صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطعن في الأحكام القضائية الباتة لدى رئيس الجمهورية
نشر في الجمهورية يوم 23 - 05 - 2012

يوجد في القانون اليمني نص غير دستوري لامثيل له في أي قانون مقارن هو المادة(293) من قانون المرافعات ونصها كالتالي:
(أ‌- لرئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى أن يطلب من رئيس المحكمة العليا إعادة النظر في أي حكم بات يرى أنه يشتمل على خطأ يضر بالعدل مع تبيين وجه الخطأ).
وبالتأمل لمفهوم ومدلول ومقتضى النص غير الدستوري (المادة(293) مرافعات)يتضح أنه يضيف إلى (رئيس الجمهورية) اختصاصاً وصلاحيات قضائية تتعارض مع طبيعة مركزه ومهامه الدستورية ك(رئيس للسلطة التنفيذية) مما يؤكد عدم دستورية النص المذكور وتعارضه مع المواد (105 - 128) من الدستور اليمني والتي تحدد على سبيل الحصر وظائف ومهام رئيس السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية).
ونورد فيما يلي أهم الأسس والمسوغات والأسباب الشرعية والدستورية التي تؤكد عدم دستورية هذا النص:
أولاً: الأسس الشرعية:
الأساس الأول: الواجب الشرعي في التسوية بين الخصوم:
المساواة بين الناس مبدأ عام وأساسي في النظام الإسلامي لقوله تعالى: (يا أليها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ولقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
وفي مضمار الواجب الشرعي في التسوية بين الخصوم نبين الآتي:
أولاً: في مجال القانون عموماً والجنائي – على وجه الخصوص – قرر الرسول(صلى الله عليه وسلم) قاعدة المساواة في ساحة القضاء بنص واضح جلي لايحتمل تأويلاً ولا خلافاً فقد سرقت امرأة من (بني مخزوم) عقب فتح مكة، فاهتمت قريش لأمرها وخافوا أن يطبق عليها الرسول(صلى الله عليه وسلم) عقوبة القطع، فطلبوا من (أسامة بن زيد) أن يشفع لها عند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فغضب لذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام وخطب في الناس قائلاً: (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وهكذا يتبين بجلاء من الواقعة السابقة أن الشريعة الإسلامية قد قررت مبدأ المساواة أمام القانون وفي ساحة القضاء، كما أن هذا المبدأ يستفاد أيضاً من النصوص العامة في الشريعة الإسلامية المقررة للمساواة بين الناس، ومن باب أولى، الخصوم في ساحة القضاء وأمام القانون.
ثانياً: تمثل المساواة في الفقه الشرعي الدستوري حجر الزاوية لكل حقوق الإنسان وأساس العمل والإنصاف ، ولاريب أن حاجة المتقاضين إلى المساواة في ساحة القضاء أشد من حاجة غيرهم إليها في المجالات الأخرى، والتاريخ الإسلامي مليء بالشواهد وفي مقدمتها كتاب(عمر بن الخطاب) إلى أحد قضاته أن المساواة بين الناس في مجلس القضاء وفي وجه القاضي وقضائه واجبة عليه حتى لايطمع شريف في حيفه ولا ييأس ضعيف من عدله، يقول الإمام(ابن القيم) تعليقاً على كتاب(عمر): (إذا عدل الحاكم(القاضي) في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة، فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه، وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان: إحداهما طعمه في أن تكون الحكومة(أي الحكم أو الفصل في القضية) له فيقوي قلبه وجنانه، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر حجته) وفي هذا أبلغ الضرر بحق الإنسان في العدل وفي المحاكمة العادلة ولما كان العدل فريضة إسلامية ولا يتحقق بغير المساواة، كانت المساواة أساساً للقضاء في الإسلام لا احترام للقضاء بدونها، فإن القاضي إذا كان له ضلع مع أحد الخصوم أو خاضعاً له على أي نحو كان فشت القالة فيه، وإن نجا من مغبتها اليوم فإنه ليس بناج غداً، كما هو المتواتر لدى فقهاء الشريعة الإسلامية الاوائل.
ثالثاً: كتب الإمام الشهيد(علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه في الجنة إلى محمد بن أبي بكر) حين قلده(مصر) يوصيه: (فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وأبسط لهم وجهك وآمن بينهم في اللحظة والنظرة حتى لايطمع العظماء في حيفك لهم ولاييأس الضعفاء من عدلك عليهم.
رابعاً: أنزلت الشريعة الإسلامية القضاء منزلاً رفيعاً، فهو عمل الأنبياء وصناعة الحكماء، ويقول الله تعالى مخاطباً نبيه داود(يا داوود إناجعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) وقال جل قدرته: (وكلاً آتينا حكماً وعلماً) كما قال جل شأنه: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم) وقال جل جلاله: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ولاعدل إذا لم تكن هناك مساواة بين الخصوم أمام القانون وفي ساحة القضاء.
وبناءً على ماأوردنا من براهين حول اللزوم الشرعي للمساواة بين المتقاضين أمام القانون وفي ساحة القضاء فإن النص غير الدستوري يعتبر مخالفاً لأحكام الشرعية الإسلامية كونه يلغي مبدأ المساواة بين الخصوم أمام القانون وفي ساحة القضاء، حيث يتمتع(رئيس الجمهورية) وتابعوه في السلطة التنفيذية بحقوق وامتيازات لايملكها خصمهم في ساحة القضاء، كما أن النص غير الدستوري يحط من شأن السلطة القضائية يجعلها خاضعة للسلطة التنفيذية ممثلة في رئيسها، كما أن النص غير الدستوري يجعل الأحكام القضائية الباتة عرضة للطعن وعدم الاحترام، بزعم أنها تحوي أخطاء تضر بالعدالة لايستطيع تبينها إلا (رئيس الجمهورية) ومن إليه، وهو وحده، حسب النص غير الدستوري، الذي يأمر بالحق والعدل والإنصاف ورفع الأخطاء الضارة بالعدالة عن الأحكام القضائية الباتة، وبذلك يكون النص غير الدستوري مخالفاً للمادة(3) من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات والمادة(2) التي جعلت الدين الإسلامي هو دين الدولة الرسمي كذلك المادة (149) من الدستور التي تجعل من القضاء هيئة مستقلة محترمة إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل هي أعلى منهما شأناً وأقوى سلطة طبقاً للدستور.
خامساً: إن أهم حقوق الإنسان أمام القاضي حسب الشريعة الإسلامية، تتمثل في العدالة ومساواة الخصم مع خصمه، كي تكون المحاكمة عادلة، وهو ماعبر عنه النصان الرابع والخامس من البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان، والمعلوم أنه لا عدالة بدون مساواة، لأن هذه هي البوابة إلى تلك.
والثابت أن مقتضى ومؤدى وجود النص غير الدستوري في القانون الإجرائي(المرافعات) المكمل لقانون الإجراءات الجزائية هو عدم المساواة بين الخصمين أمام القانون وفي ساحة القضاء فيطمع القوي(أن تكون الحكومة (أي الحكم أو الفصل في القضية) له فيقوي قلبه وجنانه، والثانية أن الآخر ييأس من عدله (القاضي) ويضعف قلبه وتنكسر حجته) وفي هذا أبلغ الضرر بحق الإنسان في العدل وفي المحاكمة العادلة.
سادساً: إن التاريخ الإسلامي مليء بما يؤكد تطبيق مبدأي العدالة والمساواة بين الخصوم في مجال التقاضي، فقد روي أن رجلاً اشتكى(علياً) يوماً إلى (عمر بن الخطاب) أثناء توليه خلافة المسلمين، فنادى (عمر) الإمام(علي) بعبارة: (ياأباالحسن)، ونادى الخصم باسمه، فعضب(علي)، فقال له (عمر): لماذا غضبت، هل لأنني ساويتك مع الخصم؟
فقال له: لا ولكن لأنك كنيتني ولم تكنه، أي لعدم مساواة الإمام(علي) مع خصمه.
