لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تعرضت فيها صنعاء للحصار ورزحت أشهرًا وأسابيع تحت معاناته القاسية, فخلال تاريخها الطويل, كانت محط أنظار كل غاز أو طامع في السلطة بوصفها مدينة اليمن الأولى وعاصمتها التاريخية. وخلال كل الحروب العدوانية التي استهدفتها كان أبناؤها يدافعون عنها ببسالة لامحدودة, غير أنها انتصرت أحياناً وهزمت في أحيان أخرى, كان آخرها عام 48م, حين أسقطت حكومة الدستور واستبيحت العاصمة على أيدي جيوش الإمام أحمد وعامل سكانها معاملة لانظير لها. غير أن حصار السبعين يوماً وماتمخض عنه من نتائج يعتبر حدثاً متميزاً لا في تاريخ العاصمة فحسب بل وفي التاريخ اليمني بأسره سواء في دلالته السياسية أو الاجتماعية أو من حيث طبيعة الصراع والقوى التي خاضته ونوعية الأسلحة التي استخدمت كوسيلة في الحسم. ولاريب أنه بعد أن حدث لصنعاء ماحدث في عام 48م, فإن انتصارها في حرب السبعين يوماً يرتدي أهمية تاريخية غير عادية وكذلك فإن لأبنائها- وقد كانت أبداً أُماً لكل يمني- الحق في الاعتزاز لأن مدينتهم الشجاعة كانت في مستوى التحدي واستطاعت بإمكانات متواضعة أن تكون منيعة أمام الغزاة ولم تجثُ على ركبتيها مثلما كانوا يتوهمون, ولم تختر سوى الانتصار برغم كل ويلات الحرب والدمار.. وقد يكون من المفيد في هذا الصدد التذكير بما أشار إليه الأستاذ البردوني في كتابه(اليمن الجمهوري) من افتقار العاصمة إلى وقود التدفئة والطبخ(الحطب) خلال حصار عام 48م كان واحداً من العوامل التي حدت بالعاصمة إلى الاستسلام أمام جيوش الإمام أحمد خلال أسابيع من الحصار فقط بيد أنها في هذه المرة لم تستسلم رغم محاصرتها على مدى أشهر وحاجتها لكل شيء بما في ذلك(الحطب) ورغم تعرضها لقصف مدفعي متواصل طال معظم أحيائها السكنية, وخلف ضحايا عديدة فضلاً عن الخراب.. ونستطيع من خلال هذه الحقيقة ان نقارن بين المرحلتين وان نتبين بجلاء تام مدى التحول الهائل الذي طرأ في وعي جماهير الشعب اليمني وسكان العاصمة بالذات الذين استوعبوا درس عام 48م، كما ينبغي، ولذلك فإن انتصار حرب السبعين لم يكن مجرد صدفة بل كان حصيلة منطقية لتوافر عدة عوامل ذاتية وموضوعية موجود على الأرض وكامنة في الشعب الذي صنع الانتصار. وكما هو معروف فان عدداً ممن كتبوا عن معركة حصار صنعاء قد تعرضوا إلى إيضاح الحالة الصعبة التي كانت تعيشها العاصمة خلال المعركة بهذا القدر أو ذاك من التفصيل ولسوف أشير هنا باقتضاب إلى مشاهداتي القليلة خلال تلك الفترة، حيث عشنا في العاصمة في الأسابيع الأولى من الحصار ثم ترددنا عليها بين حين وآخر بعد أن كلفنا بالعمل في مطار (الرحبة). حسب ماهو معروف فإن القوات الملكية بعد أن أطبقت على العاصمة وأفلحت في احتلال بعض المرتفعات والتلال القريبة منها نصبت عدداً من مدفعية الميدان والهاون والمدفعية الصاروخية ثم بدأت في قصف بعض أحياء العاصمة على نحو انتقائي خصوصاً في الأسابيع الأولى من الحصار إذ اقتصر القصف على تلك الأحياء التي تتواجد فيها مرافق الدولة ومؤسساتها العامة مثل الإذاعة والقصر الجمهوري ومقر القيادة للجيش (عرضي الدفاع) على أمل ان يدفع ذلك سكان العاصمة إلى حالة من التذمر والانهيار ويحدث شللاً في الحياة العامة وممارسة الضغط السياسي والنفسي على المدافعين فضلاً عن احتمال بروز طابور خامس من داخل العاصمة نفسها يسهل الاستيلاء على القلعة من الداخل كما حصل عام 48م. ولأن ذلك لم يحدث فقد عمد العدو إلى تصعيد هجماته بالمدفعية وتوسيع نطاقها ليشمل القصف معظم أحياء العاصمة وأسواقها دون تمييز، ولعل الذين شهدوا معركة الحصار لم ينسوا حادثتي القصف البربري اللتين استهدفتا أعداداً كبيرة من الناس المتجمعين في حي (باب اليمن) و(السايلة) وما خلقتاه من ضحايا ناهيك عن عشرات القذائف