الأسرة عماد المجتمع.. وقاعدة الحياة الإنسانية برمتها.. إذا أسست على دعائم راسخة من “الدين والخلق والترابط الحميم” تكون لبنة قوية وسنداً مهماً في بنيان الأمة، وخلية حية في جسم المجتمع.. فصلاح الأمة مرهون بصلاح الأسرة وفسادها وانحلالها منوط بفساد المجتمع وانهياره. خسارة أجيال الطفل الذي ينشأ في أسرة قائمة على العواطف النبيلة والمشاعر الطيبة والتوجيه الحكيم والحنان الفطري، وتكون نشأته سوية تكسبه قوة في الجسم والعقل، وتجعل منه في المستقبل طاقة مبدعة. يقول الأستاذ محمد القاضي مدير مؤسسة طموح للثقافة والعلوم: الأسرة قاعدة الحياة البشرية وقوام المجتمع، فإذا تعرضت للاضطراب والتصدع ولم تقم برسالتها في التربية والتوجيه، فإنها بدلاً عن كونها قوة دفع في المجتمع للخير والإصلاح تغدو قوة جذب للوراء، ولايكون لها عطاء نافع، فيخسر المجتمع بذلك خسارة فادحة، خسارة أجيال تدمر ولاتعمر، أجيال تعوق مسيرة التنمية والنهضة. التربية الخلقية وأردف القاضي: إن التفكك الأسري في بعض الأحيان يؤدي إلى تهيئة الظروف لانحراف الأبناء فعندما تتفكك الأسرة ويتشتت شملها، ينتج عن ذلك شعور لدى أفرادها بعدم الأمان الاجتماعي، وضعف القدرة لدى الفرد على مواجهة المشكلات، وتحوله للبحث عن أيسر الطرق وأسرعها لتحقق المراد، واستدل القاضي على قوله بأن الأطفال المتواجدين في دار الأحداث يأتون من أسر متفككة غير مستقرة. وإكمالاً لما بدأ أضاف القاضي بأن الواجب على الأسرة أن تهتم بمبادئ التربية الخلقية من حيث الخير والشر، ومن حيث احترام القيم والتقاليد الاجتماعية والتمسك بالفضائل، والمعايير الاجتماعية السائدة، وتنشئة الأطفال على العادات والصفات الخلقية المرغوبة، والابتعاد عن العادات السيئة كالتدخين وتعاطي المخدرات والخمور وتجنب صحبة السوء.. إلى غير ذلك. الأم لا تعوض يرى علماء النفس أن الأسرة المتكاملة ليست تلك التي تكفل لأبنائها الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والصحية فحسب، بل هي الأسرة التي تهيئ لهم الجو النفسي الملائم ومن هنا فإن مجرد وجود الطفل في بيت واحد مع والديه لايعني دائماً أنه يحيا في أسرة متكاملة أو يلقى العناية الأبوية الكافية. ألغام اجتماعية الدكتورة ياسمين طه لها رؤية مفصلة في هذا الجانب فهي تنفي وجود أية بدائل يمكنها أن تحل محل عطف وحنان الأم، باعتبار أن الأمومة ليست وظيفة آلية يمكن أن تقوم بها أية هيئة توفر للطفل الغذاء والمأوى، وإنما هي علاقة إنسانية حميمية تبدل من معالم الشخصية لكل من الأم والطفل. لم تتوقف د. ياسمين عند هذا الحد فهي أضافت أن للأب دوراً حيوياً في حياة الأبناء وبالذات الذكور، فهو النموذج والقدوة، ذلك بالإضافة إلى الدور الذي يقوم به الإخوة والأخوات في حياة كل فرد في الأسرة. غياب النموذج عندما تتقوض دعائم الأسرة وتنهار.. ترى ماذا سيحدث لأطفالنا الصغار..؟! هذا التساؤل حير كثيراً من المهتمين في ذات الجانب وحينما طرحناه جاءت الإجابات متعددة بتعدد الزمان والمكان. يُجيب الأستاذ عبدالعزيز العقاب “مدير مؤسسة ريدان لتنمية وثقافة الطفل”: إنه من غير اليسير تقديم إجابة دقيقة عن هذا التساؤل في الوقت الحاضر..ومن الجلي أن الأطفال الذين ينشأون في أحضان أسرة سعيدة يتمتعون بصحة نفسية ووجدانية جيدة، هذا في الوقت الذي يفتقد الأطفال الذين يربون في ظل أسرة تفتقر إلى الحنان والانسجام والسعادة وذاك الهناء، حتى ولو لم يحدث طلاق بين الأبوين أو اغتراب.. في ذات الجانب تؤكد دراسات الطب النفسي الصعوبات التي يواجهها الأفراد الذين نشأوا في أسر تفتقر إلى الحنان والانسجام، وحثت ذات الدراسات على ضرورة تنشئة الأطفال على نحو ملائم، فغياب الأب عن الأسرة سواء بالطلاق أو الاغتراب أو الوفاة يؤدي إلى فقدان النموذج الذي يمكن أن يحتذي به الطفل. مشاعر الكراهية إن واجب الرجل نحو أسرته مقصور على الإنفاق المادي.. وهنا يوضح الأستاذ عبدالعزيز العقاب الصورة أكثر: فالأب ينبغي أن يكون لديه حضور بين أفراد أسرته، وأن يشعر الجميع بقربه منهم، وأنه معهم يشاركهم فيما يهتمون به، أو يتعرف على مايرغبون فيه، ويصحبهم أحياناً