ولما كان العدل فريضة إسلامية ولايتحقق بغير المساواة بين الخصوم، كانت المساواة أساساً للقضاء العادل فلا تقوم عدالة بدونها.
ويتضح مما أسلفنا أن النص غير الدستوري، الذي يعطي(رئيس الجمهورية) وتابعيه في السلطة التنفيذية صلاحيات تجعل منه خصماً وحكماً في المنازعات القضائية التي هو طرف فيها مدعي أو مدعى عليه، فينهدم بذلك مبدأ المساواة والعدالة الشرعيين أمام القانون وفي ساحة القضاء، مما يعتبر تعارضاً مع المادة(3) من الدستور والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات.
الأساس الثاني: مخالفة النص غير الدستوري لقواعد وأصول الشريعة الكلية:
أولاً: أن الشريعة الإسلامية، كمصدر لجميع التشريعات في اليمن، وفقاً للمادة(2) من الدستور، قد وضعت القواعد الأساسية للحكم ومن أهمها أن(رئيس الجمهورية) ليس له السلطة المطلقة في تعرضه لشئون المواطنين وحقوقهم الدستورية وخاصة ماهو ثابت منها بأحكام قضائية باتة، وإنما هو مقيد بقيود أهمها: احترام قواعد الدستور والنظام العام فيما أوجبه الشرع بمقتضى القواعد الكلية والأصول الشاملة والنصوص التشريعية، ويأتي مصداقاً لذلك قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعماً يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً) (سورة النساء آية 58) وقوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)(سورة الأنفال آية27).
وأساس كل ذلك هو أن سلطة الحكم في الإسلام اختصاص ومسئولية وليست امتيازاً لجهة ما على غيرها أو لأحد الأشخاص على الآخرين، وهو مايؤدي إليه تطبيق النص غير الدستوري، بما يفرضه من حقوق وامتيازات غير دستورية لرئيس الجمهورية في مواجهة خصومه بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية.
ثانياً: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: من القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية الغراء القاعدة الشهيرة التالية: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وقد أكد المشرع اليمني هذه القاعدة الشرعية الأصولية في المادتين(4،3) من القانون المدني، وبذلك يكون النص غير الدستوري مخالفاً صراحة لنص المادة(3) من الدستور والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات.
والثابت بيقين من خلال طبيعة النص غير الدستوري وتطبيقاته أنه لا مصلحة مشروعة ترجى من ورائه، بينما المفاسد الناجمة عنه أو التي ترتبت وما تزال تترتب عليه لاحصر لها، ومن ذلك تمكين الفاسدين في جهاز الدولة وغيره وبعض مراكز القوى من تحقيق مأرب خاصة غير مشروعة وتصفية حسابات شخصية باسم القانون واستناداً إلى النص غير الدستوري.
ومن أخطر المفاسد المترتبة على وجود النص غير الدستوري في القانون إهدار حجية الأحكام القضائية الباتة لتحقيق مصلحة ما، سواء لجهة عامة أو خاصة ولاريب أن المفسدة هنا تفوق المصلحة المتوخاة من ورائها وخاصة في مجال الأموال والحقوق.
وحيث أن القاعدة الشرعية هي أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فإن ذلك يؤكد إعمالاً للقاعدة الشرعية المذكورة وإعلاء لكلمة الشريعة الإسلامية الغراء، الحكم عدم دستورية نص المادة(293) من قانون المرافعات.
ثانياً: الأسباب الدستورية
السبب الأول: انتهاك مبدأ الفصل بين السلطات:
1 - الثابت، بمالايدع مجالاً للشك، أن النص غير الدستوري محل هذا المبحث (المادة(293) من قانون المرافعات) قد خول (رئيس السلطة التنفيذية – القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية) صلاحية خطيرة لامثيل لها في العالم المعاصر أجمع حتى في الدول الأشد تخلفاً واستبداداً، ونقصد بذلك إعطاء(رئيس الجمهورية) الحق في أن يطلب ناهيك عن أن يأمر (يوجه) أعلى هيئة في سلم السلطة القضائية وهي المحكمة العليا بإلغاء الأحكام القضائية الباتة بما في ذلك الحكم في التماس إعادة النظر الصادرة عنها أو تعديلها لصالح المحكوم ضده، بينما يفترض في هذه المحكمة، طبقاً للمادة(128) وغيرها من المواد ذات العلاقة في الدستور والقوانين النافذة، أن المحكمة العليا هي التي تضع في ميزان العدل طبيعة تصرف(رئيس الجمهورية) من حيث كونها عادلة أو ظالمة وصحيحة أو خاطئة، كما أن السلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة العليا وفيها الدائرة الدستورية هي التي تملك الحق في إلغاء أية صلاحيات غير دستورية ممنوحة ل(رئيس الجمهورية) كما أن المحكمة العليا بمختلف دوائرها هي التي تأمر(رئيس الجمهورية) بما يجب عليه فعله، بل وتحاكمه ثم تحكم عليه بالعقوبات اللازمة، حيث المفترض أنها أي السلطة القضائية مستقلة استقلالاً تاماً عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وعلى رأسها(مكتب رئاسة الجمهورية) الأمر الذي يؤكد أن النص غير الدستوري يعتبر إخلالاً جسيماً وخطيراً بالأساس الدستوري الذي يقوم عليه النظام العام للدولة والمتمثل في مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث(التشريعية – القضائية – التنفيذية) والمبين في الباب الثالث من دستور الجمهورية اليمنية الذي يحظر في المادة(149) منه تدخل أية سلطة في الدولة بما فيها السلطة التنفيذية في اختصاص السلطة القضائية وانتهاك صلاحياتها جزئياً أو كلياً بأي صورة كانت، سواء سابقة أو لاحقة أو معاصرة، حيث يعتبر الدستور ذلك جريمة لاتسقط بالتقادم، والمعلوم أن التدخل طبقاً للمادة(293) غير الدستورية هو تدخل لاحق يحول دون اقتضاء الحقوق المقررة بأحكام قضائية باتة فيسري عليه المادة(149) من الدستور.
2 - إن استمرار هذا النص غير الدستوري وقبله نص شبيه به في قانون المرافعات منذ عشرات السنين وحتى الآن، يشكل انتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات، إذ يعطي (رئيس الجمهورية) وهو رأس السلطة التنفيذية، حق التدخل في شئون السلطة القضائية وانتهاك حرمتها وإهداء حجية أحكامها القضائية الباتة، عبر التوجيه بواسطة (الأوامر) الرئاسية بإعادة النظر في الأحكام الباتة الصادرة عن قمة هرم السلطة القضائية وهي المحكمة العليا بما فيها الدائرة الدستورية، وأياً كان نوع القضية الصادرة فيها الأحكام (دستورية، مدنية أو جنائية أو شخصية أو إدارية).. إلخ.
3 - يقف النص غير الدستوري متعارضاً مع قواعد النظام السياسي ذاته، القائم في اليمن، طبقاً للدستور اليمني، على أساس الفصل بين السلطات الثلاث، والقاضي بأن تتولى كل سلطة المهام المسندة إليها بدون تدخل أي سلطة في شئون الأخرى.
4 - قد يقول قائل أن ثمة صلاحيات استثنائية مقررة ل(رئيس الجمهورية) فيما يخص السلطة القضائية منها على سبيل المثال تعيين القضاة، وبالتالي فإن التوجيه بإعادة النظر في الأحكام القضائية الباتة يندرج ضمن هذه الصلاحيات الاستثنائية.
