الحكومة تجدد دعمها لجهود ومساعي تحقيق السلام المبني على المرجعيات    حادث تصادم بين سيارة ودراجة نارية على متنها 4 أشخاص والكشف عن مصيرهم    نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    أطفال يتسببون في حريق مساكن نازحين في شبوة بعد أيام من حادثة مماثلة بمارب    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    كارثة وشيكة في اليمن وحرمان الحكومة من نصف عائداتها.. صندوق النقد الدولي يدق ناقوس الخطر    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    ماذا يحدث في صفوف المليشيات؟؟ مصرع 200 حوثي أغلبهم ضباط    لا نهاية للحرب.. الحوثي تعلن عن تجهيز مليون مقاتل لمعركة ''البحر الأبيض'' وتتوعد: هؤلاء سيكونون هدفًا لنا    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    قطوف مدهشة من روائع البلاغة القرآنية وجمال اللغة العربية    كيف تفكر العقلية اليمنية التآمرية في عهد الأئمة والثوار الأدوات    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    الأكاديمي والسياسي "بن عيدان" يعزّي بوفاة الشيخ محسن بن فريد    بمنعهم طلاب الشريعة بجامعة صنعاء .. الحوثيون يتخذون خطوة تمهيدية لإستقبال طلاب الجامعات الأمريكية    تفاصيل قرار الرئيس الزبيدي بالترقيات العسكرية    بعد خطاب الرئيس الزبيدي: على قيادة الانتقالي الطلب من السعودية توضيح بنود الفصل السابع    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    آرسنال يُسقط بورنموث ويعزز صدارته للدوري الإنجليزي    صندوق النقد الدولي يحذر من تفاقم الوضع الهش في اليمن بفعل التوترات الإقليمية مميز    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصول حية من أرض المقاومة والدفاع عن الثورة السبتمبرية
نشر في 14 أكتوبر يوم 26 - 09 - 2012

بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لدحر حصار السبعين يوماً ، نقتطف بعضاً من فصول كتبها المناضل الوطني عمر الجاوي أحد قادة المقاومة الباسلة عن العاصمة السبتمبرية "صنعاء" .
يروي في ذكرياته المعنونة ( ريبورتاج صحفي حي من أرض الأحداث في حرب السبعين ) فصولاَ حية من حياة المقاومة ساعة بساعة لاتخلو من المتابعة الدقيقة والتحليل السياسي العميق.
فيما يلي بعض من هذه المقتطفات :
أصالة اليمنيين :
سؤال لوحده : كيف تمت محاصرة المحاصرين في صنعاء؟
كان لابد من اتخاذ أساليب عديدة في مواجهة العدو.. فالقوات المسلحة والأمن العام والتي تمركزت في صنعاء، وبالذات في المواقع الأمامية منها، وقعت في شر لابد منه، ومأزق كان على المقاومة الشعبية والسكان في صنعاء أن يبددوه بكل الوسائل الممكنة.. وللحقيقة فقد كان عدد عناصر القوات المسلحة والأمن قيلاً جداً، الأمر الذي يصعب فيه تصور مدى الصعوبات
التي واجهوها وهم يخوضون حرباً بين فكي كماشة.
هنا تتبادر إلى الذهن تلك العبارة التي قالها أحد عباقرة التاريخ عن كومونة باريس : ((نعم لقد ذهب هؤلاء البواسل لمقارعة السماء)) إلا أن الجماهير هذه المرة في صنعاء، قد انتصرت انتصاراً ساحقاً على الأعداء بفضل تماسك الجبهة الداخلية وبسبب من التصفية الجسدية التي مارستها المقاومة الشعبية ضد أعداء ثورة 26 سبتمبر تحت شعار (الجمهورية أو الموت). قد يتبادر إلى الذهن أن المقاومة قد مارست أساليب إرهابية بقصد تصفية الطابور الخامس في المدينة.. وتذكر صنعاء جيداً أن المقاومين كانوا أرق أفئدة مع السكان، أكثر مما تصور حتى بعض أعضاء الحكومة آنذاك.
كان المقاومون يعرفون جيداً أن كسب السكان ودفعهم في طريق المقاومة لن يتأتى مطلقاً إلا بوضع نموذج مغاير لذلك الذي كان في صنعاء قبل 26 سبتمبر أو في مرحلة الثورة والحرس
الوطني.. هذا النموذج، لا يمكن أن يكون مفيداً وجاداً إلا في حالة واحدة فقط.. وهي مراعاة حالة السكان النفسية من ناحية، والمعرفة الدقيقة بعادات وتقاليد شعبنا، والعمل على احترامها بكل الوسائل.. ومن أجل محاصرة أولئك الذين يحاصروننا، لابد من كسب السكان بوضعهم الجديد، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة احتياجاتهم الضرورية وباستثناء العائلات العريقة في صنعاء والتي وهبها الله بسطة في الرزق، انحازت المدينة كلها في الأسبوعين الأولين من الحصار إلى صف الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم الضروري.. وبرزت آنذاك بعض المشاكل والقضايا التي تحتاج إلى حلول سريعة.. وعرف المثقفون ولأول مرة، أنهم يجهلون طبيعة الحياة اليومية في مدينة صنعاء.. في ذلك الوقت من عام 1967م، كان عدد السكان في العاصمة أكثر من مائة ألف نفس، تتمتع فيها بالعيش الطيب مع الكهرباء والماء النقي والبوتوجاز، ويملكون مخزوناً جيداً من الغذاء لأوقات الشدة.. لقد انقسمت المدينة أمام
أعيننا عملياً إلى فريقين أساسيين بالنسبة المحروقات على الأقل. ثلث تقريباً يستعمل الجاز ((الكيروسين)) للطبخ والإضاءة، والباقي اعتمد اعتماداً أساسياً على الحطب.. ولقد بدأ الحصار في موسم البرد.. وبلفتة بسيطة إلى أزمة من هذا النوع وفي جو الحصار وجدنا أن الجاز والحطب كله من خارج صنعاء المحاصرة.. ومن أجل كسب السكان لمحاصرة الذين يحاصروننا، لابد من البدء في ضمان حاجاتهم اليومية البسيطة.. كان أمل المقاومة والجيش والأمن في التجار عظيماً.. ولكن حكمة المسيح عليه السلام أصبحت ذات مدلول واقعي أنه ((لن يرتفع التاجر إلى ملكوت السماء حتى ولو دخل الجمل في سم الخياط)).
لقد قام بعض التجار بإجراءات مؤسفة تساعد المرتزقة مساعدة مباشرة وذلك بإخفاء السلع اليومية الضرورية، الجاز السكر وغيرها، وبدأ البعض منهم يبيع الجاز والسكر في السوق السوداء وارتفع حتى آخر رمضان ثمن ((التنكة الجاز)) من 4 ريالات إلى خمسة وعشرين ريالاً.. وزاد السكر خمسة أضعاف، واختفت السجائر، ويعرف بعض التجار أن مثل هذه الإجراءات قد
تدفع حتى بالفقراء إلى الاستسلام خاصة والحصار يطول.. إذن لابد من إجراءات سريعة مقنعة لحل مثل هذه الإشكالات اليومية، لم تكن الشرطة موجودة على الإطلاق في المدينة، فقد ذهبت مع غيرها إلى المواقع.. وكان وزير الداخلية، مجرد ضابط مع حارسين لا يؤثرون مطلقاً في قضايا الأمن وهم بلا جنود.. وطلبت وزارة الاقتصاد من التجار أن يقدموا كشفاً بالسلع الضرورية التي كانت في حوزتهم.. ورفضوا، وطلبت منهم الالتزام بالتسعيرة وتعاملوا .. خاصة بعد أن هاجرت الحكومة كلها من العاصمة إلى الحديدة وتعز وإلى خارج الوطن في بلدان بعيدة عن طائلة يد الحصار.