التي كانت تتعرض لها أحياء العاصمة المختلفة طوال ساعات النهار. بيد أن ذلك كله لم يؤدِ إلا إلى نتيجة واحدة هي المزيد من التحدي والصمود والإصرار على النصر وقد يكون من غير المنطقي التصور أن القصف المدفعي المعادي لم يسبب حالات من الذعر بين أوساط السكان أو أنه لم يخفف المدافعين في المواقع ولو بدرجة أقل خصوصاً في مراحله الأولى، بل العكس هو الصحيح ولكن تأثيره النفسي كان يقل بصورة تدريجية وحسب ما يقول (المارشال مونتغمري): (هناك حد لمدة القصف تتوقف بعدها معنوية الخصم عن التدني والهبوط). ومن هنا نستطيع أن تبين كيف أن ذلك القصف المدفعي الشديد أضحى بعد ذلك أمراً مألوفاً واعتاد الناس عليه مثل اعتيادهم على روتين الحياة اليومية، وطفقوا يكيفون أنفسهم وطرائق أداء أعمالهم مع ما يتفق والواقع المعيش حيث خفض مستوى العمل في الحوانيت والمؤسسات خلال ساعات النهار التي كان الملكيون أثناءها يطلقون العنان لمدفعيتهم بصورة منتظمة وفي أوقات محدودة في الغالي بينما تزدهر أمسيات العاصمة بمزيد من الحركة والنشاط باعتبار أن القوات المعادية كانت تتجنب اطلاق نيران مدافعها بعد حلول الظلام إلا فيما ندر تحاشياً من انكشاف مواقعها وحتى أطفال العاصمة الذين ألفوا ممارسة ألعابهم في الأحياء عند كل صباح بصورة عفوية عرفوا كيف يتعاملون مع الوضع الجديد عن طريق الاختباء في ساعات الخطر. وحينما كنا ندلف إلى العاصمة في بعض الأيام لمتابعة طلبات المواقع لدى المؤسسات المركزية كنا نشاهد المدينة هادئة وقد ران عليها الصمت خالية من الحركة باستثناء سيارات الجيش والمقاومة الشعبية التي تقطع شارع (علي عبدالمغني) وشارع (جمال) مسرعة خشية ان تصاب بقذائف المدفعية التي تلاحقها أحيانا من شارع إلى آخر. بيد أن ما كان يميز ركاب تلك السيارات من الجنود والمقاومة ذلك القدر العجيب من العزم وهدوء الأعصاب الذي يصل إلى حد اللامبالاة بأصوات القذائف التي تنفجرمن حولهم وتتناثر شظاياها هنا وهناك ولكنها لم تصب إلا نادراً. ولقد كان من غير المألوف أن تشاهد سيارة تخلو من مكبر صوت مركب على مقدمتها أو مسجلة تذيع الأناشيد الوطنية بأصوات عالية تملأ رحاب المدينة باعثة الحماس والعزم في كل إنسان له قلب وسمع، وكانت أغنية المقاتلين المفضلة، تلك الأنشودة الوطنية الرائعة التي كان يصدح بها صوت المرحوم الفنان (علي الآنسي) ويلهج بها كل لسان (قسماً برب العزة أني سأحمي ثورتي وأصون جمهوريتي .. الخ). حقاً كانت الشوارع مهجورة تتراكم فيها الأوساخ وبقايا السيارات المحطمة منقوشة بالحفر التي تحدثها المدفعية، وتشاهد البيوت واقفة وقد علا جدرانها جدار آخر سميك من الأتربة وقد تساقط زجاج نوافذها على الأرض وجدرانها مثقبة من الرصاص ولكن الإصرار على عدم الاستسلام كان مقروءاً وملاحظاً على المباني وفي وجوه البشر. وبرغم التغييرات الحضارية التي طرأت على أحوال الناس المعيشية جراء إطلالة المجتمع اليمني على العالم إثر قيام الثورة وبروز حاجة لتلبية متطلبات الحياة وإشباع رغبات الناس المكبوتة على مدى قرون والتطلع إلى التمتع بمباهج الحياة المعاصرة، أقول برغم ذلك كله فإن اختفاء العديد من السلع الاستهلاكية بل والضرورية من أسواق العاصمة لم يسبب أي قدر من الهلع بين الناس مثلما يحدث عادة في الحالات المشابهة. كما وأن أحداً لم يرفع عقيرته بالدعوة إلى الاستسلام أو التفريط بالثورة مهما غلا ثمن الصمود.. كما هو معروف فإن صنعاء كأنت تفتقر إلى الحد الأدنى من الاحتياط الضروري من المواد الغذائية المخزونة وسائر متطلبات الحياة اليومية بل لم يكن بها مخازن أو مستودعات ذات شأن، الأمر الذي أدى إلى تناقص أو اختفاء بعض السلع الضرورية كالحبوب والدقيق والكيروسين وسواها من الحوانيت، وهذه المرة ليس بسبب جشع التجار المعهود الذي لم يلحظ أثناء