ونرد على صاحب هذا الرأي بأن الاختصاص هنا يتعلق بعمل إداري بحت ولايرتبط من قريب أو بعيد بالعمل القضائي ذاته، ثم هو وارد على سبيل الاستثناء والاستثناء لايقاس عليه.
5 - أن النص غير الدستوري يفتح الباب على مصراعيه للمحسوبية والمفاسد الوظيفية ذلك أنه لا يستطيع الوصول إلى (رئيس الجمهورية) إلا شخصاً متمكناً ولديه وسطاء وصاحب نفوذ أو جاه أو مال، وهذه مفسدة كبيرة ينبغي درؤها تأسيساً على القاعدة الشرعية: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وبذلك فإن هذا النص يخل إخلالاً جسيماً بمبدأي المساواة والعدالة المنصوص عليهما في المواد(25،24،41) من الدستور، إذ لايستطيع المواطن الضعيف المحكوم له الوصول إلى (رئيس الجمهورية) مما يجعل خصومه المحكوم ضدهم يتميزون عنه بالقدرة على النفاذ إلى (رئيس الجمهورية) مباشرة أو بواسطة موظيفه في (مكتب رئاسة الجمهورية) وغيره، ومن ثم الحصول على أم رئاسي ضد الطرف الضعيف المحكوم له وضد الحكم القضائي البات الذي تضمن تقرير حقوقه كاملة أو بعضها.
6 - يجعل النص غير الدستوري الجهات الحكومية ومافي حكمها المحكوم ضدها التابعة ل(رئيس الجمهورية) في مركز أعلى وأقوى من المواطن العادي، إذ يمكن تلك الجهات الوصول إلى (رئيس الجمهورية) وأعوانه والتغرير والتدليس عليهم بما يؤدي إلى صدور أمر إلى المحكمة العليا بإعادة النظر في أحكام باتة، وهذا مخالف للمادة(24) من الدستور التي تنص على إلتزام الدولة بأن تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، كذا المادة(25) من الدستور التي تنص على أن المجتمع يقوم على أساس المساواة والعدل، وكثيراً ما يكون الأمر الصادر عن رئيس الجمهورية بناءً على النص غير الدستوري مبنياً على غش وتدليس وأكاذيب تنافي ماورد من حقائق في الأحكام القضائية الباتة المراد إلغاؤها ومنها الحكم في التماس إعادة النظر.
7 - إن النص غير الدستوري يفتح باباً واسعاً للفاسدين وللإنتقام لأسباب غير مشروعة، من المحكوم لهم بالأحكام الباتة المراد إهدارها بنقضها أو السعي إلى ذلك، وهنا شواهد عملية عديدة.
8 - يتنافى النص غير الدستوري مع المادة(153/ه) من الدستور، والتي تجعل تاج السلطة القضائية(المحكمة العليا) الموقرة هي المخولة بمحاكمة(رئيس الجمهورية) فكيف يستقيم عدلاً ومنطقاً ودستوراً مع وجود النص غير الدستوري، أن يكون (رئيس الجمهورية هو المشرف على المحكمة العليا من حيث كونه يملك الحق في تقرير ما إذا كانت أحكامها عادلة أم ظالمة؟! وهذه الصلاحية مقررة له بناءً على المادة غير الدستورية والتي تؤكد أنه هو الذي يحتكر الحق في تقرير ماهو عادل أو ظالم وليس القضاء بمختلف درحاته؟!
9 - يتضمن النص غير الدستوري طعناً صريحاً في عدالة القضاء اليمني وفتح باب التطاول عليه، لأنه أي النص غير الدستوري يؤكد صراحة مايلي:
أ – أن القضاء في اليمن ضعيف وفاسد وغير عادل ولذلك يجب أن يلتمس الإنسان العدل والإنصاف والحق لدى (رئيس الجمهورية) ومن إليه من موظفيه في السلطة التنفيذية ومن إليهم وليس غيرهم.
ب – أن الأحكام القضائية ليست عنوان الحقيقة ولاجوهر العدالة لأن منها ماهو غير صحيح ويضر بالعدل، حسب التعبير الوارد بالمادة غير الدستورية، وأنه للوصول إلى الحقيقة وللحصول على العدالة يلزم اللجوء إلى (رئيس الجمهورية – رئيس السلطة التنفيذية) لتصحيح مسار الأحكام وإلغاء مزعوم الظالم منها وإحقاق الحق وإقامة العدل الذي أهدرته السلطة القضائية في أحكامها الباتة المطلوب إعادة النظر فيها حسب مقتضى ومؤدى النص غير الدستوري؟! مع العلم أن الدين الإسلامي الحنيف والشريعة الغراء قد جعلا القضاء والقضاة في منزلة أعلى من كافة القائمين على الحكم بين الناس.
ج – إن مبنى ومؤدى النص غير الدستوري هو زراعة الشك في سلوك القضاة المهني ووصمها بالفساد وإشاعة عدم الثقة في أحكامها وقراراتها لدى سكان اليمن من مواطنين وأجانب وغيرهم في مختلف أرجاء العالم، مما يضر بالعدل وينطوي على مساس بإستقلال القضاء وسمعته ويخيف المستثمرين المحليين والأجانب، ومن ثم الإضرار الجسيم بالمصلحة العامة والنظام العام، الأمر الذي يتعارض مع المواد(153،150،149،110،107.48.25.2) من الدستور.
السبب الثاني: إهدار النص غير الدستوري لإستقلال القضاء وانتهاك صلاحياته
1 - تنص المادة(149) من الدستور على مايلي:
(القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته، وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم، والقضاءة مستقلون لاسلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولايجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم)
واستناداً للنص الدستوري أعلاه فإن المادة(293) من قانون المرافعات المطعون فيها بعدم الدستورية (محل الدعوى) تشكل انتهاكاً صارخاً لصلاحية واختصاص واستقلال القضاء الدستوري ذاته، من حيث كونها أعطت(رئيس الجمهورية) سلطة التدخل التعسفي وغير المشروع دستوراً، في شئون القضاء من وجوه عدة أهمها:
الوجه الأول: التوجيه بإلغاء أي حكم قضائي بات، ويشمل ذلك الأحكام الصادرة عن الدائرة الدستورية ذاتها، وهو ما يعتبر تدخلاً لاحقاً محظوراً دستوراً في القضايا وشئون العدالة، إذ أنه يعني إلزام المحكمة العليا بأن تعيد النظر في أحكام حائزة لحجية الأمر المقضي به، وبالتالي تلغي أو تعدل لصالح المحكوم عليه أحكاماً صدرت عنها حتى في طعون دستورية أو انتخابية لايجوز لها مطلقاً التراجع عنها باعتبارها حجة على الكافة وملزمة للجميع بمن فيهم(رئيس الجمهورية – رئيس السلطة التنفيذية) ومن يتبعه في السلطة التنفيذية.
الوجه الثاني: إرغام المحكمة العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في اليمن حسب الدستور، على أن تعيد النظر في منازعات أصدرت فيها المحكمة العليا أحكامها الباتة وذلك بعد حسم المحاكم الابتدائية والاستئنافية لها، وبعد أن أحاطت بالنزاع من جميع جوانبه واستمعت، عبر سنوات طويلة من التقاضي والإجراءات القانونية المعقدة، إلى كافة حجج الخصوم ومرافعاتهم ودرست وثائقهم وتفحصت أدلتهم ووازنت بينها ثم أصدرت أحكامها على بينة تامة من حقيقة النزاع وطبيعة النص القانوني الصحيح الذي تم تطبيقه عليه.
