ضوء غامض يشعل سماء عدن: حيرة وتكهنات وسط السكان    العدالة تنتصر: قاتل حنين البكري أمام بوابة الإعدام..تعرف على مراحل التنفيذ    أتالانتا يكتب التاريخ ويحجز مكانه في نهائي الدوري الأوروبي!    الدوري الاوروبي ... نهائي مرتقب بين ليفركوزن وأتالانتا    متصلة ابنها كان يغش في الاختبارات والآن يرفض الوظيفة بالشهادة .. ماذا يفعل؟ ..شاهد شيخ يجيب    في اليوم 216 لحرب الإبادة على غزة.. 34904 شهيدا وأكثر من 78514 جريحا والمفاوضات تتوقف    قوة عسكرية جديدة تثير الرعب لدى الحوثيين وتدخل معركة التحرير    لا وقت للانتظار: كاتب صحفي يكشف متطلبات النصر على الحوثيين    الحوثي يدعو لتعويض طلاب المدارس ب "درجات إضافية"... خطوة تثير جدلا واسعا    مراكز مليشيا الحوثي.. معسكرات لإفساد الفطرة    استهداف الاقتصاد الوطني.. نهج حوثي للمتاجرة بأوجاع اليمنيين    ولد عام 1949    الفجر الجديد والنصر وشعب حضرموت والشروق لحسم ال3 الصاعدين ؟    فرصة ضائعة وإشارة سيئة.. خيبة أمل مريرة لضعف استجابة المانحين لليمن    منظمة الشهيد جار الله عمر تعقد اجتماعاً مع هيئة رئاسة الرقابة الحزبية العليا    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    بعثات دبلوماسية تدرس إستئناف عملها من عدن مميز    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    رئيس مجلس القيادة يكرّم المناضل محمد قحطان بوسام 26 سبتمبر من الدرجة الأولى    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    المحكمة العليا تقر الحكم بإعدام قاتل الطفلة حنين البكري بعدن    اعتدنا خبر وفاته.. موسيقار شهير يكشف عن الوضع الصحي للزعيم ''عادل إمام''    الأسطورة تيدي رينير يتقدم قائمة زاخرة بالنجوم في "مونديال الجودو – أبوظبي 2024"    تصرف مثير من ''أصالة'' يشعل وسائل الإعلام.. وتكهنات حول مصير علاقتها بزوجها    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية اليوم الخميس    تصاعد الخلافات بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر والأخير يرفض التراجع عن هذا الاشتراط !    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبعاد والدلالات الوطنية والإنسانية للحوار الوطني
نشر في الجمهورية يوم 22 - 05 - 2012

ما هو الحوار؟ باختصار شديد هو التواصل بين عمليتين هما (الإرسال) و(الاستقبال)، وهو بهذا المعنى يهدف إلى تبادل المفاهيم والخبرات والقدرة على التفاعل المعرفي والسلوكي والعاطفي.
والضد لكلمة الحوار يزخر بها قاموسنا اللغوي كالصراع والنزاع والخداع.
وقد قسم بعض المفكرين المعتدلين الحوار إلى ثلاثة مستويات:
- حوار داخلي مع النفس ومحاسبتها وحملها على الحق، حتى يصل الإنسان إلى الطمأنينة الكاملة إزاء ما يتخذه من قرار، وهذا هو المستوى الأول.
- حوار بين أفراد المجتمع وفق اجتهادات مختلفة عملاً بمبدأ: (نصف رأيك عند أخيك) ومبدأ المحافظة على وحدة الصف: (نتعاون فيما اتفقنا عليه ونعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا عليه)، وهذا هو المستوى الثاني.
- حوار بين أفراد المجتمع وقياداتهم وبين مجتمع آخر مختلف عنهم سلوكاً ونهجاً ومصلحة، وهو حوار يجري وفق سنة المدافعة بهدف منع الفساد وتنمية الخير: (الحوار العربي – الأوروبي – الحوار الإسلامي المسيحي – حوار الحضارات).
هذه المقدمة كان لابد منها لنعرف أي مستويات الحوار اليمني الذي نهدف إليه وننشده، ومما لا شك فيه أن الحوار هو أمر تقتضيه الضرورة ولا مفر لأحد منه؛ لمواجهة كل عناصر التحدي الداخلية والخارجية ولخلق وإيجاد وتنمية فرص الالتقاء، وهو لا يمكن أن يتحقق ما لم تتوفر له عدد من المقومات والشروط لإنجاحه، وهي شروط يأتي في مقدمتها أن يكون الحوار بين طرفين أو أطراف حتى لا يكون الحوار مجرد خطاب للذات والانطلاق من اعتراف كل طرف بالآخر والاستعداد النفسي للانفتاح عليه بتسامح، وأن يكون هذا الاعتراف مقروناً بنظرة متكافئة وإرادة مشتركة مع التقدير والرغبة لتبادل التأثير والتأثر، إضافة إلى ضرورة الانفتاح والخروج من السكون والانعزال، وكل ما يفضي إلى الأنانية وسوء النظر إلى الآخر، مع ما يرتبط بذلك من عُقدٍ وجهلٍ والابتعاد عن أي توجه يهدف إلى الغلبة والهيمنة والتسلط.. وبدون هذا لا يمكن أن يشكل الحوار الوطني الأداة الوحيدة للإصلاح الشامل بأبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولن يعوّل عليه في أن يكون الوسيلة الناجحة لإنهاء الاعتصامات والمظاهرات في الساحات اليمنية، ولا يمكن له أن يعالج كافة الاختلالات التي تعيشها البلاد.