ودعمت المقاومة وزارة الاقتصاد حسب طلبها ورافقت المسؤولين في البحث عن السلع
الضرورية حيث ألقي القبض على كميات لا بأس بها من السكر والجاز والحبوب.. واضطر المسؤولون في وزارة الاقتصاد إلى نقل الجاز بالطائرة إلى صنعاء ولأول مرة في تاريخ البشرية، يغامر الطيار جوهر الذي يعتبر بطلاً من أبطال السبعين يوماً المجهولين، إلى نقل الجاز والنزول في بقع الله التي لا تمت إلى المطارات بصلة.. وهنا استطاعت وزارة الاقتصاد توفيره ولم يبق إلا التوزيع، بطريقة تستفيد منه الجماهير المحتاجة.. وحسب تقسيم المناطق، وقف المثقفون اليمنيون من الخريجين وغيرهم أمام براميل الجاز لبيعها على المواطنين الفقراء بالرطل فقط وحسب تسعيرة وزارة الاقتصاد، تحت وابل من طلقات القنابل ((الملكية)). وحلوا أشكالاً أشعر المواطنين بضرورة الالتفاف حول المقاومة.. وعندما تتوافر لقمة العيش يبحث المواطن عن الأمان والأمن.. ولأن الحصار والفقر لا يرحمان، توقع كثيرون عمليات لا حد لها من النهب والفوضى والتخريب.
وللحقيقة، فقد كانت الحراسة المشددة وظروف النوبات عاملاً أساسياً في حفظ الأمن وتطمين السكان.. وبدأت الإشاعات من قبل من يسمون ((بالملكيين)) في صنعاء حول المقاومة وبثوا في صنعاء القديمة إشاعة تقول : ((إن حاميها حراميها)). وأن المقاومة هي التي تنتهك حرمات الناس.. وبطلت هذه الإشاعة أمام التزام المقاومة باحترام كل المواطنين، ومساعدتهم وإسعافهم .. لعله من دواعي السرور الآن أن نذكر، أن المقاومة بالغت في احترام السكان إلى درجة التضحية.
أطلق أحدهم الرصاص في قاع العلفي على المقاومة من بيت محدد تماماً.. فحاصرت المقاومة البيت واتصلت بالقيادة.. وجاءت الأوامر المشددة تقول فتشوا
البيت واحترموا النساء ولا تدخلوا إليهن.. ولم يعثروا على المجرم، لأن المقاومة التزمت بعدم تفتيش النساء.
مسكت سيارة جيب وهي تحمل الذخائر من صنعاء إلى بني حشيش وعرفت السيارة التي يملكها ضابط كبير.. وكتمت المقاومة السر، احتراماً للمسؤولية ومحافظة على الجبهة الداخلية.
كتبت المقاومة على جدران بيت مسؤول كبير في الأمن ((الجمهورية أو الموت)) وقام المسؤول في الصباح، ليمسح هذا الشعار.. استمر هذا ((الغزل)) البديع بين المسؤول والمقاومة، إلى أن انتهى الحصار وبصورة يومية.
هذا السلوك الفاضل من قبل المقاومة أدى في النتيجة إلى كسب بسطاء السكان، وعزل الطابور الخامس وبالتالي محاصرته.
فجر أحدهم ديناميتاً أمام القصر الجمهوري، وهرب بدراجته النارية ونتيجة لتعاون السكان ويقظة الجيش والأمن والمقاومة، لقي جزاءه بعد يومين من الحادث.
لقد كان كسب السكان في العاصمة وحمايتهم والسهر على راحتهم من أهم العوامل التي أدت إلى محاصرة الذين يحاصروننا، وهذا لا يعني مطلقاً أنهم قد انتهوا أو تخلوا عن إيجاد أساليب جديدة للتخريب، فلقد استمر الطابور الخامس في صنعاء، يرسل الإشارات والتبرعات والذخائر ((للملكيين)) واستنبطت المقاومة أساليب جديدة للدفاع عن العاصمة حتى جاء يوم التاسع والعشرين من رمضان، اليوم الحاسم في تاريخ بلادنا كلها.
القول الفصل :
في يوم الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1967م .. اجتمع قادة الجيش ((قبل أن يغادر بقية كبار الضباط صنعاء)) مع البقية الباقية من الوزراء وممثلي المقاومة الشعبية، لبحث قضية واحدة فقط، وهي عودة اللجنة الثلاثية إلى صنعاء.. وكان الاجتماع برئاسة ((الفريق)) حسن العمري، وقبل الدخول في مناقشة وقائع الجلسة التاريخية، نود هنا أن نضع الخطوط العامة لطبيعة الحالة في العاصمة حينها والقوى المتحركة فيها، ولماذا أرادت الرجعية العربية واليمنية ومن ورائها الاستعمار العالمي إرغام شعبنا على قبول اللجنة الثلاثية التي طردت بالدماء في يوم الثالث من أكتوبر عام 1967م، قلنا إن من يسمون ((بالملكيين)) ومن ورائهم السعودية قد خططوا على أساس إسقاط صنعاء خلال شهر رمضان، وانطلقوا في تحقيق ذلك من ثلاث حقائق نظرية وعملية.
أولاً : كان التفوق العسكري والإستراتيجي في صالح الرجعية (المدربين والسلاح + قطع الطرق والاستيلاء على كل الجبال المحيطة بصنعاء).
ثانياً : استغلال العواطف الدينية عند القبيلي وفي شهر رمضان بالذات، والتركيز على أن كل من في صنعاء كافر وملحد وشيوعي، وأن الموت في هذا الشهر الكريم وضد هؤلاء الشيوعيين يعد استشهاداً.
ثالثاً : عدم الوضوح والتحديد السياسي لحكومة 5 نوفمبر التي كانت تمسك بالعصا من وسطها.
لقد كانت كل الأسباب مرتبطة بشهر رمضان الكريم، كفرصة سانحة، به أكثر الفرص ترجيحاً للنصر.
ونتيجة لما قد ذكرناه من بطولات للجماهير في صنعاء، أشرف رمضان على الانتهاء.. ولم يحققوا شيئاً يدل على المضي نحو انتصارهم، وعلى العكس فقد تبدلت الأمور حين استولت القيادات الجديدة في الجيش على إدارة عملية المقاومة وفك الحصار.
في هذا الجو بالذات وفي يوم التاسع والعشرين من رمضان كان لابد من حسم الموقف والعمل على التقارب مع أولئك الذين حكموا صنعاء بقنابلهم الصاروخية.. وكان المفروض ورمضان يشرف على النهاية أن ترضى الرجعية السعودية التي لم تستطع حتى بالاستعانة برمضان من فرض حلول بالقوة على شعب اليمن.