الوجه الثالث: يتم اتخاذ الإجراءات ضد المحكوم له في غيبته ودون علمه، وبأسلوب أقل ما يقال عنه أنه (استخباراتي) حيث يتم تداول الأوراق المرسلة من(مكتب رئاسة الجمهورية) إلى (مجلس القضاء الأعلى) و(المحكمة العليا) بصورة سرية كما يجري تبادل المذكرات والآراء دون أن يحاط المحكوم له بحكم بات علماً بأي إجراء ضده فيجد نفسه وقد صدر ضده فجأة بناءً على أمر(رئيس الجمهورية) حكم قضائي جديد يجرد صاحب الحكم البات من حقوقه بما في ذلك حقه في الملكية بل وربما حقه في الحياة(أحكام الإعدام دون أن تتاح له فرصة الدفاع عن حقوقه الدستورية والقانونية على أي نحو كان، وإنما يتم الأمر بصورة سرية لايستطيع المحكوم له فيها حتى الحصول على صورة الأمر الصادر عن(رئيس الجمهورية) وكأنه سر حربي خطير الأمر الذي يعد مخالفة صريحة لنص المادة(49) من الدستور والتي تنص على أن حق الدفاع مكفول أمام جميع المحاكم، كما يتعارض النص غير الدستوري مع المادة(10) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يشترط الحياد والعلانية والإنصاف في نظرالقضايا والبت فيها وحيث أن المادة (6) من الدستور تجعل الاتفاقات والمعاهدات العالمية ملزمة للدولة اليمنية فإن النص غير الدستوري يكون مخالفاً للمادة المذكورة من الدستور، كذا المواد الدستورية(19.17.16) من قانون المرافعات التي تكفل مبدأ المواجهة والعلانية كأحد الدعائم الأساسية التي ترتكز عليها العدالة.
2- إن النص غير الدستوري يتضمن إهداراً خطيراً لحجية الأحكام القضائية الصادرة في القضايا الدستورية والعادية على السواء وطعناً فاضحاً في نزاهة القضاء والقائمين عليه بما في ذلك القضاء الدستوري الناشئ في اليمن لمجرد أن موظفاً في مكتب رئاسة الجمهورية قد رأى بعد قراءة عابرة لشكوى كيدية مصحوبة بتوصية ما أو تصفح ملفاً ينطوي على التدليس والتلفيق قدمه إلى المكتب المذكور المحكوم عليه عن طريق وسيط له عدم صحة الأحكام القضائية الباتة واستجاب الموظف المذكور، دون وجه حق، للطرف المحكوم عليه خاصاً أو عاماً فأشار على(رئيس الجمهورية) بعد عرض الأمر على مدير مكتبه (مكتب رئاسة الجمهورية) بإصدار أمر مضاد للحكم البات لأنه، حسب زعم الموظف، ينافي الحقيقة والعدالة؟! وضاربها؟! وينطوي على خطأ.
3 - إمعاناً في التغول على السلطة القضائية وإظهار عدم الاحترام لها فإن الأوامر الرئاسية الصادرة بناءً على النص غير الدستوري تصدر دون بيان أوجه الخطأ في الأمر، كما ينص على ذلك النص غير الدستوري الذي أكد ذلك بعبارة مع تبيين وجه الخطأ! وإنما يترك ل(مجلس القضاء الأعلى) الاجتهاد في معرفة أوجه الخطأ في الأحكام القضائية رغم أن المجلس المذكور ذو طابع إداري وليست له, من ثم, صلاحية إعادة النظر في الأحكام الصادرة عن الدوائر المختلفة أو التعليق عليها على أي نحو كان, كما أن واجبه هو, طبقاً للمادة (152) من قانون السلطة القضائية رقم (1) لعام 1990م, الحفاظ على حقوق القضاة وتوفير الحماية وليس المساهمة في الحط من شأنهم ومكانة السلطة القضائية بتسويغ القول بأن الأحكام القضائية الباتة الصادرة عنهم والتي تعتبر عنوان العدالة والحقيقة تنطوي على أخطاء ضارة بالعدالة؟!! لايستطيع كشفها وتصحيحها الا رئيس السلطة التنفيذية ومن اليه في مكتب رئاسة الجمهورية من الموظفين الإداريين؟!!
4 – يعتبر النص غير الدستوري أخطر أشكال تدخل السلطة التنفيذية في شئون السلطة القضائية, ومن ثم, فإن الاستمرار في اعماله يجعل من السلطة القضائية في اليمن, فيما يخص تطبيق هذا النص, شركة بين (ولاة أقوياء يتولون منها مايشاءون, وقضاة ضعفاء يفصلون فيما يتركه ولاة الأمر السياسيون) كما قال بعض الأقدمين.
5 – المقرر, دستوراً, أن ممارسة (رئيس الجمهورية) لصلاحياته لايكون الا وفقاً لما هو منصوص عليه في الدستور, حيث تنص المادة (105) منه على مايلي:
(يمارس السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ضمن الحدود المنصوص عليها في الدستور).
كما أوجب الدستور على (رئيس الجمهورية) احترام الدستور عند ممارسته المهام الموكلة اليه وذلك تطبيقاً لنص المادة (110) من الدستور التي تنص على الآتي:
(يعمل رئيس الجمهورية على تجسيد إرادة الشعب واحترام الدستور والقانون..الخ).
ومؤدى هذين النصين الدستوريين هو أن أي نص قانوني يخوله صلاحيات أو مهام خارج الاطار الدستوري للمهام الوظيفية الموكلة اليه, يعتبر نصاً مخالفاً للدستور.
6 الثابت أن الحق المخول ل(رئيس الجمهورية) بموجب النص غير الدستوري, والذي يحمل رقم (293) من قانون المرافعات , بإصدار توجيهات وأوامر رئاسية إلى المحكمة العليا لإلغاء الأحكام القضائية الباتة الصادرة عنها أو تعديلها لصالح المحكوم ضده يمثل عملاً قضائياً لاعلاقة لرئيس السلطة التنفيذية به, ولايجوز إسناده اليه لاعتبارات عديدة منها:
الاعتبار الأول: أن (رئيس الجمهورية) وأعوانه في ( مكتب رئاسة الجمهورية) لتي تصدر مثل هذه الأوامر والتوجيهات عنه, ليسوا قضاة أو مؤهلين لذلك, سواء من الناحية الفقهية أو القانونية والأكاديمية أو الوظيفية.
الاعتبار الثاني: لايمكن بأي حال من الأحوال التسليم بأن من يقترحون على (رئيس الجمهورية) إصدار الأوامر بموجب المادة غير الدستورية أكثر علماً ودارية وخبرة بالمسائل الشرعية والقانونية والإجراءات القضائية والدستورية من القضاة في المحكمة العليا بمختلف دوائرها وغيرها من المحاكم الابتدائية والاستئنافية, الأمر الذي يلحق أفدح الضرر بالعدالة ويجعل من السلطة الاستبدادية والتعسفية التي يتضمنها النص غير الدستوري خروجاً عن المهام والصلاحيات المرسومة لرئيس الجمهورية وفقاً للدستور والمحددة في الإطار التنفيذي لسياسة الدولة لاغير.
الاعتبار الثالث: أن موظفي (مكتب رئاسة الجمهورية) الذين يزعمون وجود أخطاء ضارة بالعدالة في أحكام القضاء الباتة, ليسوا أعدل من مصدريها ولا أكثر دراية بعناصر الدعاوي والمنازعات من المحاكم التي أصدرتها عبر إجراءات معقدة وسنوات طويلة معقدة من الفحص والبحث والتدقيق.
7 – إن مما يؤكد عدم دستورية النص غير الدستوري أنه قرر ل(مجلس القضاء الأعلى) وهو جهة أدارية تتبع (رئيس الجمهورية) صلاحيات مخالفة للدستور تتمثل في ابداء الرأي في الأحكام القضائية الصادرة من الدوائر والمحاكم المختصة, حيث تنص المادة (152) من الدستور على أنه:
(يكون للقضاء مجلس أعلى ينظمه القانون ويبين اختصاصاته وطريقة تشريح وتعيين أعضائه, ويعمل على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة من حيث التعيين والترقية والفصل والعزل وفقاً للقانون, ويتولى المجلس دراسة وإقرار مشروع موازنة القضاء, تمهيداً لإدراجها رقماً واحداً في الموازنة العامة للدولة).