الحوار من المنظور الإسلامي:
ترتكز ثقافة الحوار من المنظور الإسلامي على ما يلي:
- عدم انقطاع التواصل بين طرفي الحوار.
- الالتزام بآداب الاستماع (الاستقبال) الذي يتطلب توفر شروط منها: إقبال المستمع على المتحدث، عدم إظهار علامات الرفض والاستياء، عدم الانفعال أو إعطاء ردود فعل سريعة ومباشرة قبل إنهاء المتحدث كلامه.
- الالتزام بآداب الحديث (الإرسال) ويكون بالإقبال نحو المستمع مع عدم المبالغة في إظهار الانفعال وحركات الأيدي والتوسط في سرعة اليد وعدم ازدراء الآخرين، واحترام رأي الآخرين شرط من شروط نجاحه.
ومن ذلك حوار الأنبياء صلوات الله عليهم مع أقوامهم ومثاله ما أمر الله به موسى وهارون في مخاطبة فرعون قال الله تعالى:”اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)” سورة طه.
ومن المهم في هذا الصدد بدء الحوار وارتكازه على قاعدة: (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب).
ولقد اهتم الإسلام بالحوار؛ لأنه يرى بأن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها للحوار أو الجدال كما يقول القرآن الكريم في وصف الإنسان: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَر شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف:54.
كما أن صيغة الحوار لدى الإنسان من نظر الإسلام تمتد إلى ما بعد الموت، أي إلى يوم الحساب كما يخبرنا القرآن الكريم يقول الله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)النحل:111.
ومن خلال ذلك يتضح أن الحوار لدى الإنسان بنظر الإسلام صفة متلازمة معه تلازم العقل به، ولهذا فقد حدد الإسلام المنطلق الحقيقي الصادق الذي ينطلق منه المسلم بحواره مع الآخرين، فالإسلام يرى بأن المنطلق الحقيقي للحوار هو (ضرورة البحث عن الحق ولزوم اتباعه)، (فماذا بعد الحق إلا الضلال)؟.
لهذا لا غرابة أن يرسم الرسول الأكرم أروع الأخلاق في الحوار وأحسنها وأسماها وأنبلها؛ لأنها أولاً مطلب إلهي وصى بها الله في كثير من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل:125، وكذلك قوله تعالى:(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) القصص:55.
ولأنه صلى الله عليه وسلم بطبعه على خلق عظيم كما وصفه الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )القلم:4، فقد جاء بأفضل الأساليب للحوار.
وسنستعرض هنا مجموعة من أساليب الحوار باختصار مُركّز، هادفين من ذلك إلى تعريف المتحاورين في المؤتمر الوطني القادم الذي يجري الإعداد له الآن للالتزام بهذه المعرفة، وذلك حتى لا يقعوا ضمن دائرة الأساليب الحوارية السلبية التي لا يمكن أن توصلنا إلى شاطئ الأمان.
والأساليب التي سنستعرضها الآن منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي، ولو دخلنا في تفاصيل ذلك لاحتاج الأمر إلى مجلدات، لكننا سنرتب ونعدد أساليب الحوار من المنظور الإسلامي وذلك على النحو التالي:
البدء في الحوار بالأفكار المشتركة:
“قُلْ يا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ألا نَعْبُدَ إلا اللهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُوْنِ الله” آل عمران:64.
* إنهاء الحوار السلبي بالإيجابية والاتفاق:
“ قُلْ يا أيُّهَا الكَافِرُون لا أعْبُدُ ما تُعْبُدُون ولا أنْتُم عَابِدُونَ ما أعْبُد ولا أنَا عَابِدٌ ما عَبَدْتُم ولا أنْتُم عَابِدُونَ ما أعْبُد لَكُم دِيْنُكُم وليّ دِيْن” سورة الكافرون .
“ وإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لي عَمَلي ولَكُم عَمَلُكُم أنْتُم بَريْئُونَ مما أَعْمَلُ وأنَا بَرِيءٌ مما تَعْمَلُون” يونس: 41.
* ألوان الحوار السلبي:
ألوان الحوار السائدة في حياتنا والمؤثرات في سلوكنا وفى مسيرتنا الحضارية أفراداً وجماعات كثيرة، ولنبدأ بألوان الحوار السلبي:
1 - الحوار العدمي التعجيزي: وفيه لا يرى أحد طرفي الحوار أو كليهما إلا السلبيات والأخطاء والعقبات، وهكذا ينتهي الحوار إلى أنه لا فائدة ويترك هذا النوع من الحوار قدراً كبيراً من الإحباط لدى أحد الطرفين أو كليهما حيث يسد الطريق أمام كل محاولة للنهوض.
2 - حوار المناورة (الكر والفر): ينشغل الطرفان (أو أحدهما) بالتفوق اللفظي في المناقشة بصرف النظر عن الثمرة الحقيقية والنهائية لتلك المناقشة، وهو نوع من إثبات الذات بشكل سطحي.