ومثل الحاضرون في اجتماع 28 / 12 / 1967م خليطاً من الاتجاهات الغريبة المتناقضة حتى على نطاق ((شعار الجمهورية)) نفسه. وحتى لا أذهب بعيداً عن التناقض الأساس، اتخذ الاجتماع سمة الرضوخ لشعار الدولة الإسلامية، وكان القطاع العسكري من الحاضرين يمثل فريقين متناقضين أيضاً، رغم الفرق في الدراية السياسية : الضباط الكبار الذين احتل مقاعدهم الصغار على نطاق الشارع والجبهة كانوا يرون أن دخول اللجنة الثلاثية إلى صنعاء يعني إعادة مكاسبهم الذاتية، وإشراكهم فيما يسمى بحكومة ((الأطراف المعنية)) ذات القاعدة العريضة.. لذا ضغطوا في هذا الاتجاه .. أما الضباط الصغار ذوو الخبرة المتواضعة في مشاكل السياسة فقد كانوا عمليين إلى درجة عدم الفهم لما يجري حولهم من مؤامرات.. وقد وافق الكل في الجلسة المنعقدة في 28 / 12 / 1967م على وصول اللجنة الثلاثية إلى صنعاء التي تشتعل ناراً بفعل كثافة الضرب من خارجها في آخر أيام رمضان.. لقد استغربت قيادة المقاومة هذه الموافقة خاصة من الضباط الصغار.. وجاء الجواب حينها كاملاً ووافياً.. لم يتعرف هؤلاء الشباب الجدد على الحياة السياسية، وطبيعة المؤامرة وفكروا وهم المسيطرون عسكرياً على الموقف في العاصمة أن اللجنة لن تستطيع فرض أي شيء. وأنها ستطرد من صنعاء إذا ما تطاولت. أما كيف تمت الموافقة التي صفيت في الحال؟ فهذه هي التفاصيل :
الهاربون من الجحيم :
عندما بدأ الحصار كان رئيس أركان الجيش في القاهرة، وعندما طلب منه العودة اختار السلامة، وكان هذا العقيد أحد الضباط الكبار الذين أسعدهم الله بالابتعاد عن رائحة البارود والجثث، وكان لابد لهذا الصنف من القادة الموجودين في الداخل أن يمارسوا نفس الصنف أيضاً من الابتعاد.. ولقد من الله على اليمن بشعبٍ شجاع يقوده جزء من ضباطه الكبار الذين يودون سماع طلقات الرصاص في دور السينما فقط، أما أن يمسكوا بالزناد فهذه أمور تخالف طبائعهم الرقيقة و((الإنسانية)). وقد هددوا قبل هذا الاجتماع الشهير بالهروب من صنعاء إذا لم يوجد الحل السلمي.. وبحثوا بالفعل عنه في خارج صنعاء. وكان السيد محجوب وزمرته من اللجنة الثلاثية، أحسن من يقوم بهذا الدور الذي يبدأ بالهدايا الشخصية وينتهي بها أيضاً.
ورتبت الأمور على هذا الأساس، ووضعت القضية أمام الضباط الصغار بالشكل التالي :
((الملكيون)) يتقربون من ((عصرْ)) وظروفنا العسكرية لا تساعد على هزيمتهم.
جاءت البرقيات من الزعماء في الحديدة وخارج الوطن تطالب بإنقاذ الموقف عن طريق اللجنة.
يقول المسؤولون في الحديدة ليس هناك ذخيرة ولا إمدادات.
ليس هناك بترول ولن يستطيع سلاح الطيران أن يتحرك ابتداءً من الغد.
وقرأ أحد المسؤولين برقيات سرية ((للغاية)) ((لهذا الغرض)).
المظاهرات الجماهيرية في 3أكتوبر 1967 حين طردت اللجنة الثلاثية
في هذا الاجتماع الذي حضرته أيضاً المقاومة قرئت هذه النقاط، بالشخصيات التي أرسلت البرقيات، وقال الفريق حسن العمري الذي ترأس الاجتماع في بيته، إن هذا وضعنا.. وكلنا موافقون على مجيء اللجنة.. ولم يبق عدا رأي المقاومة.
والحقيقة أن هذه النقاط تخيف الشجعان وتدعو بالفعل إلى طرح السلاح أمام صوت العقل .. ولكن :
هل كانت هذه النقاط صحيحة؟ من الذي يستطيع أن يكشف حقيقة الوضع الصحيح؟ سكان مكة أعرف بشعابها : وكانت المقاومة هي التي تمثل سكان مكة رغم التناقضات في قيادتها.. وهنا أود أن أتحدث بشكل عام من محضر جلسات المقاومة دون أن أذكر الأسماء، لأسباب تتعلق بظروف مواقف الناس غير الثابتة في البلدان المتخلفة.
نقطة واحدة من الخمس كانت صحيحة وهي أن ((الملكيين)) كانوا يقتربون من وسط العاصمة.. إلا أن هذا الحديث قد تكرر طوال شهر رمضان، فلماذا إذن يثار الآن؟
ولقد بنى المسؤولون بقية النقاط حول هذه القضية، بقصد التخويف وانسياقاً مع فكرة تحقيق الدولة الإسلامية وكانت كلها ملفقة، وذات طابع نفسي دعائي، يمكن أن يكشف ببساطة حتى أمام المنطق الشكلي.. ولا أريد هنا أن أتطرق إلى بعض القضايا التي طرحت والتي لا تدل إلا على الجبن والغش منها على سبيل المثال : إن البلدان العربية المتحررة والبلدان الاشتراكية تطالبنا بقبول اللجنة الثلاثية.. أو سترفض إسنادنا الخ.. وإنما أريد هنا أوضح كيف تم الصراع من أجل تثبيت قضية أن يعطى لليمنيين حق شرف الدفاع عن تربة وطنهم، خاصة بعد أن اختار الحكم طريق اتفاقية الخرطوم. وبأسئلة بسيطة متواضعة عرفنا الرد السريع على القضية الثالثة والرابعة والخامسة ومن ثم القضايا التي لم يحن الوقت لطرحها.
قال الضباط الصغار رداً على أسئلة المقاومة إن معهم ذخيرة تكفي لحماية العاصمة، وجاء الرد أيضاً من قبل ظروف الصراع الدولي وموقف القوى العربية والتقدمية في العالم أن الطائرات ستستمر في الدفاع عن صنعاء.
وكانت القضية الخامسة مجرد حرب نفسية يمكن دحضها حتى من قبل الأغبياء.
وعقد النقاش، لا لأن المسألة مفضوحة، إلى درجة أن المقاومة طلبت تأجيل الموقف إلى اليوم التالي حتى ترى عدم وجود طائرات في سماء صنعاء، وإنما أيضاً لأن التناقض بدأ يدب في صفوف قيادة المقاومة.
فقطاع 5 نوفمبر في قيادة المقاومة، وافق على حضور اللجنة إلى صنعاء، لأنه جزء من الحكم، ولأنه من الناحية السياسية يتفق وخط تشكيل ((حكومة ذات قاعدة عريضة من الأطراف المعنية)).. واقترب أحد أفراد قيادة المقاومة زاحفاً على ركبته بحكم العادة وهمس للدكتور العطار ((بصراحة.. نحن نختلف مع الأخ المتحدث باسم المقاومة، لأن الطبقات المسحوقة تريد السلام))، واشتد الموقف تأزماً حين استعان جزء من قيادة المقاومة بالقاعدة مباشرة.
لقد وضعت المقاومة شروطاً لقبول مجيء اللجنة رفضت في الحال وتتلخص في النقاط التالية :
أولاً : أنْ تعلن اللجنة قبل مجيئها بياناً تقول فيه إنها ستصل إلى صنعاء للإطلاع على التحرشات السعودية.
ثانياً : أنْ تعلن أنها لا تعترف إلا بالنظام الجمهوري الحالي وبحكومة صنعاء.
ثالثاً : أنْ تعلن أنها ليست امتداداً لاتفاقية الخرطوم.
وضعت هذه النقاط الثلاث بعد أن أعطيت لقيادة المقاومة فرصة المداولة بدقائق معدودات في الغرفة المجاورة لقاعة الاجتماعات.. وقد مثل القيادة حينها : يحيى الشامي، علي الشنواح، مالك الإرياني، النقيب الشهيد عبده قاسم، سيف أحمد حيدر، عمر الجاوي.. عندما وضعت النقاط الثلاث صرخ أحد المشايخ الكبار جداً : ((إن صانعي 3 أكتوبر هم أنفسهم الذين يرفضون اليوم ويريدون بهذا أن تسقط صنعاء.. أما قبول اللجنة الثلاثية، وإلا سنعود إلى مناطقنا وأبقوا أنتم لوحدكم))، وحينها تحرك ضابط من الصاعقة وقالها صريحة ((سنقاتل حتى النهاية ونرفض الاستسلام للجنة والدولة الإسلامية))، في هذا الوقت بالذات دخل النقيب طاهر الشهاري قائد اللواء العاشر وطلب إمدادات سريعة، لأن من يسمون بالملكيين يدقون أبواب ((عصر)) ويتقربون من أول مدخل لصنعاء.. وجاءت الأوامر في الحال مواكبة لنفس الخط، أمر عسكري.
يتجه نائب قائد الصاعقة سريعاً على رأس سرية إلى عصرْ دون نقاش.. وذهب أول نصير للمقاومة في الاجتماع.