فالنص الدستوري أورد اختصاصات المجلس حصراً, وبالرجوع إلى قانون السلطة القضائية يتبين من المادة (109) منه أن الاختصاصات الممنوحة ل(مجلس القضاء الأعلى) وردت متوافقة مع الدستور الذي قضى بأن القانون يبين الصلاحات والاختصاصات المرتبطة بتعيين القضاة وترقيتهم ونقلهم وعزلهم.. الخ, ولم يتطرق النص إلى صلاحية إبداء الرأي في الأحكام القضائية, ومن ثم, فإن النص غير الدستوري قد ورد مخالفاً للنص الدستوري والنص القانوني المبين له وذلك بالتزيد في صلاحيات مجلس القضاء الأعلى, اذ ماتم إيراده على سبيل الحصر دستوراً لايجوز التزيد فيه قانوناً.
السبب الثالث: انتهاك حجية الأحكام القضائية الباتة:
1 – أن إعمال نص المادة غير الدستورية رقم (293) من قانون المرافعات يترتب عليه العديد من المفاسد الخطيرة العامة والخاصة أهمها:
أ – إهدار حجية الأحكام الصادرة عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا رغم أنها يجب أن تكون حجة على الكافة وفي مقدمتهم (رئيس الجمهورية) ومن اليه ,حيث يمكنهم الامتناع عن تنفيذها وطلب تعديلها تحت ذريعة عدم عدالتها وما تنطوي عليه من أخطاء.
ب – زعزعه مكانة الأحكام القضائية الباتة وإهدار حجيتها المكفولة بموجب الدستور.
ج - الحط من مكانة السلطة القضائية (سلطة الحكم) وفتح الباب على مصراعيه للتطاول عليها.
د - ضياع الحقوق والمراكز القانونية المكتسبة بموجب تلك الاحكام.
ه - جعل المنازعات بين الناس من جهة أو المواطنين وجهات الحكومة من جهة أخرى, أبدية.
و – أن السماح للخصوم, عن طريق النص غير الدستوري, بإثارة النزاعات من جديد بعد صدور أحكام باتة فيها, ينطوي على مضيعة لوقت القضاء وهيبته, ومجلبة لتناقض أحكامه وإهدار حجيتها وتعريض مصالح الناس للعبث, طالما بقيت الأحكام القضائية معلقة بمشيئة (رئيس الجمهورية) وأعوانه من المحكوم عليهم في الجهاز التنفيذي, فيحصلون على الأمر غير الدستوري كلما حلا لهم تجديد النزاع وإطالة أمده, وإهدار حقوق المحكوم لهم, كذلك الأمر طالما استمر تنفيذ الأحكام, معلقاً بإرادة (رئيس الجمهورية) إن أراد نفذها وإن لم , امتنع عن التنفيذ وأمر بإعادة النزاع إلى ساحة القضاء للفصل فيه بعد أن تم حسمه بأحكام باتة, طالما وإمكانية الغاء الأحكام وإعادة النظر فيها, قائم بناء على الصلاحيات غير الدستورية المخولة ل(رئيس الجمهورية) في النص القانوني غير الدستوري.
ز – الثابت هو عدم جواز إبداء أسباب جديدة لأول مرة أمام المحكمة العليا, لأن ذلك ينطوي على إثارة مسائل واقعية مما يخرج عن اختصاص هذه المحكمة, إذ الخصومة أمامها, ليست امتداداً للنزاع أمام درجتي التقاضي, وانما هي خصومة ذات طابع متميز, موضوعها مدى موافقة الحكم المطعون فيه للقانون, ولكن النص غير الدستوري يخول (رئيس الجمهورية) أن يطلب من المحكمة العليا إعادة النظر في أحكامها الباتة بناء على مزاعم ومسائل موضوعية سبق حسمها وظهر, خلال المحاكمة, في مراحلها المختلفة, افتراء وكذب المحكوم عليهم.
2 – يتضمن النص غير الدستوري انتهاكاً خطيراً لمبدا دستوري أصيل يتمثل في حماية حقوق الإنسان المكتسبة بموجب الأحكام القضائية وفقاً للمادة (51) من الدستور باعتبار الحكم القضائي أهم وأوثق وأعدل مصدر لاكتساب تلك الحقوق.
3 - أن النص غير الدستوري يعتبر اعتداء على الأحكام القضائية الباتة التي هي عنوان الحقيقة وتاج السلطة القضائية وسلاحها الدستوري والقانوني في تقرير الحقوق وتحقيق العدالة والحصول أو الحفاظ على المراكز القانونية المكتسبة, ولاريب أن وجود النص غير الدستوري من شأنه تقويض الأسس التي يقوم عليها العدل والإنصاف في اليمن, باعتبار أن مبدأ احترام الأحكام الباتة وثبات واستقرار الحقوق الناجمة عنها هو أهم الضمانات الكفيلة بحسن سير العدالة, بينما هذا النص غير الدستوري (محل الدعوى) يهدر كلياً هذه الضمانة.
ويكفي في هذا المضمار أن القضاء العربي والعالمي لايكتفي باعتبار الأحكام القضائية الباتة عنوان الحقيقة, بل يعتبرها أقوى من الحقيقة ذاتها.
4 – يتنافى النص غير الدستوري مع المبدأ الوارد في المادة (149) من الدستور المؤكد استقلال القضاء وبأنه لا سلطان على القضاة في قضائهم سوى النصوص القانونية المتوافقة مع الدستور, وذلك حماية من المشروع الدستوري اليمني للسلطة القضائية عن طريق منع التدخل في شئون العدالة بأنه صورة ومن أي جهة بما في ذلك (رئيس الجمهورية) ويستوي في ذلك أن يكون التدخل سابقاً أو معاصراً أولاحقاً، وجوهر تعارض غير الدستوري مع المادة (149) من الدستور أن النص غير الدستوري جعل من (رئيس الجمهورية) سلطاناً على القضاء بدلاً عن القانون الذي جعلته المادة 149 من الدستور هو السلطان الوحيد على القضاء في أحكامهم تتجسد هيمنة (رئيس الجمهورية) على سلطة القضاء في هذه المسالة من عدة نواح أهمها, أن (رئيس الجمهورية) على سلطة القضاء في هذه المسالة من عدة نواح أهمها, (رئيس الجمهورية), حسب النص غير الدستوري, هو الذي يقرر ماهو عادل أو ظالم من الأحكام القضائية الباتة وحتى تلك الصادرة بعد الأحكام الصادرة في التماس إعادة النظر.
5 – إن القانون قد رسم بالتفصيل في قانون المرافعات رقم (40) لسنة 2002م وقانون الإجراءات الجزائية الطريق الصحيح لإعادة النظر في الأحكام وهو (التماس إعادة النظر) (المادة (304 – 313) من قانون المرافعات, والمواد (457 – 468) من قانون الإجراءات الجزائية, وهذا الطريق يغني عن أية وسيلة أخرى غير دستورية أو طريق شاذ كالمنصوص عليه في المادة غير الدستورية لمراجعة الأحكام القضائية, كما هو الحال في النص غير الدستوري.
ويؤكد ذلك نص المادة (313) من قانون المرافعات التي قضت صراحة بما يلي:
(الحكم الصادر بعدم قبول الالتماس شكلاً أوبقبوله شكلاً ورفضه موضوعاً لايجوز الطعن فيه بالالتماس ولابأي طريق آخر أياً كانت المحكمة التي أصدرته).