3 - الحوار المزدوج: وهنا يعطى ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه لكثرة ما يحتويه من التورية والألفاظ المبهمة، وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر، ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.
4 - الحوار السلطوي (اسمع واستجب): نجد هذا النوع من الحوار سائداً على كثير من المستويات، فهناك الأب المتسلط والأم المتسلطة والمدرس المتسلط والرئيس المتسلط ..إلخ، وهو نوع شديد من العدوان حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر، ويعتبره أدنى من أن يحاور، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجر، وهذا النوع من الحوار فضلاً عن أنه إلغاء لكيان (وحرية) طرف لحساب الطرف آخر، فهو يلغي ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور، فيؤثر سلبياً على الطرفين وعلى الأمة بأكملها.
5 - الحوار السطحي (لا تقترب من الأعماق فتغرق): حين يصبح التحاور حول الأمور الجوهرية محظوراً أو محاطاً بالمخاطر يلجأ أحد الطرفين أو كليهما إلى تسطيح الحوار طلباً للسلامة أو كنوع من الهروب من الرؤية الأعمق بما تحمله من دواعي القلق النفسي أو الاجتماعي.
6 - حوار الطريق المسدود (لا داعي للحوار فلن نتفق): يعلن الطرفان (أو أحدهما) منذ البداية تمسكهما (أو تمسكه) بثوابت متضادة تغلق الطريق منذ البداية أمام الحوار، وهو نوع من التعصب الفكري وانحسار مجال الرؤية.
7 - الحوار الإلغائي أو التسفيهي (كل ما عداي خطأ): يصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئاً غير رأيه، وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويسفهها ويلغيها، وهذا النوع يجمع كل سيئات الحوار السلطوي وحوار الطريق المسدود.
8 - حوار البرج العاجي: ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشاتهم حول قضايا فلسفية أو شبه فلسفية مقطوعة الصلة بواقع الحياة اليومي وواقع مجتمعاتهم، وغالباً ما يكون ذلك الحوار نوعاً من الحذلقة وإبراز التميز على العامة دون محاولة إيجابية لإصلاح الواقع.
9 - الحوار المرافق (معك على طول الخط): وفيه يلغي أحد الأطراف حقه في التحاور لحساب الطرف الآخر، إما استخفافاً (خذه على قدر عقله) أو خوفاً أو تبعية حقيقية طلباً لإلقاء المسؤولية كاملة على الآخر.
10 - الحوار المعاكس (عكسك دائماً): حين يتجه أحد طرفي الحوار يميناً، ويحاول الطرف الآخر الاتجاه يساراً والعكس بالعكس، وهو رغبة في إثبات الذات بالتميز والاختلاف، ولو كان ذلك على حساب جوهر الحقيقة.
11 - حوار العدوان السلبي (صمت العناد والتجاهل): يلجأ أحد الأطراف إلى الصمت السلبي عناداً وتجاهلاً ورغبة في مكايدة الطرف الآخر بشكل سلبي، دون التعرض لخطر المواجهة.
كل هذه الألوان من الحوارات السلبية الهدامة تعوق الحركة الصحيحة الإيجابية التصاعدية للفرد والمجتمع والأمة، وللأسف فكثير منها سائد في مجتمعنا اليمني ومجتمعاتنا العربية الإسلامية لأسباب لا مجال هنا لطرحها.
ولنأخذ مثلاً من الحوار الإيجابي من التاريخ الإسلامي، وقد حدث هذا الحوار في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول في مكان معين بعيداً عن آبار الماء وكانت آبار المياه أمامهم، وهنا نهض الحباب بن المنذر رضي الله عنه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهو منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال الحباب: يا رسول الله ما هذا بمنزل، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي الصائب، وكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة.
وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحباب بن المنذر كان مسلماً إيجابياً، على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين، وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي من السماء، وهناك كبار الصحابة أصحاب الرأي والمشورة، ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولاً إن كان هذا الموقف وحياً من عند الله أم أنه اجتهاد بشرى، فلما عرف انه اجتهاد بشري وجد ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين، وهذا الموقف يعطينا انطباعاً هاماً عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبل النصيحة.
وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقي فوق ذلك حيث إنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جندياً من عامة الناس تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا المستوى من حرية الرأي لا نجده الآن في أكثر الدول مناداة بالحرية، فلا يجرؤ جندي أن يشير على لقائد الأعلى للقوات المسلحة في أية دولة عصرية بتغيير الخطة العسكرية حيث لايزال الحوار الفوقي السلطوي هو السائد في المجالات العسكرية على وجه الخصوص حتى في أكثر الدول تقدماً.
الحوار صفة لازمة ووسيلة ناجحة يلجأ إليها شعبنا للتصدي لكل المحن والأخطاء.