حصار السبعين والحق يقال وإنما لنفاد تلك المواد من الأسواق بسبب طول أيام الحصار واستحالة تعويض الاستهلاك بالمرة خصوصاً بعد تعطيل رحلات الطيران إلى مطارات العاصمة. وقنع الناس بالحد الأدنى من – الضروريات – الذي يجعلهم قادرين على البقاء أحياء ولم يعد أحد يتساءل عن أسباب تضاؤل حجم الرغيف أو عن تغير لونه وطعمه عندما كان يصنع من أنواع مختلفة من الحبوب والدقيق ذات النوعية الرديئة مع الحرص على عدم التفريط بالقشور التي كان يستغنى عنها قبلاً، بل لم يكن أحد ليسمح لنفسه أن يتذمر إذا مكث مستقيماً في الطابور طويلاً بغية الحصول على بضع أوقيات من الجاز والسكر وغيرهما من المواد التي أخذت قيادة المقاومة الشعبية على عاتقها مسؤولية توزيعها في الأحياء باقتصاد متزايد . وكان كلما ازدادت قسوة الحياة ومعاناتها تعاظمت لدى الناس روح التعاون وتنامت مقدرتهم على السيطرة على العوز ولئن وجد الناس متطلباتهم المعيشية بعد قيام الثورة فإن مجتمعنا لم يكن قد غرق بعد في بحر الاستهلاك الباذخ مثلما هو حالنا اليوم. وكان من شأن ذلك أن فقد العدو واحداً من أسلحته التي يحسن استخدامها ضدنا في هذه الأيام ويسخرها لقهر إرادتنا بعد ان فقدنا زمام السيطرة على رغباتنا الذاتية وما تفشى بيننا من عادات استهلاكية مهلكة. وحسبنا أن نشير هنا إلى واقعة مهمة حدثت في المرحلة قبل الأخيرة من الحصار تمثلت بتلقي القيادة السياسية في صنعاء برقية مستعجلة من الحديدة – منفذ البلاد الوحيد الباقي آنذاك على العالم - يخطرها عن نفاد بعض السلع الضرورية من المخازن كالوقود وسلع غذائية أخرى مهمة. وصادف وصول تلك البرقية توارد أنباء غير مريحة عن تصاعد هجمات الملكيين في مختلف المحاور فشكل ذلك سبباً أمام القيادة السياسية لمناقشة الوضع القائم في البلاد من جديد واستشفاف امكانية سياسية جديدة حيال الصراع القائم ترتكز على قاعدة فتح التفاوض مع الطرف الآخر من جديد. وقد تم كما هو معروف استدعاء مختلف الفعاليات الوطنية في البلاد إلى اجتماع في منزل الفريق (العمري) بحضور ممثلي الأحزاب والقوى الوطنية والشخصيات الوطنية المستقلة التي كانت تضطلع بقيادة المقاومة الشعبية وقادة الوحدات العسكرية والمحاور وممثلين عن أبناء القبائل وعدد من الوزراء ذوي العلاقات بالشؤون الاقتصاد والسياسية. وكان ذلك الاجتماع بحق يتسم بقدر كبير من الأهمية ولكنه يرتدي طابعاً تاريخياً لأنه مثل نقطة تحول نوعية في مجرى الصراع المحتدم، ومع أن قراراته لم تكن مطولة فقد مثلت منهجاً ورؤية واضحين اتسما بالحسم القاطع. ولقد تجرأ عدد قليل من الساسة على اقتراح العودة إلى التفاوض مع الملكيين ومن يساندونهم بحجة المرونة وكسب الوقت بعد أن بسطوا حججاً للبرهنة على مدى سوء الأحوال في البلاد وتضاؤل مقدرة الدولة على الاستمرار في المقاومة لفترة أخرى أطول. وكان جواب الغالبية الساحقة من الحاضرين في الاجتماع يتلخص بكلمة واحدة أو بكلمتين لا غير (لا مساومة على مصير الثورة وينبغي أن نقاوم حتى النهاية) تطبيقاً للشعار المرفوع (الجمهورية أو الموت) وهكذا كانت المقاومة وكان النصر. ويجب ان نشير إلى مسألة هامة كان لها أبلغ الأثر على القرار السياسي وتتعلق بالجبهة الداخلية وطبيعة الأوضاع السائدة في العاصمة حيث ساد الاستقرار جميع أحياء المدينة فلم يحدث ما يعكر صفو الأمن بصورة جدية لتجاوب المواطنين من ناحية وبسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها وزارة الداخلية برئاسة المقدم (عبدالله بركات) الذي كان دائب النشاط والحركة وبالتعاون الوثيق مع المقاومة الشعبية من ناحية أخرى, وكانت الظاهرة الأكثر بروزاً في حياة العاصمة هي اضطلاع الشرطة والمقاومة الشعبية كليهما بمهمات مزدوجة منها حماية العاصمة ودعم مواقع الجيش الدفاعية من حولها في آن واحد.