وبالتالي فإن عبارة (ولا بأي طريق آخر) تشمل الصلاحيات غير الدستورية الممنوحة ل(رئيس الجمهورية), الا أنه يتم تجاوز هذا النص وتصدر توجيهات من رئيس السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية) بإعادة النظر في أحكام قضائية باتة قد استنفدت طريق الالتماس مما يؤكد أن النص غير الدستوري أصبح وسيلة للتغول على السلطة القضائية وذلك عن طريق التعدي على الأحكام الباتة الصادرة عنها وإهانة مصدريها بالقول أنها ظالمة وفتح الباب لكل من هب ودب من أصحاب النفوذ للطعن فيها بالباطل, الأمر الذي يؤكد عدم دستورية نص المادة (293) مرافعات.
السبب الرابع:إهدار الحقوق المكتسبة وإلغاء المراكز القانونية:
1 المعلوم أن الحكم البات هو الذي لا يقبل الطعن بأي طريق من الطرق المقررة قانوناً (العادية وغير العادية) وقد عرفه قانون المرافعات في المادة (2)منه بأنه:
((الحكم الذي لا يقبل الطعن بأي طريق من طرق الطعن سواءً كانت عادية كالاستئناف أو غير عادية كالطعن بالنقض أو التماس إعادة النظر)).
والثابت هو أن الأحكام القضائية من أهم مصادر الحقوق الدستورية والمراكز القانونية، وبناءً على النص غير الدستوري محل هذه الدعوى، فإن أي حق أو مركز قانوني مكتسب بواسطة الأحكام القضائية الباتة يكون محصناً ضد أي تدخل، لأن ذلك يعتبر تدخلاً في شئون العدالة محظور دستوراً، بينما النص غير الدستوري يعطي(رئيس الجمهورية) الحق في أن يتدخل، نافياً بكل جرأة، صفة العدل عن الأحكام القضائية ومصدريها، وبذلك أضحى كل حكم بات، غير مستقر ومهدد بالزوال طالما ورئيس السلطة التنفيذية يملك الحق دائماً وفي أي وقت كان بعد صدور الحكم البات والحكم في التماس إعادة النظر، في أن (يأمر) طالباً من المحكمة العليا إعادة النظر فيه وإلغائه أو تعديله ضد المحكوم له ولصالح الخصم المحكوم عليه،سواء كان فرداً أم جماعة أم إحدى جهات الدولة.
2 عملاً على استقرار الحقوق لأصحابها، ومنعاً لتضارب الأحكام،نص المشرع في المادة(101)من قانون الإثبات ، على تعلق حجية الأمر المقضي به بالنظام العام تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها، وذلك اعتماداً على ما يفرضه المشرع الدستوري والقانوني من صحة مطلقة لأحكام القضاء باعتبارها عنوان الحقيقة، تحقيقاً للعدالة ورعاية لحسن سيرها وحماية للمراكز القانونية الناشئة بموجب تلك الأحكام، واتقاء لتأييد المنازعات، وضماناً للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهي أغراض تتصل اتصالاً وثيقاً بالنظام العام بل وتفوقه في أهميتها، مما يجعلها أعلى مرتبة منه، لأنها تمس مباشرة أمن المواطنين واستقرارهم وحقوقهم ومراكزهم القانونية.
والحكم الوارد بالمادة(101)من قانون الإثبات يتماشى أيضاً مع ما نصت عليه المادة(116) من قانون المرافعات التي تنص على:
((الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها، تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها)).
وعلى الرغم من ذلك نجد النص غير الدستوري رقم(293) في قانون المرافعات اليمني يهدر جميع الضمانات والحقوق والواجبات المتعلقة بالنظام العام لصالح سلطة( رئيس الجمهورية)،كما يخضع كافة الأحكام القضائية والحقوق العامة والخاصة لإرادته.
3 إن المتأمل في معنى ومدلول النص غير الدستوري (المادة”293” مرافعات) يجد أن الاستمرار في إعمال هذا النص يلحق أضراراً جسيمة بأمن وحقوق المحكوم لهم بأحكام باتة استنفدت كافة مراحل التقاضي بما في ذلك مرحلة التماس إعادة النظر، كما أن النص غير الدستوري يجعل من المنازعات لا نهائية والأحكام القضائية غير باتة، حيث تستمر المنازعات تدور في دائرة مفرغة إلى ما لانهاية، وقد تؤدي إلى نتائج خطيرة تضر أمن المواطنين، ما دام أن (رئيس الجمهورية) قد يرى شخصياً أو بعين بعض أعوانه أو طبقاً لطلب ومصلحة بعض المقربين منه، في أي وقت كان،أن الأحكام القضائية الباتة التي استنفدت كافة المراحل بما فيها مرحلة التماس إعادة النظر، هي أحكام حسب وجهة نظر (رئيس الجمهورية) ومن إليه بناءً على النص غير الدستوري، خاطئة وضارة بالعدالة، ويملك (رئيس الجمهورية)، من ثم طلب إلغائها أو تعديلها، الأمر الذي يتعارض مع المادة (48)من الدستور، والتي تجعل من واجبات الدولة والسلطة الحاكمة فيها المحافظة على حقوق المواطنين وأمنهم الشخصي والقومي.
4 تنص المادة (237) من قانون المرافعات على مايلي:
((الأحكام تقرر ثبوت الحقوق أو عدم ثبوتها وتنشئ المراكز القانونية أو تزيلها...الخ))
ولا ريب أن وجود النص غير الدستوري يتعارض مع الدستور معنى ودلالة والذي يحمي الحقوق الخاصة ويجعلها مقدمة على الحقوق العامة(المواد “1461”من الدستور).
فالثابت أنه، بسبب وجود النص القانوني غير الدستوري، لا يوجد في اليمن،أمان قانوني أو اجتماعي، سواء للمواطنين أو الأجانب الحاصلين على أحكام قضائية وخاصة المستثمرين، لأنه لا يوجد أي حكم بات أو نهائي وحائز على حجية الأمر المقضي به أو حائز على قوة الشيء المحكوم به، طالما والنص غير الدستوري يخول رئيس السلطة التنفيذية، في أي وقت ولو بعد تنفيذ الأحكام، إصدار أوامره إلى أعلى سلطة قضائية وهي المحكمة العليا بإعادة النظر في أي حكم بات صادر عنها بدون حدود أو قيود وقتية أو معايير شرعية أو موضوعية، مما يتعين على الدائرة الموقرة الحكم بعدم دستورية النص غير الدستوري، الذي لا يقتصر الأمر فيه على تعارضه مع جميع النصوص الدستورية ذات العلاقة،بل إنه يتناقض أيضاً مع كافة المواد القانونية السابقة عليه واللاحقة له المقررة لحجية الأحكام وحرمة المراكز القانونية الناشئة بموجبها، كما أن النص غير الدستوري المذكور يتعارض مع كافة القواعد المنظمة لإجراءات التقاضي وقواعده في اليمن والعالم أجمع، بل ويعتبر النص غير الدستوري هادماً لكافة أسس التقاضي وقواعده الدستورية والقانونية في اليمن.
5 إن الإجماع الفقهي والتطبيق القضائي الدستوري في العالم أجمع منعقد على أن قوة الشيء المحكوم فيه تعتبر من النظام العام بل هي أقوى منه عند المفاضلة، فلا يجوز التشكيك فيها ويتعين على المحكمة مراعاتها من تلقاء نفسها، لأن ذلك من مجالات القانون العام التي تمس مصلحة المجتمع والتي لا يجوز أن تكون محلاً للمساومة بين الأفراد.
ولذلك فإن النص غير الدستوري يهدر النظام العام والمصلحة العامة مما يجعله متعارضاً مع الفقرة(ه)بالمادة(137) من الدستور التي تجعل من واجبات (رئيس الجمهورية)،بالاشتراك مع مجلس الوزراء، ضمان أمن المواطنين وحماية حقوقهم وهو ما يشكل جوهر النظام العام والمصلحة العامة في الدولة.