إذا كان هناك شعب يعتبر الحوار بمختلف أنواعه ومستوياته جزءاً لا يتجزأ من خصائصه، وقيمة من القيم المقدسة لديه يلجأ إليها عند كل ملمة ويحل بها أصعب مشاكله التي قد تعجز القوانين والتشريعات عن حلها، فإن الشعب اليمني هو أحد هذه الشعوب التي تتميز بهذه الصفة ويكفي أن نشير بسرعة وإيجاز إلى ما عرضه القرآن الكريم وهو يروي لنا كيف تصرفت ملكة اليمن بلقيس عندما أتتها رسالة نبي الله سليمان تطلب منها ومن شعبها الالتحاق بركب الدعوة الإيمانية التي كان يقودها نبي الله سليمان (أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، فجمعت أهل الحل و العقد من أقيال اليمن وزعماء عشائرها وعرضت عليهم الأمر ورسالة النبي سليمان وطلبت منهم الرأي والمشورة بعد أن بسطت الموضوع للنقاش والحوار وكان ردهم: (نحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ?) النمل:33.
وكان ردها منبهاً قومها إلى خطورة الدخول في صراع مع نبي الله سليمان، وهو من هو قوةً وعلماً، وحسمت ذلك بقولها: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (35)... إلى آخر ما ورد في سورة النمل عن هذه الحادثة وعن إرسالها للهدية وعدم قبول سليمان (صلى الله عليه وسلم) لتك الهدية؛ لأنه لم يكن له مطمع مادي، بل كان أغنى منها ومن قومها ثم كيف أظهر لها قوته بأن نقل عرشها في طرفة عين من سبأ إلى مقره في فلسطين، فلما تيقنت من ذلك قالت: (.. رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل، وهكذا أنقذت شعبها من دمار مخيف نظراً لقوة وإمكانية النبي سليمان من عتاد وعلمٍ وقوةٍ لم يكن لها نظير.
وفي تاريخنا اليمني وعندما بعث رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) رسله إلى الأمصار وتسامع بدعوته العرب فجاء وفد من اليمن والتقوا به واستمعوا إلى آيات ربه التي يتلوها واستجابوا للحق وأسلموا وآمنوا برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) وعادوا إلى قومهم يحملون مشاعل الهداية فحاوروهم ودخل اليمنيون في الإسلام زرافات ووحداناً، وحملوا مشاعله إلى الدنيا، كما تميّز التاريخ اليمني بهزات وفتن وهو يتعرض لكثير من المخاطر كالغزو والقتل والتدمير نتيجة الخلاف بالرأي والخروج عن منطق العقل الذي يفترض أن يسير مع الحق ويقف عنده ويلتزم به.
ومن البديهي أن الحوار بالمعاني التي وضحناها في القسم الأول كان ولايزال سمة من سمات اليمنيين، ولعلنا جميعاً نعرف كيف تحل القبائل اليمنية حتى يومنا هذا - خاصة عندما لا تصل قوة الدولة إلى مناطقها - فتحل هذه القبائل مشاكلها وقضاياها بالحوار بل وحتى تضع قواعد عُرفية تحكم خلافاتها، فمن منا لم يسمع عن قواعد السبعين التي لاتزال سارية المفعول في كثير من المناطق والقبائل في الشمال، وهي قواعد تحكم خلافاتها وقضاياهم الاجتماعية وخلافاتهم سواء بين الفرد والفرد أو بين جماعةٍ وجماعة، وهذه القواعد لم يتوصلوا إليها إلا في إطار حوار للأسلاف والأعراف القديمة، ومن منا لم يسمع عن أسلوب (البرزة)؟ وهو أسلوب متبع حالياً عندما تلتقي جماعتان أو أكثر لحل خلافاتها فتلجأ إلى أسلوب (البرزة) حيث يبرز من يمثل كل جمع سواء كان شخصاً أو أكثر أمام ممثل الطرف الآخر، فيتحاورون في هذه (البرزة) بعيداً عن الجمع في القضية مثار الجدل، ويتوصلون إلى حل أو الاتفاق على آلية أو حكم نهائي قاطع في القضية ليعلنوه بعد ذلك، هكذا وهكذا..، ونريد من ضرب هذه الأمثلة الوصول إلى نتيجة وهي أن اليمني بطبعه ميالٌ إلى الحوار كأسلوب من أساليب علاج مشاكله. . وفي تاريخ اليمن السياسي الحديث خيمت على البلاد فتن وحروب سواء بين القبائل بعضها البعض أو بينها وبين الدولة بتهمة التمرد أو العصيان في ظروف سياسية كما حصل بعد أيام ثورة 26 سبتمبر 1962م تلك الثورة التي أطاحت بالنظام الكهنوتي الإمامي، وأعلنت قيام الجمهورية كنظام سياسي بديل عن الملكية وما تلا قيامها من تشابك المصالح الإقليمية والدولية وصراع أدى ذلك إلى قيام حرب أهلية بين الجمهوريين والملكيين من عام 1962م حتى 66-1967م في تلك الفترة المُتسارعة الأحداث لجأ اليمنيون إلى أسلوب الحوار لإيقاف الحرب وتوحيد الصف وإشاعة الأمن والاستقرار في ربوع اليمن، وهكذا تمت المصالحة الوطنية بين اليمنيين جمهوريين وملكيين.
وقد برزت في تلك السنوات مؤتمرات: عمرانحرض – خمر – الجند، والتي وطدت أركان النظام الجمهوري، وأعادت لُحمة الشعب إلى ما كانت عليه من التراحم والإخاء والتعاون.