وبدأ الاستفزاز بصورة نصائح من نفس طريقة الزحف على الركب لإقناع قيادة المقاومة. واشتدت أزمة النقاش ورفضت النقاط الثلاث وحينها تحدث الفريق حسن العمري رئيس الوزراء :
(لقد أرسلنا بقية نطلب فيها مجيء اللجنة فاهدؤوا.. ولن نفرط مثلكم في مصير الجمهورية)) وأضاف : ((كل ما جرى هنا يعتبر سراً.. وخذوا بعين الاعتبار إنني سأتصرف بطريقتي إذا خرجت كلمة واحدة)).
وكان الرد من صنف الحديث ((طردنا اللجنة من بلادنا دون أن تطأ عتبة صنعاء، ونحن دون سلاح.. فليبارك الله في البندقية التشيكية اليوم)).
ورغم هذا التهجم على المقاومة ورغم الوضع العسكري الفظيع ورغم الاستفزازات، إلا أن الناطق الأول لم ينس أن يطلب من المقاومة خمسمائة من أعضائها لتقديمها لقمة ((للفريق قاسم منصر)). ورفض هذا الطلب وحينها فقط عرف الحكم، أن هناك تناقضاً أساسياً بين الذين يحملون السلاح والذين يحكمون على بركة الله. وأخذ رأي المقاومة بعين الاعتبار وكانت المقاومة وليس قيادتها جادة في طرد اللجنة بقوة السلاح.
أنتظر بعض السادة الكبار اليوم الثاني، أما بعضهم فقد صمم على البدء برحلة الشتاء إلى القاهرة وبيروت وخمر.. أما البعض وخصوصاً من الضباط فقد أنتظر يوماً آخر حتى تتم الوساطة من قبل نائب رئيس الوزراء.. لعل وعسى أن تقبل المقاومة وصول اللجنة.. كان الخوف يسيطر على جماهير المقاومة من القيادة المتناقضة خصوصاً بعد أن حاول الدكتور العطار.. وبعد أن سمع بنفسه همس أحد القادة والذي زحف على ركبتيه ليقول ((بصراحة.. نحن نريد السلام)).. أن يقيم اتصالاً بالمقاومة يطلب منهم أما الصمود إلى النهاية والوحدة الداخلية، أو قبول اللجنة دون ضجة.
واجتمعت المقاومة الليلة الأخرى تحت تهديد القاعدة الجماهيرية المسلحة .. وفرضت رأيها على القيادة العسكرية والمدنية التي ظلت في ذيل القاعدة وخرجت المقاومة بنتيجة في مذكرة واضحة وضوح العدو.. كيف تم هذا الاجتماع.. وكيف تناولت القيادة القضية.. وكيف كتبت المذكرة؟
قلنا : في البدء كانت الكلمة :
الضلال الفكري والسياسي أشد وطأة على الشعوب المضطهدة ((من ضرب الحسام المهند*)) .. فكل هزيمة تبدأ بحرف الناس عن الخط الصحيح لقضيتهم، ليتخذ كل شيء مجرى آخر ليس من صلب القضية.. وفي وطننا اليمني مارس الاستعمار والإمام في كثير من الأحيان هذا الضرب من المغالطة، حين اشتد النضال من أجل جمهورية ثورية موحدة لليمن.. كان الأئمة ينشرون المغالطات ويوجهون الرأي العام اليمني وجهة أخرى، حتى ولو بالحملة على بريطانيا عندما يرفع الناس شعار إسقاط حكمهم.. فيبدو الثوار وكما لو أنهم مدفوعون من بريطانيا.. أما الاستعمار في عدن فقد كان أذكى بكثيرٍ من عملائه في صنعاء، فقد أقام في وجه الحركة الوطنية شعارات نزعت جوهر المسألة من يد القادة.. فتارةً يمنع القات ليشغل الرأي العام.. وتارةً أخرى يحول الصراع إلى مجرد نقاش حول قرار من المجلس البلدي بأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية.. وما جرى في صنعاء المحاصرة في 29 ديسمبر، كان ضرباً من هذا النوع من المغالطة.. لقد تحددت المسألة كما قلنا بقبول اللجنة أو رفضها.. أما أن يتحول النقاش إلى كيفية استقبالها؟ فهذا هو الضلال بعينه، وحرف لمجرى القضية بوعي من البعض وبروح طيبة من البعض الآخر.. ولأول مرة في تاريخ اجتماعات قيادة المقاومة يخيم جو عدم الوضوح والرؤية لقضية قد حدد المقاوم العادي رأيه فيها تحديداً نهائياً بالرفض .. كانت نشرة المقاومة هي الخط الواضح للصمود نثراً وشعراً.
لنمت أو نعيش على الأرض أحراراً
ولا عاش من يستسيغ الهيانة
كل شعبٍ محا أساطيره السود
ووارى تحت الثرى أوثانه
واستحالت عبادة الناس للناس
وأمسى حمل القيود خيانه
وكانت القيادة تمثل قائمة كبيرة من العسكريين والمدنيين، يجلسون حول مائدة، تنتظر فيه كل فئة سياسية ما، تبدأ بعد الأخرى وبدأ القائد العسكري يشرح وضع البارحة بروح تضمن اختيار طريق الحكومة.
وتحولت الأمور من رفض القيود، إلى إيجاد أنجح وأحسن الطرق لحملها.
وبدأ الرأي الأول يقول إننا ((سنقابل اللجنة بالمظاهرات)) ليرد عليه آخر من فئة سياسية أخرى ((لنقاطع اللجنة)) وبدأت التفاصيل تتوارد من كل حدبٍ وصوب حتى على نوع الشعارات التي ستعلق في الشوارع ويحملها المتظاهرون.
كان لابد من وضع الأمور في نصابها والعودة إلى القضية، إن مناقشة أسلوب استقبالنا للجنة الثلاثية يعني بالضبط عدم اعتراضنا على مجيئها في الوقت الذي كان فيه الاعتراض يشكل الموقف الحاسم من مجيئها وعدمه.
وتحدد القضية حسب المنطق المعروف بالتالي :
ما دمنا نستطيع منع اللجنة من دخول صنعاء فلنمنعها : وإذا كنا لا نملك المقدرة مطلقاً فلنناقش طريقة استقبالها.
وتحول الموقف تماماً داخل القيادة العسكرية والمدنية على السواء، فقد تسابق القادة حسب محضر الجلسات على تثبيت الرفض ليظهر مبادرته الثورية وليلحق بالجماهير البسيطة التي لا تتوه ولا تحيد عن هدفها حين تضغط على الزناد.. وقيل حينها لنرفع مذكرة بالرفض، تصاغ بطريقة توضح أساس هذا الموقف.
المذكرة :
من الصعب جداً نشر هذه المذكرة كلها، إلا أنه في الإمكان إعطاء ملخص كامل لها.. ذلك لأن هذه المذكرة قد كشفت للحكومة حينها مدى معرفة المقاومة لطبيعة الأوضاع ابتداءً من انتفاضة الثالث من أكتوبر عام 1967م ومروراً باستقالة رئيس وزراء 5 نوفمبر وانتهاءً بالوضع العسكري في أواخر رمضان.
لقد كتبت مذكرة المقاومة التي منعت اللجنة الثلاثية من أن تطأ عتبة عاصمة شعبنا التاريخية على أساس الفهم العميق لعلاقة اليمن كله بالعالم، الذي ننتمي إليه، متبينة آفاق تطور المد الثوري العربي والعالمي والانتصارات التي حققها الشعب اليمني رغم ظروف هزيمة حزيران عام 1967م.
وكان محور المذكرة الرئيس يتركز على سؤال قد أجيب عليه بالرصاص في اليمن بعد الهزيمة :
هل في صمودنا الباهظ اليمن، دعم لأمة العرب وكل الشعوب المناضلة.. أم أنه سيمر دون أن يؤثر في دفع المد العربي على طريق الانتصار ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية المحلية؟
وكان الجواب إيجابياً : وعليه لابد من توضيح هدف مؤتمر القمة في الخرطوم، الذي جاء بهذه اللجنة كتكملة للهزيمة.
