمال فقرية ضراس بشقيها الأعلى والأسفل، ومن الجنوب قرية الظرافة ذات أشجار الطلح الكثيفة، ويصل عدد سكانها إلى حوالي ثمانية آلاف نسمة يعمل أغلبهم في الزراعة، وبالأخص زراعة القات. وهناك عدة محاصيل تنتجها هذه القرية كالحبوب بمختلف أنواعها الذرة والدخن وغيرها، مع العلم أن محاصيلها موسمية تتزامن مع فصل الصيف فقط ما عدا محصول القات فإنه يتم إنتاجه طوال العام، حيث يستنزف أغلب المياه الارتوازية والجوفية، الأمر الذي جعل وادي نخلان موشك على الجفاف وإفراغ آخر قطراته العميقة مما يؤدي إلى كارثة إنسانية سببها في الأول والأخير شجرة القات الجهنمية، مع العلم أن السيول التي كانت تتدحرج من جبل التعكر، وبالتحديد من قرى النقيلين قد بدأت توشك على الانقطاع كلما مرّ عام، وهذه مشكلة من الضروري التنبه إليها. كما أن اتجاه الناس إلى الاحتطاب العشوائي بعد ارتفاع أسعار الغاز وانعدامه أحياناً من السوق صحّر الكثير من الغابات الصغيرة التي كانت تستدعي المزن، وتلطّف غضب الجو الخانق. جامع ذي إشراق أينما اتجهت، وحينما جلست تبقى منارة مسجد ذي إشراق كسبابة بيضاء من غير سوء تشير بعملقتها المتوهجة نحو السماء.. إنها الوحيدة التي تجعل لكل امتداد زمني حيزاً من الفخامة وحولها المسجد الواسع المزخرف من الخارج بالمهارة في تصميمه، ومن الداخل بالفسيفساء والآيات القرآنية.. بني مسجد ذي إشراق في عهد الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز، وتحتوي جدرانه الداخلية ذات الكتابة الفريدة على تاريخ بنائه، وقد ظل هذا المسجد على مدى قرون طويلة قلعة شامخة لتلقي العلم والعبادة والمتأمل له من بعد كشرفة البغدة أو من الأخطور أو دار الجبل يجد حوله هالة من المهابة المتوهجة التي لا تنطفئ أبداً، وكل واجهة تشع بمعانٍ تتمثل في علو الدين، وفرادة البناء، وعنفوان التحدي للزمن العابر كمنشار حاد، أما المحدق في هذا الجامع من قرب فيجد فيه ما لا يجد فيه الرائي البعيد باستثناء التوهج، حيث تضع اليمام والحمام بيضها على منارته، وتتداخل في جوفه الأحرف بالنحت.. والزجاج المعشق الذي يحلل الألوان الشفافة إلى أرواح وملائكة من البهجة والسرور، أما الداخل في صحنه الخارجي فيفاجأ بالمهارة الفائقة التي ابتكرت في ذلك العهد المبكر، ولا مستحيل كان يبقى أمام المسلمين. السفر الأخير غادرت المسجد وإحساس يشدني إلى الصلاة فيه، ثم رحت أنقب في الأحجار العتيقة التي أحالها الزمن المؤكسد إلى الداكنة، ولملمت شظايا نفسي للتجول في الحواري من جديد والظهيرة عمود من ظل يختفي في أصله، وطال البحث عن شيء لا أعرفه فاستطال التعب، وحدقتني العيون المرتعشة باستغراب يفضح غرابتي عن المكان وأهله، فدفعت خطواتي المهرولة إلى منطلقها ومستقرها.