وفي نفس هذا السياق لجأ أبناء اليمن في المناطق الجنوبية أثناء التشطير إلى مقاومة ومقارعة الاستعمار البريطاني؛ بهدف طرده ورفع راية الاستقلال، فكان الحوار هو الأسلوب الذي استعانت به الحركة الوطنية في الجنوب لتنظيم صفوفها وإعلان برامجها السياسية، كما حدث عن تشكيل جبهة التحرير والجبهة القومية والحركات السياسية الأخرى، ونحن هنا لا نؤرخ في هذه العجالة للأحزاب السياسية والحركات الوطنية والثورية، وإنما فقط أردنا أن نشير إلى أن الحوار كان هو الأسلوب الرئيسي المعتمد لدى كل القوى السياسية في الشمال والجنوب لوضع برامجها وخططها للمقاومة والنضال لإسقاط الإمامة في الشمال وطرد المستعمر البريطاني في الجنوب.
ولعل أكبر ظاهرة حوار شعبي واسع في تاريخ اليمن السياسي الحديث هو الحوار في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي الذي شمل جميع الأطياف السياسية في الساحة اليمنية؛ بهدف الوصول إلى قواسم مشتركة تشكل أُساساً لميثاق وطني يحدد الثوابت والكليات العامة لبناء الدولة والمجتمع وينهي حلقات الصراع الدموية التي اجتاحت منشآت اليمن بشطريه في تلك الفترة.
وتشكلت لجنة للحوار الوطني التي تمكنت بعد سنتين تقريباً بعد لقاءات مستمرة وحوارات كثيرة من وضع صيغة مشروع الميثاق الوطني، وبعد إقرار هذه الصيغة من قِبل القيادة السياسية في الشطر الشمالي آنذاك طبع من مشروع الميثاق الوطني المقترح مئات الآلاف من النسخ، ومثلها دفاتر تحمل أسئلة استبيانية حول النقاط التي اختلف عليها أعضاء اللجنة، وكُلفت هذه اللجنة بعد أن تم رفدها المئات من الشباب والمثقفين والنخب بالتوجه إلى المحافظات والمديريات لتوزيع ذلك على المواطنين الرجال والنساء للإطلاع على الميثاق والإجابة على الأسئلة الاستبيانية بعد أن أُعطي لكل مواطن نسخة من الميثاق ودفتر الاستبيان وإعطائهم ثلاثة أيام لقراءته والرد على الأسئلة الاستبيانية، ومن ثم إعادة دفتر الاستبيان إلى اللجان التي قامت بدورها تجميع كل الدفاتر من جميع أنحاء الجمهورية وتُجمع في صنعاء وتشكيل لجان مساعدة لتفريغ الإجابات من دفاتر الاستبيان وتحديد ما اتفق رأي الأغلبية من المواطنين عليه في تلك المواضيع المختلف عليها، وأعادت صياغة المشروع على ضوء ذلك حتى أُنجز المشروع كاملاً، ودُعي إلى عقد المؤتمر الشعبي العام في 24 أغسطس 1982م بعد أن تم انتخاب 700 عضو من كل أنحاء البلاد و300 عضو اختارتهم القيادة السياسية في الشطر الشمالي آنذاك من كبار قيادات الدولة: العسكرية والفكرية والمثقفين والمشايخ والتجار وغيرهم ليكتمل بذلك التعيين عدد أعضاء المؤتمر إلى ألف عضو، وشكلوا بذلك المؤتمر الأول للمؤتمر الشعبي العام الذي عقد جلسته في 24 أغسطس 1982م، وكانت أمام المؤتمر الشعبي العام الأول مهمتان رئيسيتان هما:
- إقرار الصيغة النهائية للميثاق الوطني.
- الحوار الواسع لاختيار أسلوب العمل السياسي في الشطر الشمالي من الوطن.
وتم اختيار استمرار المؤتمر الشعبي العام كأسلوب للعمل السياسي في الشطر الشمالي من الوطن، وهكذا أصبح في الشمال تنظيم سياسي شمولي هو المؤتمر الشعبي العام قائداً للعمل السياسي مقابل الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يقود العمل السياسي في الجنوب الذي كان نتاج حوارات موسعة بين الفصائل الوطنية والثورية في الجنوب انخرطت جميعها في ذلك التنظيم (الحزب الاشتراكي اليمني) والذي نستخلص منه في هذا أن الحوار كان هو الوسيلة التي اعتمد عليها في بناء التنظيمات السياسية اليمنية.
نؤكد هنا مرة أخرى أننا لا نؤرخ لقيام المؤتمر الشعبي العام أو دليله الفكري الميثاق الوطني فهذا مجال آخر، ولكننا ونحن نتحدث عن الحوار كان لابد أن نضرب الأمثلة لأهم النتائج التي توصل إليها شعبنا لحل مشاكله وبناء الدولة اليمنية الحديثة، ووضع قواعد نظام حكمه عن طريق الحوار، وهكذا أعلن عن قيام المؤتمر الشعبي العام وتوسعت قواعد عضويته وهيئته التنظيمية.
ونفس الحال تقريباً كان الحوار هو أساس المؤتمرات الحزبية التي نشأت على الساحة اليمنية، وكانت تعمل تحت الأرض لتحرير الدستور اليمني قيامها كالحركة الإسلامية وأحزاب البعث القومي والعربي والناصريين بمختلف فصائلهم وأحزاب المنظومة اليسارية كالجبهة الديمقراطية وحزب العمل، وغير ذلك من الأحزاب الأخرى التي نشأت بعد قيام الوحدة إلى يومنا هذا.