خارج البيت في نزهات أو زيارات، ولاتشغله أعماله مهما تكن عن الرعاية التي فرضت عليه، فالرجل إذا قام بمسئوليته كاملة حمى أسرته من أسباب التفرق والتقاطع، ونشأ الأبناء نشأة سوية في ظل أب يغدق الحنان والعطف، إلى جانب الشدة والقسوة إذا اقتضى الأمر ذلك.. شاركه الرأي الأستاذ صادق محمود الفقيه الذي أكد أن تقصير الأب حتماً يقود إلى تفكك الأسرة، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله على الأبناء ولايقتصر أثر ذلك على تخلفهم الدراسي وحسب، فالأبناء الذين ينشأون في أسرة مفككة يسود أفرادها النفور والكراهية لاتكون نشأتهم طبيعية، وتترسب في أعماقهم مشاعر الكراهية تجاه كل مايحيط بهم، ويتمثل ذلك في الانحراف والتمرد على القيم والنظم والقوانين. والأسوأ من ذلك كما يصف الفقيه: أن تمتد إليهم أيدي المجرمين الذين يتخذون منهم وسيلة لنشر السموم، وسرقة الآخرين، وتصبح الطفولة البريئة مكاناً للانحراف، بل ويتحولون في المستقبل إلى طاقة معطلة ومدمرة ويرتد هذا على المجتمع بخسارة فادحة تعوق نموه. الحالقة.. لابد لنا من العودة إلى دراسة شجاعة وجريئة لواقع الأسرة، والاعتراف بالخلل الذي لحق بها، وعدم التستر على أمراضها؛ لأن ذلك سبيل النجاح.. بهذه المقدمة الموجزة استهل الشيخ عبدالحميد محمد علي حديثه، مضيفاً في ذات السياق أنه لابد من دراسة أسباب التفكك التي بدأت تتسرب إلينا، ومعالجة تلك الأسباب، وعدم التستر على هذه الألغام الاجتماعية، القادمة باسم الحرية والانفتاح التي تنذر بسوء العاقبة من الذين يحاولون اقتفاء آثار الحضارة المعاصرة، ويعتقدون بأن عدم تقليد الغرب هو سبب المشكلة والتخلف. ويرى الشيخ عبدالحميد أن أسباب التفكك الأسري كامنة في الذات المسلمة التي باتت تفتقد معاييرها وتعتمد التقاليد الاجتماعية محل التعاليم الشرعية، وتتهاون في بناء الأسرة وفق المعايير الإسلامية، وتفتقد القيم الإسلامية في الاحتساب، والإيثار، والرحمة، والمودة، والعفو، والإحسان والعدل، حيث تحولت الأسرة إلى بؤرة للصراع، ويعتبر الشيخ عبدالحميد قضايا الأسرة من أخطر الملفات لأنها الحصن الباقي، والهزيمة عندها. ألغام اجتماعية تعتبر “الحالقة” فهي الوحدة الاجتماعية الأولى، وهي الرحم والمحضن الذي تتخلق فيه جميع الأنشطة والفعاليات. مسئولية تكاملية ويجزم الشيخ عبدالحميد أن من أهم الأمور التي تقي الأفراد من الوقوع في مختلف المشكلات، بناء إيمان قوي في نفوس الناشئة من الصغر، ويقصد بذلك التربية الإيمانية التي عرفها أحد المهتمين بربط الولد منذ تعقله بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه أركان الإسلام، وتعليمه من حيث تمييزه مبادئ الشريعة الغراء.. ويضيف في هذا الصدد: فإذا نشأ الفتى على إيمان قوي صحيح صادق نتج عن ذلك شخصية سوية مستقيمة قادرة على مواجهة كافة المشكلات، كما يجب التنبيه إلى أن تقوية الإيمان لاتقف على صغار السن، بل يجب أن تمتد لتشمل الأفراد في جميع مراحلهم العمرية، وهذه مسئولية كافة مؤسسات المجتمع السياسية والدينية والثقافية والتربوية والإعلامية. مؤثرات وسيطة يتفق الباحثون في مجال الإرشاد والتوعية الأسرية على ضرورة تعاون جميع المهتمين بالدراسات الأسرية من علماء الاجتماع، وعلماء الدين، وعلماء النفس، وعلماء الاقتصاد، ورجال القانون، ورجال السياسة، في وضع خطط التوعية الأسرية، وبرامج وقائية تعين الشباب وخاصة المقبلين على الزواج على فهم هذه الحياة الزوجية والعائلية، للتعرف على دور كل عضو بالأسرة والصعوبات التي تعترض هذه الحياة والعوامل المؤثرة فيها، وأساليب العلاج الصحيح لذلك، ويمثل العلاج الأسري خطوة متقدمة مهمة في خدمة الفرد والجماعة.. كما تلعب وسائل الاتصال المختلفة، سواء المباشرة أو غير المباشرة من خلال رسائلها الإعلامية دوراً حيوياً في التنشئة السليمة التي تضمن استقرارها، وتعمل من خلال شبكة العناصر والمؤثرات الوسيطة على إحداث التأثير المطلوب بين أفرادها لانتهاج السلوك المقبول حيال أية مشكلات أو نزاعات قد تواجهها، ذلك أنها تضطلع بوظائف مهمة تجاه الجماهير كالتعليم والتثقيف والتوعية والإرشاد والترفيه.