بغض النظر عن ظروف مؤتمر القمة في الخرطوم ونوع التنازلات التي تمت أثناء انعقاده وظروف هذه التنازلات، إلا أن الأساس المبدئي لكل شعب عربي هو ((هزيمة الهزيمة)) من مواقع حقيقية حسب ظروف كل بلدٍ على حدة.
نحن في اليمن نرى أن تنفيذ اتفاقية الخرطوم في بلادنا يضيف عبئاً جديداً على كاهل الأمة العربية، ومن مصلحة الأمة العربية المتحررة ألا تجعل للإمبريالية العالمية ولا للرجعية العربية مقراً ولا ممراً، يشكل رافداً خلفياً للعدو في بلادنا : وهذا ما أرادته السعودية كمساهمة منها في تثبيت الهزيمة.
ولقد بنت المذكرة وجهة النظر هذه من فهم الظروف الموضوعية في اليمن بالذات ومن الأحداث التي جرت وتجري في بلادنا.
لليمنيين يدٌ في إنهاض الروح المعنوية لأمة العرب، فبعد أسبوعين من الهزيمة، رد شعبنا في مدينة عدن بالدماء على الدعاية الإمبريالية، واستولى الثوار على هذه المدينة التي كانت تعتبر من أعتى المعسكرات البريطانية في المنطقة : ولم تكن مغامرة قصد بها تقديم الضحايا بقدر ما كانت بداية لمرحلةٍ تؤكد للعالم أنه بالدماء فقط تبنى الأوطان.
ومن قلب المعسكر البريطاني سنبدأ بحرب التحرير.. وحينها فقط عرف العالم الذي يعادينا، أن هزيمة حزيران ليست الموت للعرب، ولن تكون كذلك.. لم تكن انتفاضة عدن في 20 يونيو ((حزيران)) عام 1967م إلا لتأكيد الأصالة الثورية عند شعوبنا العربية.. وما كان 3 أكتوبر في صنعاء وطرد اللجنة الثلاثية إلا منعاً لآثار الهزيمة من الانتشار، فلم يبق إلا الصمود في وجه أعداء صنعاء.
من هذا التاريخ القصير الذي لا يزيد على الستة أشهر بعد الهزيمة، كان لابد من الصمود وتأكيد الرفض لتعميم الهزيمة على طول البلاد العربية وعرضه. على أن هذا الصمود الذي قدمته المذكرة، وهذا التحليل لموقف شعب اليمن لم يأت اعتباطاً ولا موقفاً رومانتيكياً لم يتحسس قدرات وإمكانيات شعبنا، فإن تكون بطلاً فلابد من أن تملك مسببات البطولة المادية والمعنوية على السواء أو حتى جزءاً منها : وكان شعب اليمن في تلك الظروف يملك هذا الجزء من المسببات ويملك أيضاً تأييد كل مناضل شريف في العالم العربي والعالم كله.
أكدت المذكرة خرافة الإدعاء الذي يقول إن البلدان العربية المتحررة تريد منا تسليم بلادنا للأمريكان والسعودية. كان الوضع في صنعاء كما أكدت المذكرة من الناحية الحربية ليس في صالح العدو.. وكان المطلوب فقط الحرص في تلك الأيام على تأمين المواطنين من بطش بعض المسؤولين وإيقاف بعضهم من العبث بقضايا التموين سواء من المواد الاستهلاكية أو الإستراتيجية.
وقدمت المذكرة حقائق بالأسماء والأرقام أيضاً لمشاكل التموين في الحديدة لمحاولة تهريب الأسلحة والذخائر من صنعاء إلى بني حشيش وخصوصاً طلقات مدافع الهاون، وقضية وضع المدفعية في الموقع 32 في جنوب ((نقم)) وتركها دون ذخيرة ودون أدنى حراسة حتى كاد يسقط الموقع.. قضية تجويع المقاومة في مطار الرحبة والأزرقين وغيرها من المواقع.
قدمت المذكرة مع وضع الحلول أيضاً لفك الحصار وحماية صنعاء.. ولأول مرة تتحول العملية من الدفاع عن وجهة النظر لرفض اللجنة ولاتفاقية الخرطوم إلى هجوم وفضح مؤامرة تسليم صنعاء لقمة للعدو، الذي لم يستطع التهامها بقوة السلاح.. وبدأ الانفراج.. حين تفهمت القوات المسلحة والأمن العام وبوضح تام موقف المقاومة وأيدته.
حين قمت المذكرة للجهات المسؤولة لم ترفض، وإنما بذلت محاولة أخرى وبطريقة ((الرجاء)) أن تعدل المقاومة موقفها من اللجنة، ووافق نائب رئيس الوزراء على كل وقائعها.
وحينها ازدادت المقاومة إصراراً على المضي في الطريق نفسه وتحول الموقف في صنعاء.. وبدأت مرحلة أكثر تقدماً من السابقة، لم يقتنع فيها العالم بعدم جدية أحلام السعودية من سقوط صنعاء فحسب، وإنما أيضاً بإمكانية شعب اليمن في فك الحصار.
ماذا بعد التحول؟
وبعد عيد رمضان المبارك عام 1387ه اتخذ التغيير طابعاً شاملاً في تركيب القيادات الشعبية وفي ظروف المعركة نفسها.. ذلك لأن طابع المعركة قد فرض هذا التحول، ولأن المرتزقة لم يستمروا بالوتيرة نفسها، خصوصاً بعد رمضان، وهنا تجدر الإشارة إلى طبيعة الحرب التي خاضها الجنود والأمن والمقاومة بقيادة الضباط الصغار بعد أن هاجر بقية المقدمين من صنعاء أسوةً بالمشايخ والوزراء.
حتى آخر رمضان، كانت صنعاء تدافع عن أبواب المدينة نفسها، وكان المرتزقة يسيطرون على الطرق الجبال المطلة عليها، ورغم انتماء القبائل السبع المحيطة بصنعاء إلى حاشد وبكيل المتناقضة وأغلبها من بكيل، إلا أن مراكز القوة ظلت في يد المرتزقة الذين قادهم قاسم منصر والغادر ودربوا على أحسن أنواع الأسلحة الأمريكية والسوفيتية على السواء.
كان المرتزقة قد قسموا الضرب على المدينة وعلى مراكز القوات المسلحة والأمن والمقاومة، وكانت المراكز القريبة للمرتزقة تضرب السكان في صلب صنعاء، ولم تكن هذه المراكز قليلة فقد زاد عددها على التسعة : عيبان، النهدين، عصر، سواد حزيز، بيت بوس، ارتل، سعوان وغيرها.
وكانت المراكز البعيدة نوعاً ما تركز على القوات المسلحة والأمن والتي تركزت بالدرجة الأولى في المطارين الجنوبي والرحبة ونقم وبراش والروضة ((الكلية الحربية)) والأزرقين وعصر والمدارس العسكرية ومعسكرات التدريب.
كان عدد الجنود والضباط بسيطاً لا يصل حتى 1 : 8 من عدد المرتزقة، أغلبهم للدفاع، وتحركت فصائل صغيرة من الصاعقة والمظلات ومعهم في بعض الأحيان مساعدة من بعض الفرق والمقاومة للهجوم السريع على بعض مراكز المرتزقة في المناطق الشمالية وجبل الطويل، وحدة)) لا بقصد الاحتلال وإنما للتقليص من قوة العدو وتدمير سلاحه وإرهابه.. إلا أن التحولات المادية التي جرت في أواخر رمضان هي التي أوجدت تحولاً في القيادة الشعبية والرسمية العسكرية.