وعندما ارتفعت أصوات جماهير الشعب اليمني في الشمال وفي الجنوب لنبذ الصراع المسلح بين الشطرين والتنظيمين الرئيسيين والاستعاضة عن كل ذلك بحوار مسؤول يهدف إلى إعادة توحيد اليمن الواحد كان الحوار هو الأساس الذي اعتمد عليه كل من القيادتين السياسيتين صنعاء وعدن بدءاً بتشكيل لجان الوحدة وانتهاء بتشكيل المجلس اليمني المشترك وبالحوار الجاد وتهيئة الأرض الصلبة التي ستقام عليها دعائم اليمن الواحد الذي أعلن عنها في الثلاثين من نوفمبر سنة 1989م ليرتفع علم الدولة اليمنية في قاعة فلسطين في عدن في 22 مايو 1990م التي لم نصل إليه إلا عبر مئات اللقاءات والحوارات بين الشطرين وقيادتيه السياسيتين وبفضل الحوار الواعي والاستغلال الذكي للتطورات الدولية الضخمة في علاقات الشرق والغرب والتطور الكبير الذي قاده قادة الاتحاد السوفيتي آنذاك بقيادة غورباتشوف الذي اعتمد خلاله قوانين البرستوريكا والغلاسنوست، وسقوط جدار برلين.. كل ذلك كان من العوامل التي سرعت نجاح العمل الوحدوي وإعلان دولة اليمن الموحدة، ونستطيع القول بأنه من خلال استقرائنا التاريخ اليمني المعاصر والتطورات السياسية العالمية والبلدان الشقيقة والصديقة نجد أنه كلما اتجه القادة السياسيون للحوار بنية صادقة مع معارضيهم وزملائهم وعند الخلاف حول القضايا الاستراتيجية وتحلي الجميع بآداب الحوار وشروطه كلما تمكنوا من حل مشاكلهم المستعصية، وكلما ابتعد هؤلاء عن استخدام الحوار والانفراد بالرأي والتعصب الأعمى والاستهانة بالآخر وجعل الحوار وسيلة لمزيد من السيطرة، كما أدى ذلك إلى تفجر الأوضاع وانهيار القيم والمبادئ، ولعل هذا ما يفسر سبب عجز نظام دولة الوحدة في سنواتها الأولى في معالجة المشاكل التي أدت إلى صراع مسلح وفتنة عمياء في عام 1994م، بالرغم من الحوارات التي تمت قبل انفجار الوضع وتمخضت عنها وثيقة العهد والاتفاق في عمان.
إلا أن الحبر الذي وقعت عليه ما كاد يجف حتى انفجرت المعارك بين طرفي الحكم صناع الوحدة، وجر هذا الفشل نفسه على السنوات التي تلت ذلك التاريخ، فما يكاد يخرج شعبنا من دوامة خلاف حتى يدخل في خلاف آخر، لقد صمّ الجميع آذانهم عن التعرف على المطالب الشعبية المختلفة والحوار حولها وسبل معالجتها وتمت عملية إقصاء أغلب أطياف المجتمع من علماء ومشايخ وشخصيات اجتماعية وسياسية ووطنية ومستقلة كان يفترض أن تطرح عليهم، مثل تلك المشاكل والقضايا في شفافية وبإطار حوار وطني حقيقي بهدف المصلحة الوطنية العامة على المصلحة الخاصة، وذلك من أجل يمن هادئ ومستقر وآمن يكفل الحقوق والحريات والمساواة والفرص بين جميع أبنائه، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أزمات سياسية منذ عام 2006م وحتى قيام الثورة اليمنية السلمية التي فجرها الشباب بمشاركة الشعب بكل قواه ومقوماته.
ومثلت محصلة طبيعية للنضال الوطني المناهض لسياسيات الاستبداد والفساد ولإقصاء والتخلف والتي استخدم فيها النظام الفقر والجوع كأداة لإدارة الاقتصاد والمتاجرة بالإرهاب وإشعال الحرائق ونشر ثقافة الكراهية في مختلف المناطق شمالاً وجنوباً، وهي الثورة التي أعلن فيها الشعب بأنه لا خيار غير اجتثاث الفساد وبناء دولة مدنية عصرية، وهو ما يجعلنا اليوم نقف بكل شموخ واعتزاز لهذا المنجز الشعبي العظيم الذي بدأ اليوم يقطف أول ثمار أهدافه العظيمة، كما أننا اليوم في أمس الحاجة إلى أن نعي تماماً أن الحوار هو خيارنا الوحيد الآن وغداً وبعد غد للخروج من هذه المحنة التي تعصف بالوطن وما دُمنا مؤمنين بذلك فعلينا أن نوفر كل أسباب الحماية والبقاء للحوار الوطني المرتقب، وهذا ما سنناقشه في القسم الثالث من هذه الورقة.