6 فضلاً عن عدم دستورية النص غير الدستوري فإن تطبيق نص المادة (293) مرافعات يتم بما يخالف حدوده والإجراءات الواردة فيه، ونوضح ذلك في الوجهين التاليين:
الوجه الأول:جرى التطبيق للنص غير الدستوري محل هذه الدعوى على إصدار توجيهات رئاسية إلى المحكمة العليا بإعادة النظر في الأحكام الصادرة عنها حتى في قضايا صدرت فيها أحكام باتة ثم تم إنهاؤها صلحاً، على الرغم من أن الحدود غير الدستورية المرسومة ل(رئيس الجمهورية) ، مقتصرة فقط، وبالمخالفة للدستور، على الأحكام القضائية الباتة ولا تمتد بأي حال من الأحوال إلى اتفاقات الصلح المعمدة من قبل القضاء، إذ مبناها اتجاه إرادة الأطراف إلى قطع الخصومة وإنهاء النزاع بناءً على بنود التصالح، طبقاً للمادتين (677.668)من القانون المدني.
وقد قرر المشرع في المادة(328/4) من قانون المرافعات اعتبار الصلح المعمد قضائياً من السندات التنفيذية التي لا يجوز النيل من حجيتها مطلقاً، وعلى الرغم من ذلك فإن طلب تعديل الأحكام الصادرة من (رئيس الجمهورية) بناءً على النص غير الدستوري يتجاوز ذلك إلى الاتفاقات القضائية المعمدة قضائياً والمترتبة على الأحكام الباتة وقرارات التنفيذ القصعية، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على مدى تغول السلطة التنفيذية ممثلة في (رئيس الجمهورية) على السلطة القضائية وتوغل رأس السلطة التنفيذية في مضمار الاعتداء على حقوق المواطنين التي تتم حتى بالتصالح الموثق قضائياً.
الوجه الثاني: الثابت أن النص غير الدستوري يشترط أن يكون إصدار التوجيهات الرئاسية بإلغاء الحكم البات مبنياً على عرض (مجلس القضاء الأعلى) لدراسته والموافقة عليه ثم العرض على (رئيس الجمهورية) للمصادقة والتوجيه بإعادة النظر، ولكن الأمر يتم بخلاف هذه الإجراءات، حيث يذهب المحكوم عليه أو من ينوبه من المتنفذين مباشرة إلى ( مكتب رئاسة الجمهورية) أو شخص (رئيس الجمهورية)، طاعناً في الحكم البات بمزاعم وأكاذيب تخالف ما ورد في الأحكام القضائية من وقائع وأسانيد، ثم تجري الاستجابة للطلب دون إعلان الطرف الآخر به، ويصدر توجيه الرئيس بإعادة النظر في الحكم البات بالإلغاء أو التعديل لصالح حامل أمر الرئيس، مما يجعل مخالفة المادة(293)مرافعات للدستور ليست مقصورة على الأساس والمبنى فحسب، بل تمتد أيضاً إلى الآلية التي يتم بها تطبيق النص غير الدستوري، وما تشكله من انتهاك لحقوق المتقاضين المكفولة دستوراً وقانوناً وفي مقدمتها حق الدفاع.
السبب الخامس: منافاة مفهوم مصدر العدالة الدستوري:
1 إن النص غير الدستوري يجعل(رئيس الجمهورية) هو مصدر العدالة وحارسها، فيضفي عليه، بدون وجه حق، قداسة وحصانة، ضد الخطأ والظلم،كما أن النص غير الدستوري يجعل (مكتب رئاسة الجمهورية) هو ساحة العدل والإنصاف وليس القضاء، وهذا مخالف للحقيقة ويتعارض مع المواد(47 ،48 ،49 ،51، 53و107/د،149، 153)التي تؤكد أن العدالة والإنصاف والحقوق يكون البحث عنها في ساحات القضاء والحصول عليها بواسطة الأحكام القضائية الصادرة فيها، وليس لدى أية جهة أخرى سوى الله سبحانه وتعالى.
وهذا النص غير الدستوري يعيدنا إلى المفهوم الكهنوتي للحاكم في الدولة الإسلامية والذي كان يجعله ظل الله على الأرض، الأمر الذي ينافي المادة(4) من الدستور والتي تنص على أن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها ويمارسها عن طريق الهيئات التشريعية والقضائية والتنفيذية وليس بواسطة الفرد الحاكم مطلق الصلاحية.
2 بالمخالفة للنص الدستوري المذكور في الفقرة السابقة، فإن النص غير الدستوري يجعل ل(القائد الأعلى للقوات المسلحة) ورئيس الجمهورية الحق في التغول على السلطة القضائية والزعم المخالف للحقيقة بوجود ظلم وأخطاء تضر العدل في تلك الأحكام، وجعل ذلك مدخلاً غير دستوري يتم بموجبه تخويل (رئيس الجمهورية) الحق في طلب تصحيح الأحكام القضائية الباتة ورفع الظلم المزعوم منها وإزالة الخطأ المفتعل فيها.
3 يتعارض هذا مع المادتين(149.51) من الدستور، التي تقرران أن العدالة مصدرها القضاء، وهو ما نجده أيضاً في المادتين (10.8) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وحيث أن النص القانوني غير الدستوري،يقرر أن الأحكام القضائية الباتة ليست عنوان الحقيقة وأنها (غير عادلة)وأنها تتضمن(أخطاء ضارة بالعدالة)، كل ذلك يجعل نص المادة (293) من قانون المرافعات يتنافى، لا مع الدستور فحسب ، بل ومع كافة النصوص القانونية الأخرى، والعقل والمنطق، كما أن النص غير الدستوري يتضمن تحقيراً للأحكام القضائية ومصدريها يعاقب فاعله ناهيك عن أن يكون هذا التحقير مدوناً في نص قانوني ملزم لا مثيل له في أية دولة من دول العام ؟!!.
4 يجعل النص غير الدستوري (رئيس السلطة التنفيذية) هو المهيمن والمشرف على السلطة القضائية وميزان العدل لها ومصدر العدالة والحق والصواب في اليمن قاطبة، مما يتعارض مع الفقرة(د)بالمادة(107) من الدستور والتي تجيز للسلطة القضائية إصدار أحكام جنائية ضد (رئيس الجمهورية) تحول دون توليه رئاسة الجمهورية.
5 يؤدي وجود المادة (293) مرافعات واستمرار تطبيقها إلى تكريس الاستبداد والهيمنة الفردية على جهاز الدولة وشخصنتها، أي اختصارها في شخص رئيس الجمهورية والذي تجعل المادة المذكورة من توجيهاته أقوى من نصوص الدستور وأمضى من قواعد القانون.
6 يتعارض النص غير الدستوري صراحة مع المادة (153)من الدستور والتي تنص على أنه:( المحكمة العليا للجمهورية هي أعلى هيئة قضائية).
والواضح أن النص غير الدستوري إذ يعطي (رئيس الجمهورية) صلاحية إلغاء الأحكام وتوجيه المحكمة العليا بإعادة النظر فيها فإنه يعتبره قمة الهرم القضائي، متجاوزاً الوصف المقرر للمحكمة العليا التي تعتبر بموجب الدستور هي أعلى هيئة قضائية في الجمهورية.
كذلك يتنافى النص غير الدستوري مع المادة (153)من الدستور والتي تنص على أن المحكمة العليا هي أعلى هيئة قضائية، بينما النص غير الدستوري يجعل (رئيس الجمهورية) أعلى من هذه المحكمة والدائرة الدستورية فيها، وذلك من حيث كون النص القانوني غير الدستوري يعطي رئيس السلطة التنفيذية حق الإشراف على المحكمة العليا قضائياً والطعن في أحكامها من حيث القول بأنها غير عادلة أو خاطئة أو ظالمة وباطلة,وبناءً على ذلك يصادق رئيس السلطة التنفيذية عليها أو يرفض تنفيذها أيضاً.