دور الجماهير اليمنية :
خرجت اليمن كلها من حالة الذهول والاحتفالات بمناسبة استكمال الاستقلال السياسي لبلادنا في 30 نوفمبر عام 1967م.. فالذين كانوا يحتفلون في جنوب الوطن والمناطق التي لم تحاصر من شماله، والذين أصيبوا بيأس من جراء الدعايات الاستعمارية عن سقوط صنعاء خصوصاً بعد انسحاب قوات العربية المتحدة. (1) تنبهوا للحقيقة الصلبة، حين بقيت صنعاء صامدة في الأسبوعين الأولين دون أن تسقط.. وتنبهوا أولاً وأخيراً حين فهموا في خارج العاصمة أن الشعب كله قد حمل السلاح وأن قيادات عسكرية ومدينة قد برزت تملك الشجاعة على تبني شعار ((الجمهورية أو الموت)) وأيقنوا أن انتقال السفارات والوزراء من صنعاء لا يعني شيئاً. (2)
وتوالت البرقيات من كل المدن تبشر بمولود جديد يمكن أن يكون سنداً فعالاً في المعركة.. وجاءت إب والحديدة وتعز بمولود آخر للقوات المسلحة وخصوصاً الفصائل الهجومية ((الصاعقة والمظلات)) وبدأ التدريب السريع والإرسال بالجو إلى المعركة.
كان القادمون الجدد من أبناء الفلاحين الذين لم يحملوا السلاح من قبل والذين تدربوا مدة بسيطة وأكملوا تدريبهم في المعركة نفسها.
وفي قضايا النضال والثورة يحسب الحساب، لا لسقوط منطقة واحدة، بل مدينة للجلوس على عرشها دون بقية المناطق اليمنية.. ويحسب سقوط مدينة ما حتى ولو كانت العاصمة للانطلاق منها للسيطرة على كل المناطق ولأن لواء المقاومة قد رفع في كل مكان، فلم يعد للمرتزقة والسعودية ومن ورائهما الامبريالية الأمريكية أمل في فرض الملكية بقوة السلاح.. لذا سحبت الاحتياطي لها من صنعاء في آخر يومٍ من رمضان بعد أن رفضت المقاومة مجيء اللجنة الثلاثية.. واحتفظت به للوقت المناسب لضرب المقاومة الشعبية والجيش والأمن بعد فك الحصار.
ولقد أسهم شعب اليمن كله في الصمود الرائع، فالذين حملوا السلاح في المدن والمناطق المذكورة، بدأوا في تصفية المرتزقة، وفي جنوب الوطن تحركت الجماهير لدعم المقاومة في صنعاء. وإذا كان الشعار الذي رفعه الشعب السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية هو ((كل شيء من أجل الجبهة)) فقد رفعت جماهير اليمن، عمالاً وفلاحين ومثقفين وتجاراً شعاراً واضحاً أيضاً ((كل شيء من أجل حماية صنعاء))، في أول الأمر.. وبعد رمضان ((كل شيء من أجل فك الحصار عن عاصمة شعبنا التاريخية)).
وكانت كل هذه الشعارات امتداداً لشعار ((الجمهورية أو الموت)) الذي شمل كل المناطق.
نريد أن نخلص إلى نتيجة واحدة فقط، وهو أن التحول الذي جاء بعد رفض مجيء اللجنة الثلاثية كان نتيجة تراكم لعمليات ثورية في رحم المجتمع اليمني كله من عدن حتى صنعاء. هذا التحول قد دفع بكثيرٍ من القبائل البسطاء إلى القيام بعمليات جريئة في سحار لواء صعدة وفي ((جوف رداع)) حيث قام القبائل هناك وعلى رأسهم عبدالله العامري بالاستيلاء على أسلحة المرتزقة وإرغامهم ولو بصورةٍ مؤقتة على الالتزام بدفع الزكاة ((الضريبة)) للحكومة، ولأول مرة في تاريخ الجمهورية.. ونشأت جبهات بعضها صحيحة وبعضها وهمية، جبهة تحرير خولان وبني حشيش وغيرها.
على أن تركيب واتجاه المقاومة في المناطق، لم يتخذ طابعاً ولا اتجاهاً واحداً حسب النصوص التي وردت في برنامج المقاومة الشعبية الذي وافقت عليه القيادة بشكلها التوفيقي بعد الحصار، كما ذكرنا من عسكريين ومدنيين والذي لم يتعرض مطلقاً لأي تغييرات اجتماعية.. وركز على العمل الوطني، حسب الوثيقة التالية :
أهداف المقاومة الشعبية :
1 مساعدة القوات المسلحة والأمن في الدفاع عن المدن.. والمحافظة على الأمن من أعداء الثورة والجمهورية.
2 الدفاع عن مبادئ ثورة 26 سبتمبر وذلك بالطرق التالية :
أ كشف العناصر الملكية والرجعية.
ب محاربة العناصر المشبوهة والانتهازية والمرتشية والجواسيس الذين يعملون ضد الثورة والنظام الجمهوري.
3 القيام بتوعية الجماهير وتعبئتها عسكرياً وسياسياً لتكون قادرة على محاربة الأخطار والمؤامرات التي تحاك ضد الجمهورية ومكاسب الثورة.
4 محاربة الإشاعات المغرضة التي تستهدف إثارة البلبلة والمساس بالثورة والجمهورية.
5 التصدي بصلابةٍ للنعرات الطائفية والعنصرية والانفصالية التي ترمي إلى تمزيق قوى الثورة والجمهورية والوحدة الوطنية.
6 تأمين الطرق العامة في المدن والقيام بالحراسة للمرافق العامة تدعيماً للأمن والجيش.
7 حماية القوى الوطنية من القوى المعادية للثورة والجمهورية.
ففي أواخر رمضان وبعد تشكيل المقاومة في المناطق، جرت الأحداث بصورة تجاوزت أهداف المقاومة، ولقد كانت الخمسة عشرة دقيقة التي يقدمها عبدالصمد القليسي من إذاعة صنعاء يومياً هي الصلة الوحيدة بين قيادة المقاومة في صنعاء وبقية المناطق.
وتعددت التجربة حسب ظروف كل منطقة، وعلى سبيل المثال اتخذت مقاومة البيضاء أسلوب قصف ونسف حتى بيوت الرجعيين، وكانت مقاومة سرية إلى حدٍ بعيد اعتمدت على الأسلحة الشخصية.. وفي ((يريم)) اتخذت المقاومة أسلوباً آخر.. قفز على المرحلة وأعاد إلى الأذهان تجربة بناء الاشتراكية في منطقة المقاطرة في أوائل الثلاثينيات بقيادة ((حميد الدين)).
فلقد اعتقل في يريم المشايخ وبدأت المقاومة في توزيع الأراضي على الفقراء.. وتعددت النماذج وتراكمت وتعمقت الهوة بين يريم التي تستولي على الأرض وتعز التي تتدرب بهدوء.. وتحولت أنظار الناس إلى قضية جديدة.
ما هو الطابع الاجتماعي للمقاومة؟
التركيب السياسي والاجتماعي للمقاومة:
بادئ ذي بدء وقبل الدخول في التحليل النظري لتركيب المقاومة، لابد من معرفة الأسس التي يمكن أن نبني على ضوئها عملية البحث، مراعين بذلك الظروف الموضوعية في اليمن، باعتباره أضعف حلقة لا في العالم العربي فحسب، وإنما أيضاً في العالم الثالث.. فالصعوبة قائمة بالنسبة لعملية التحليل، خصوصاً إذا ما عرفنا أن أغلبية المقاومة من عناصر لا تتجاوز سن السادسة عشر وأن هؤلاء بالذات، هم الذين تمركزوا في الجبهات خارج صنعاء لظروف العمل بالدرجة الأولى ولظروفهم الاجتماعية، كطلاب مدارس ولا يتحملون تبعات أسرية، ولأن جلهم من الأقسام الداخلية في مدارس صنعاء.
وهنا تبدو قضية التركيب الاجتماعي مجرد تطبيق أو تفصيل للنظرية العلمية على هؤلاء العمالقة الصغار.. ولا ضير إن زاد الحجم أو ضاق.