الحوار الذي نريده
من خلال الاطلاع على الأدبيات والرؤى السياسية التي طُرحت بمختلف وسائل الإعلام وعبر الندوات المفتوحة والمغلقة لكل القوى السياسية الحزبية منها والمستقلة يتضح جلياً أن أغلب هذه الرؤى تتفق فيما بينها على أن الحوار الوطني المرتقب هو الأداة الوحيدة للإصلاح الشامل غير أنها تختلف في نقطتين أساسيتين:
الأولى: هناك من يرى أنه يجب قبل بدء الحوار تنفيذ الالتزامات التي نصت عليها المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة والتي بدون تنفيذها قبل الحوار سيفشل الحوار ولم يبد حقيقةً.
وفي مقدمة تلك الالتزامات: البدء أولاً بإعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن، والتي تتمثل بالبدء فوراً بتوحيد الجيش والأجهزة الأمنية كمقدمة لهيكلتها مما يحقق المناخات المناسبة والآمنة للحوار وتحقيق الاستقرار.
وإن هذا يقتضى قيام رئيس الدولة التوافقي صاحب الشرعية الدستورية الشعبية والإقليمية والدولية المشير عبدربه منصور هادي وحكومة الوفاق برئاسة الأخ محمد سالم باسندوة بإقالة كافة قيادات الجيش والأمن التي شكلت ومازالت تشكل أسباب التوتر والعنف واستبدالها بعناصر مشهود لها بالنزاهة والكفاءة، ولم تكن طرفاً في ممارسة القمع أو العنف ضد شباب الساحات، والبدء بإخراج المعسكرات من المدن الرئيسية وعواصم المحافظات لإعادة انتشارها وتموضعها، وسرعة حصر ممتلكات القوات المسلحة والأمن وقوامها الفعلي وإطلاق سراح كافة المعتقلين والمختطفين من ثوار الساحات ومعتقلي الرأي وحركات الاحتجاجات السلمية.
وإعادة المسرَّحين والمقصيين من وظائفهم وأعمالهم من مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وتعويضهم التعويض العادل وتصفية كل المناطق التي أصبحت ملاذاً آمناً لقوى الإرهاب المرتبطة بتنظيم القاعدة في محافظة أبين والبيضاء ومأرب وإعادة سلطة الدولة إلى تلك المناطق.
بينما يرى آخرون أن يتم التزامن مع بدء الحوار الوطني وذلك بإحداث التحولات المناسبة لضمان استقرار الحوار وتحقيق العدالة والمصلحة الوطنية بحيث يسير الهدفان بوقت واحد حوار يبدأ بإجراءات سريعة تقدم عليها الدولة في مجال الإصلاح واجتثاث الفساد وإعادة الحقوق لأصحابها وهذا هو الرأي المعقول، الأمر الثاني يرتبط بالقضايا الإجرائية والتنظيمية والضوابط وتحديد المهام والمواضيع والقضايا التي ستناقش وترتيبها.
وهناك رؤية للمبعوث الأُممي جمال بن عمر الذي تقدم بمشروع لمؤتمر الحوار الوطني كجزء من مهام المرحلة الانتقالية حيث قدم تصوراً لمجمل القضايا التي يفترض من مؤتمر الحوار تناولها
إضافة إلى آلية تشكيل المؤتمر والجهات التي ستشارك فيه ومنهجية اختيار الممثلين إليه وآلية التعامل مع مخرجاته بالنسبة للقضايا التي سيناقشها مؤتمر الحوار قد حدد مشروع بن عمر أربع قضايا وهي:
(1) متعلقة بالعملية التحضيرية لصياغة الدستور.
(2) موضوعية: فيما يتعلق بالنقاط التأسيسية للدستور الجديد.
(3) مراجعة مؤسسات الدولة القائمة والممارسات الخاصة بها.
(4) فيما يتعلق الأمر بالأولويات المستقبلية لسياسة الدولة، ويسمي بن عمر في مشروعه الأطراف التي ستشارك في الحوار على ضوء اتفاق نوفمبر الذي سيتم تنفيذه في مؤتمر الحوار وهو:
• حزب المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه (التحالف الوطني).
• أحزاب اللقاء المشترك وشركاؤها (المجلس الوطني).
• أحزاب أخرى - حركات الشباب - الحراك الجنوبي - الحوثيون - منظمات المجتمع المدني - مجموعات المرأة.
ويضيف بن عمر بالرغم أن اتفاق نوفمبر لا يوجد نص لتمثيل المناطق، فإنه سيكون أيضاً من الضروري ضمان تمثيل جميع أنحاء البلاد في مختلف المجموعات القاعدية التي ستمثل في المؤتمر،
ويقترح في مشروعه أن يمثل كل جهة من الجهات التي ذكرها ب30 مقعداً، وبحيث يكون العدد النهائي لقوام المؤتمر 240 مشاركاً.
ويطرح المشروع خيارين بمنهجيتين لطريقة تشكيل مؤتمر الحوار الوطني والتحضير له:
الأولى: “من القاعدة إلى القمة”، بمعنى أن تعقد جلسات استشارية على مستوى المحافظات، تهدف إلى تعزيز وجهات النظر حتى نصل إلى المؤتمر العام، ولكنه يستدرك ويقول: إن هذا المنهج سيعني”أعداداً كبيرة جداً من الممثلين، تتراوح بين 1000 و3000 مشارك”، وهذا التوسع في العدد يتيح “أوسع معاني المشاركة العامة”، وقد يستغرق عاماً كاملاً لتحقيقه، كما أن اتساع عدد المشاركين يجعل من الصعب التوصل إلى إجماع.
بينما المنهج الثاني هو “مؤتمر النخبة”، هذا يعني “حصر المؤتمر على المستوى المركزي”، حيث أنه سيضم ممثلين من جميع المناطق. سيتم اختيارهم من الكتل السياسية لمنظمات المجتمع المدني الموجودة.
غير أن لمثل هذا المنهج له عيوبه من أهمها خطر تكرار آليات تمثيل وجهات النظر والمصالح الموجودة بالفعل.
وسيكون من المحتمل أن تظهر نفس الشخصيات التي في الحكومة، والبرلمان، والأحزاب، وسوف يكرر هؤلاء الآراء التي تقدم أيضاً في المؤسسات العادية، وربما يشعر الجمهور الأوسع بالاستبعاد، ويقترح المشروع تفضيل منهج ثالث هو النموذج “المختلط” من هذين المنهجين.
والبالغ أن مشروع بن عمر عُرض في الأيام الأخيرة في آخر زيارة له على ممثلي الدول العشر وبعض القيادات السياسية اليمنية ومن المحتمل قد أدخل عليه تعديلات.
وعلى كل حال فإن لجنة الاتصال المشكلة أخيراً برئاسة الدكتور عبدالكريم الإرياني (والتي ينبغي أن تتوسع) سوف تعمم قضية شكل المؤتمر وعدد الممثلين فيه والجهات التي يمثلونها وضوابط النقاش والحوار والمرجعيات الدستورية والثوابت الوطنية التي يحتكموا عليها إذا لم يحصل التوافق.
وأنا أتمنى من هذا المركز وغيره من مراكز البحوث المهتمة بقضية الحوار الوطني أن تخصص ندوات لهذا الموضوع.
والآن أعود إلى عنوان هذا القسم فنتساءل ما الذي نريده لهذا الحوار؟
الجواب ببساطة نريده أن ينجح وأن يقرب وجهات النظر لنصل إلى تقديم نموذج نفتخر به، ولن يتم ذلك إلا إذا حددنا مقومات نجاحه بدءاً من شروطه ومعطياته التاريخية وانتهاءً بإظهار مدى الحاجة إليه وكيف ينبغي أن يكون وقد أشبعت هذه النقطة في القسم الأول (المقدمة).
وأوضحت أن وضع هذا الحوار في إطاره الحق يقتضي الخروج به من نطاق المفهوم التقليدي الذي يعني به مد اليد بالعون والمساعدة مع ما يرتبط بهذا المفهوم من شعور بالاستعلاء وتضخيم الذات واعتباره النموذج والمثال، وما ينتج عن ذلك من نظره تصغيرية وتحقيرية بكافة الطرق و المعاني، بمعنى أن ما جاء في المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة ليست نصوصاً مقدسة، وإنما هي حلول تمثل الحد الأدنى من طموحات الأطراف المختلفة ووقعت عليها في وضع متشنج ومكفهر، فإذا ما كانت أوضاعنا اليوم ونفسياتنا وعلاقاتنا مع بعضنا البعض قادرة على أن تصل إلى ما هو أعظم وأسمى مما رسم لنا فهذا أمر جيد.
إننا نوصي أن الحوار كما أكدنا في الصفحات السابقة يعتبر بالنسبة لنا في اليمن وبالنسبة لأوضاعنا الحالية ضرورة ووسيلة وربما غاية يقتضي نسيان الممارسات الخاطئة والمواقف العدائية التي حدثت بين أطراف المجتمع والتقدم بخطوات كبيرة وطريق التقارب متجاوزين هفوات التباعد، ومبدين كامل الاستعداد لطي سجلات التجافي والمعاداة
وفتح صفحات جديدة في الإخاء والتسامح، وذلك هو نقطة البدء بالحوار، وأن على كل طرف من أطراف الحوار أن يؤمن بأن الحوار في أحسن أحواله ينبغي أن يوصل إلى تبادل الأخذ والعطاء وإلى التعلم من الآخر بعد قبول الاختلاف معه.
منهجية الحوار:
يمكن إجمال منهجية الحوار فيما يلي :
1 - إن المنطلق لإجراء أي حوار مع الغير هو الاعتراف بهذا الغير واحترامه، مما يقتضي قبوله كما هو أي قبول الاختلاف معه.
2 - إن أداة الحوار الأساسية هي المعرفة الصحيحة التي يكون صاحبها مقتنعاً بها وراغباً في توصيلها لإقناع الآخرين بها.
3 - إن الأسلوب الناجح للحوار يكون في اللين وما يرتبط به من سلوك حميد يتجلى في التأدب والصبر والحلم والتروي والنصح والهدوء والرفق والقول الحسن السديد من غير الغلو؛ إذ لا عناد ولا عنف ولا تعصب ولا تشدد ولا تصنُع ولا تطاول ولا كِبر.
كما يجدر الإشارة إلى أننا نريد حوار الشجعان لا حوار الطرشان، ومن المهم الحرص على مشاركة فعًالة لجميع القوى بلا استثناء وتوفير معايير حقوقية وقانونية وإنسانية لإحداث تغيرات مؤسسية حقيقية من شأنها إحداث انتقال ديمقراطي يحقق السلام والأمن والتنمية..
عضو مجلس الشورى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.