وفي نهاية المطاف سنجد أنفسنا نردد أن هؤلاء الأطفال من أصول فلاحية أو من أبناء موظفي وتجار المدن. وأنه من الصعب أن نحملهم عملية انتماء أيديولوجي أو سياسي إلا في حدود ما تفتح وعيهم عليه في مقطع من أغنية أو نشيد فيما بعد 26 سبتمبر :
يمين الجيش والرشاش والمدفع
بأن الشعب بعد اليوم لن يخضع
ولن يرضى بغير الحقل والمصنع
لجمهورية الشعب اليمانية
ولقد كانوا يرددون في المواقع بعض العبارات الجديدة التي يقولها لهم القادة سواء كانوا عسكريين أو مدنيين.
حكى لي طفل في الثالثة عشرة من موقع ((الأزرقين)) بعض طرائفه، وكان كما أذكر ((الكبسي)) الذي نسي أسماء القادة، وأصبح يسميهم بألفاظهم أو بكنية لا يفهم معناها.
وفي هذا الموقع بالذات، كان القائد العسكري، هو الشهيد أحمد عبدالوهاب الآنسي، شاباً ثوري المزاج والشعور، لا يتكلم إلا بمصطلحات اشتراكية.. وكان يسمي نفسه البروليتاري، ويسمي نائبه البرجوازي بعد أن بدأت شكاوى المقاومة من النائب.
كان النائب فظاً كما يبدو، ينصف نفسه أولاً في قضايا الطعام والغنائم، وكان الشهيد الآنسي ينصف الناس قبل نفسه، فثبت في أذهان العمالقة الصغار لفظة البروليتاري والبرجوازي بشكلها الصحيح، وأصبحت تسميات للقائد ونائبه.
واعتقد هذا الطفل الصغير البروليتاري هو الآنسي والبرجوازي نائبه، وكان ينطقها بطريقة غريبة معقدة، وإن جاز لنا بعد أن نقول عن مقاومة صنعاء أو جلها إن لها انتماءً أيديولوجياً، فلنقل بطريقة الكبسي الطفل ذي الثلاثة عشر ربيعاً.. عدا أن المشاكل الحزبية كانت موجودة حتى عند الأحداث حاملي البنادق والقنابل، ولحركة القوميين العرب مجموعة بينهم، قبل أن تسمى الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، كما أن للبعث أيضاً عناصر قليلة، ولو أن الأغلبية الساحقة تسمع عن الأحزاب فقط.
مع التركيب الفوقي :
إذن فقضية التركيب السياسي والاجتماعي للمقاومة في صنعاء بالذات لا يمكن تحديده عن طريق القاعدة، لأن أغلبيتها من تلاميذ المدارس الأحداث وحتى عمال وعاملات المصنع يدخلون ضمن هذا التحديد، رغم انتمائهم إلى الآلة والإنتاج الصناعي.
فقد كانوا أيضاً صغاراً في السن لا يملكون ثقافة أيديولوجية ولا سياسية ولا حزبية، عدا ((الجمهورية أو الموت)).. وعلى هذا الأساس سنجد أنفسنا وبحكم تخلف الأوضاع في بلادنا نبحث عن التركيب هذا في قمة المقاومة، في القيادة باعتبارها الجهاز المنظر والذي يمكن أن نقول إنه قد شكل على أساس من التفاهم الحزبي فيما قبل 12 يناير 1968م.. حين انتخبت قيادة جديدة، مع إدراج أسماء بعض المستقلين ذوي السمعة الطيبة.. فلقد شكلت القيادة المدنية التوفيقية على النحو التالي حينذاك :
3 من حركة القوميين العرب.
2 من حزب البعث العربي الاشتراكي.
2 من الماركسيين المستقلين.
2 من ذوي النشاط الاجتماعي.
وإذا ما استثنينا العميد غالب الشرعي القائد العسكري المعين رسمياً من الفريق حسن العمري. سنجد أن التركيب نفسه قد تم بالنسبة لتشكيل القيادة العسكرية باستثناء ما سمي حينها بالماركسيين المستقلين.. فلقد شكلت القيادة العسكرية أقرب إلى الخط البياني السابق، ولأن القضية تهم العسكريين فسنكتفي بذكر أسمائهم فقط حسب الرتبة :
1 النقيب محمد صالح الكميم.
2 النقيب صالح الجرادي.
3 الملازم أول نعمان المسعودي.
4 الملازم عبده قاسم.
5 الملازم أحمد الكدادي.
6 أحمد القربي.
7 الملازم ناصر السعيد.
8 الملازم محسن الجبري.
9 الملازم عبدالإله سلام.
10 الملازم عبدالرحمن.
11 الملازم يحيى بيدر.
12 الملازم محمد علي عبدالله.
لقد وضعنا هذه القائمة لنثبت فقط مدى تأثير تشكيل القيادة المدنية على تشكيل القيادة العسكرية آنذاك.. ولنعكس بطريقة أو أخرى مدى تأثير هذا التشكيل في صنعاء على تشكيل قيادة المقاومة في كل من الحديدة، تعز، إب، رداع والبيضاء. ونستثني مدينة ذمار القريبة من خط النار.. ذلك لأن النقيب محمد ناصر محمد قائد المنطقة العسكرية قد تولى بنفسه قيادة المقاومة الشعبية هناك.. وإذا راجعنا القوائم بأسماء القادة في المدن والمناطق الكبير، يمكن أن نصف القيادات في المناطق على النحو التالي :
1 حركة القوميين العرب قادت المناطق التالية لوحدة منفردة :
1 الحديدة، إب، البيضاء وذمار.
2 اشتركت مع البعث في قيادة المقاومة في تعز.
3 جمهوريون مستقلون قادوا منطقة المحويت، عمران، حجة ويريم.
4 اشتركت حركة القوميين العرب مع الجمهوريين المستقلين في قيادة منطقة دمت، جبن ورداع.
5 قاد منطقة جوف رداع من القبائل الجمهوريين بقيادة عبدالله العامري.
أما بالنسبة لجنوب الوطن.. فقد تولى دعم المقاومة الشعبية الجناح اليساري في الجبهة القومية، وشكلت لجنة مركزية لدعم المقاومة في صنعاء وأصدرت بياناً شهيراً بهذا الصدد.
هذه الخريطة المنقولة نقلاً حرفياً من واقع عامي 67 1968م، وقد تلفت نظر القارئ إلى طبيعة تركيب المقاومة وطبيعة الخط السياسي الغالب فيها.. وبغض النظر عن الانطباع الأول من هذه اللوحة، إلا أن صنعاء المحاصرة كانت اللجام الذي يوقف هذه الفئة أو تلك من الاستيلاء على المقاومة لأسباب تتعلق بتجميد الصراع الحزبي من ناحية، ولأن القاعدة ونعني هنا أغلبية القاعدة لم تتعرف بعد على التنظيمات الحزبية، وأنها غير مهيأة إلا للصراع ضد المرتزقة وأعداء الجمهورية.. إلا أن هذه القضية، لم تمنع من الطموح إلى الاستيلاء على قيادة المقاومة خصوصاً في صنعاء المحاصرة، الأمر الذي أدى بالفعل إلى حوادث صراع، بدأت في القيادات الثانوية في أحياء صنعاء الستة وانتهت بانتخابات 12 يناير وصدر البيان التالي الذي سنفسره في الصفحات القادمة.
قرارات مصيرية في اجتماع
المقاومة الشعبية :
في يوم الجمعة الموافق 12 / 1 / 1968م.. اجتماع أفراد المقاومة الشعبية بمقر المقاومة لمعرفة ما توصلت إليه لجنة الاتصال التي انتخبت لمعرفة فصل الأعضاء بقيادة المقاومة من العسكريين والمدنيين.. وبعد أن طرحت اللجنة نتائج اتصالات بالمسؤولين أمام المقاومين، توصل المجتمعون إلى النقاط التالية : وهي أن قرار الحكومة الخلاص بالفصل قد قصد به القطاع العسكري فقط أما القطاع المدني فليس من اختصاص السلطات العسكرية، وهذا كما طرحه المسؤولون أمام لجنة الاتصال، ولذا فقد قامت المقاومة الشعبية بتنفيذ أحد أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة في الديمقراطية وقررت الآتي :
أولاً : أ ) إنهاء صلاحيات ما تبقى من أعضاء اللجنة المدنية بحيث وقد عجزوا عن الاضطلاع بمهامهم الثورية والجماهيرية في هذه المراحل الحاسمة التي يحاول الاستعمار والرجعية النيل من ثورتنا وجمهوريتنا.
ب ) كما وأنه لم يتوافر بين أفراد المقاومة الشعبية من جهةٍ وبين بقية أعضاء تلك اللجنة من جهةٍ أخرى الانسجام التام الذي يجب أن يتوافر بين القيادة والقاعدة الشعبية.
ثانياً : انطلاقاً من إيمان أفراد المقاومة في الدفاع عن الثورة والجمهورية والذي لن يتم إلا بممارسة حقهم الشرعي في اختيار من يثقون بهم من المدنيين لكي يمثلونهم أمام القيادة العامة للمقاومة الشعبية مع العلم أن هذه الثقة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو الاندفاع العفوي بقدر ما هي وليدة التجربة والممارسة الطويلة التي خاضتها الجماهير سواء في المقاومة الشعبية أو قبله، فلا يمكن أن تختار ممثليه إلا وهي واثقة في وطنيتهم وثوريتهم وقدرتهم على قيادة الجماهير الشعبية بإخلاص وشرف، كما وأنها واثقة من توافر الانسجام التام بين أفراد المقاومة الشعبية وبين من تختارهم عن قناعة، ولذا فقد وضعت ثقتها في الأشخاص التالية أسماؤهم :
1 سيف أحمد حيدر. 2 مالك الإرياني. 3 محمد دغيش. 4 علي مهدي الشنواح. 5 عبده سلام. 6 محمد البشاري. 7 علي محمد زيد. 8 صالح أحمد السلامي. 9 عمر الجاوي.
ثالثاً : رفع صور من هذه القرارات إلى الجهات الرسمية في الحكومة إحساساً منها بوجوب التفاعل بين القيادة المتمثلة في السلطة السياسية وبين القاعدة المتمثلة في الجماهير الشعبية، لأن هدفهما واحد في الدفاع عن الثورة والجمهورية وصورة أيضاً للجنة التي تم انتخابها.
أعضاء لجنة الاتصال :
عن العمال : محمد دغيش، عن الموظفين : عبدالحميد حنيبر، عن الطلاب : علي محمد زيد، عن التجار : صالح أحمد السلامي.
صنعاء في 12 / 1 / 1968م.
الانقلاب الصامت :
كانت صنعاء تعيش أزمة تحولات في قيادات الأجهزة التنفيذية العسكرية.. ولم تلتفت مطلقاً إلى اعتبارات واضحة جداً، وهي أنها مجرد واحة صغيرة في اليمن معزولة بحكم الحصار.. وأن الذين ينهون ويأمرون في حدود معينة، حدود الدفاع عن صنعاء.. لقد كان الآمر الفعلي خارج صنعاء حكومة 5 نوفمبر رغم استقالة محسن العيني في بداية أيام الحصار.
ولم يفطن الثوار المحاصرون لما سمي آنذاك باستنزاف قوى العناصر الوطنية، حتى إذا ما أتى النصر فسيكون من نصيب أولئك الذين احتفظوا بقواهم خارج صنعاء دون ((سفك للدماء بين اليمنيين)).
ولقد أدى الاستبسال ومن ثم الخروج من مرحلة الدفاع بعد رمضان المبارك إلى وصول كثيرٍ من القيادات العسكرية الشابة من تعز والحديدة إلى صنعاء.. وشكل المعدون لانقلاب خمسة نوفمبر أغلب أعضاء القيادة العسكرية في صنعاء نفسها.. وحتى الفريق حسن العمري الذي وجد في العاصمة بحكم الصدفة لم يشترك اشتراكاً مباشراً في هذا الانقلاب.. ولأن القيادة العسكرية بعد رمضان كانت من الفئات السياسية الحزبية والديمقراطيين والجمهوريين المستقلين.. فقد بدا كما لو أن تحقيق النصر يتحتم طرد كل الفئات السياسية التي أيدت انقلاب 5 نوفمبر 1967م دون مراعاة للظروف الجديدة. ولقد كانت استقالة محسن العيني إبان الحصار مجرد تلميح لفتح النار على مؤيديه من السياسيين الملتزمين. وبغض النظر عن نوعية الأفراد وقدراتهم، فقد دبر وبطريقة سريعة جداً مؤتمر لأعضاء المقاومة الشعبية بعد اجتماعات للجنة التحضيرية ودون رجوع لقيادة المقاومة ودعي الأفراد إلى مؤتمر لإقالة ((القيادة التوفيقية)) وانتخاب قيادة تمثل الأطراف المشتركة في المعركة والمناوئة لانقلاب 5 نوفمبر عام 1967م.
رأي للتاريخ :
منذ الثالث من أكتوبر عام 1967م، واتفاقية الخرطوم المشئومة تتحكم في الجو السياسي في بلادنا.. فقد أصابت الوطنيين بالانسياق نحو النظرة الوحيدة الجانب.. كانت اتفاقية الخرطوم تعني إعادة الملكيين ضمن الأطراف المعنية في ((الحكومة ذات القاعدة العريضة))، ولقد خففت الأيام الأولى لحصار من هذه النظرة، لاعتبارات تتعلق بالإسراع في حمل السلاح والدفاع عن صنعاء.. وكان العدو واضحاً.. إلا أن هذه النظرة قد عادت من جديد في صفوف القيادات الشعبية، ولم يعد الشعار الذي وضع في رمضان كفرعٍ للشعار ((الجمهورية أو الموت)) (من يقف ضد الملكيين بالسلاح فهو معنا) وأضيف إليه (من وافق على انقلاب خمسة نوفمبر فهو ضدنا)، وتحت هذا الشعار الجديد الذي لم يناقش ولم يوضع للمداولة حصلت انتفاضة 12 في المقاومة كتجربة أريد بها الزحف إلى القوات المسلحة، وهكذا فسرت.
وفي صنعاء المحاصرة، لم يترك للحوار والثرثرة السياسية مجالاً .. فلقد كان الأقوى يفرض نفسه.. وكان على الضعيف أن يقدر الموقف ويحتفظ بأحقاده حتى يصبح قوياً.
ليس المقصود بهذا الحديث سوى التعميم فقط، لأن الأصوات قد ارتفعت مؤيدة القائمة الجديدة بغض النظر عن حضور بعض مرشحيها أو عدم حضورهم.. وكان للسمعة الشخصية والتحالف المفروض شأن وأي شأن.. وجاءت قيادته كما أريد له مناوئة تماماً ((الدولة الإسلامية)) وأخرجت إحدى الفئات السياسية المنظمة من القائمة وبدأت الحرب الشعواء الضروس الصامتة، بين من يقفون جميعاً في صفٍ واحدٍ ضد العدو الملكي المترصد على مشارف صنعاء.
على أنه رغم الانتخابات السريعة والتغيير المفاجئ في قيادة المقاومة، لم تمض الأمور ببساطة كما خيل للبعض وعلى العكس.. فقد كادت تؤدي إلى صدام بين قيادات المناطق الست في صنعاء، وخصوصاً في حي العلمي وباب شعوب.. وبدأ الاستفزاز يسيطر على تصرفات القيادة العسكرية المعينة للمقاومة، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انسحاب عناصر عسكرية احتجاجاً على شق الجبهة في القطاع المدني.. وظهرت ولأول مرة منذ الحصار رائحة عفنة وارتها الأحداث.. رائحة الطائفية البغيضة التي نمت وتطورت وأصبحت أساساً لتحطيم المقاومة الشعبية من داخلها.
وهنا لابد من الاعتراف بحقيقة واضحة في بلادنا منذ نشوء الحركة الوطنية وإجلاء الاحتلال التركي من الجزء الشمالي من الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.