لذلك فإن النص غير الدستوري يتضمن انتهاكاً صريحاً لصلاحيات السلطة القضائية وتغليباً لسلطة الفرد الحاكم عليها وإنكاراً لعدالة القضاء اليمني وكفاءته وحجية أحكامه وفي مقدمتها أحكام الدائرة الدستورية التي يفترض فيها أنها حجة على الكافة فلا يجوز إعادة النظر فيا مطلقاً، مما يتنافى مع المواد (153.149.51) من الدستور.
7 إن النص غير الدستوري يقلب الأمور رأساً على عقب ويجعل الوضع معكوساً، إذ يجعل من الجهة الإدارية(السلطة التنفيذية) التي يرأسها(رئيس الجمهورية) رقيباً ومسيطراً على السلطة القضائية ومتحكماً فيها، بينما الرقابة مقررة دستوراً، للقضاء على (رئيس الجمهورية)ومن إليه وليس العكس، كما أن الحق في تقرير طبيعة التصرفات الصادرة عن (رئيس الجمهورية) من حيث كونها صحيحة أو باطلة وعاجلة أو جائرة مقرر للسلطة القضائية وليس العكس. ويكفي دليلاً على ذلك أن محاكمة(رئيس الجمهورية) تتم أمام المحكمة العليا وهي التي تختص بالحكم عليه طبقاً لما هو مقرر في المادة (153) من الدستور كما سبق التنويه.
وبذلك يتضمن النص غير الدستوري إهداراً صريحاً لمبدأ الرقابة القضائية على السلطة التنفيذية، الأمر الذي يخالف المواد(153.149.51) من الدستور.
السبب السادس:الإخلال بمبدأ المساواة والإضرار بالعدالة:
تنص المادة(4) من الدستور على مايلي:
((المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة)).
2 تنص المادة(7) من الوثيقة الشرعية الدولية لحقوق الإنسان(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) على مايلي:
((كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أي تفرقة كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز وتخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا)).
كذلك تنص المادة (2)منه على أن حق التمتع بكافة الحقوق دون تمييز بسبب المركز الاجتماعي أو أي وضع آخر.
وبناءً على المادة (293)غير الدستورية، فإن (رئيس الجمهورية) كذا المحكوم عليهم ممن يحصلون على أوامر منه بإعادة النظر في الأحكام الباتة الصادرة ضدهم، يتمتعون نتيجة ذلك بمركز اجتماعي متميز بالمخالفة للمادة (2)من الدستور.
والثابت أن النص غير الدستوري بالمادة(293) المخولة صلاحيات لرئيس الجمهورية(رئيس السلطة التنفيذية) بالتعاون مع (مجلس القضاء الأعلى) المعين من قبله، وبالتالي، التابع له بإلغاء الأحكام القضائية الباتة الحائزة لحجية الأمر المقضي به، تتعارض مع النص السالف ذكره بالمادة(7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)،من حيث أن النص غير الدستوري ينطوي على إهدار لمبدأ المساواة بين المواطنين وحرمانهم من المراكز القانونية والحقوق المقررة والمكتسبة بموجب تلك الأحكام القضائية الباتة لمصلحة فئة معينة من الناس المقربين من رئاسة الجمهورية ومراكز القوى في المجتمع وأصحاب النفوذ من ملاك المال والجاه كذا الجهات العامة وشبه العامة التي يسيطر عليها بعض الفاسدين، وذلك على حساب أحكام وقواعد الدستور والعدالة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية العالمية التي تحظر التمييز بين المواطنين وغيرهم بسبب الصفة أو الوساطات والثروة أو الجاه أو ما في حكم ذلك.
3 إن المادة(293)المطعون بعدم دستوريتها تشكل افتئاتاً على ولاية القضاء وسلطاته في اليمن، لأنها تؤدي إلى تعطيل جريان أحكام القضاء بحيث لا تعود لها قيمة، طالما هناك طريق غير دستوري(المادة “293”مرافعات) يخول (رئيس السلطة التنفيذية) عن طريق (مجلس القضاء الأعلى) التابع له، الأمر بإلغاء الأحكام القضائية أو تعديلها بعد صيرورتها باتة وحائزة حجية الأمر المقضي به.
ولما كانت ثمرة الأحكام القضائية هي تنفيذها، فإن النص يبطل عمل السلطة القضائية بتعطيل أحكامها، إذ تصير بلا جدوى مما يجعل النص غير الدستوري متعارضاً مع المواد(149.105.41.6) من الدستور والمواد(7 ،10،17/2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأن حرمان الشخص من حقه الثابت بحكم قضائي بات استنفد كافة طرق الطعن فيه بما في ذلك طريق التماس إعادة النظر، هو تجريد تعسفي للمحكوم له من ملكه الثابت بموجب الحكم البات أو حقوقه المقررة فيه ومركزه القانوني المكتسب بواسطته أو من جميع هذه الحقوق المكتسبة بواسطة الحكم القضائي..
4 نصت المادة(10)من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي:
((لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته...الخ)).
واستناداً لمفهوم النص(الدستوري)المذكور أعلاه ومدلوله يتضح لعدالة الدائرة الموقرة تعارض النص غير الدستوري معه من حيث أن ينطوي على تجريد للمواطن وغيره (الأجانب المحكوم لهم) من كل الحقوق المكفولة دولياً ودستورياً، إذ أن الصلاحيات المخولة ل(رئيس الجمهورية) بأن يأمر بإلغاء أو تعديل الأحكام القضائية الباتة بما يضر المحكوم لهم ولصالح المحكوم عليهم بأحكام باتة، يشكل انتهاكاً لاستقلال القضاء المصدر للحكم وطعناً في نزاهة القضاة وعدالتهم، إذ أن انصياع المحكمة العليا لأوامر(رئيس الجمهورية) غير الدستورية ينزع عنها صفة الاستقلال والحياد ويجعلها تابعة له،وبذلك يتبين التعارض الخطير بين النص غير الدستوري ومبدأ المساواة والعدالة بين الخصوم المقرر في المادة(10) من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي يجب أن يلتزم به(رئيس الجمهورية) ومن إليه وفقاً للمادة (6) من الدستور وبقية النصوص التي أوردناها في هذا المبحث.
5 إن هذا النص الشاذ وغير الدستوري يقود، من حيث مبناه ومؤداه، إلى عدم المساواة بين المواطنين، لأنه يمكن المحكوم عليه بحكم بات حائزاً حجية الأمر المقضي به، من الحصول على حكم لصالحه بإلغاء الأحكام الباتة بما فيها الحكم في التماس إعادة النظر، دون سماع دفاع المحكوم له نتيجة تعصب (رئيس الجمهورية) ومن إليه، مع المحكوم عليه وسير الأمور بصورة سرية لا تليق بالقضاء الذي أهم سماته العلانية، حيث تفاجأ المحكوم له بصدور حكم ضده يلغي كافة الأحكام التي سبق وأن حصل عليها وربما تكون قد نفذت، الأمر الذي يجعل النص غير الدستوري يتنافى مع المادة(24)والمادة (25) والمادة(41) من الدستور والمادة(10،7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
6 يثير تطبيق نص المادة(293)مرافعات مشاكل عديدة في التطبيق، ويفتح المجال واسعاً لطلب تنحي معظم أعضاء الدائرة الدستورية وعددهم (سبعة), كما في طلب التنحي التالي الذي قدمه المؤلف للدائرة فيما يخص الدعوى المرفوعة منه ضد كل من :رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب بعدم دستورية المادة(293)من قانون المرافعات محل هذا المبحث.
وبهذا يتضح وبما لا يدع مجالاً للشك أن نص المادة(293)مرافعات بفقراته الثلاث،الأساسية والتكميلية، يتعارض مع المبادئ الدستورية والقانونية العامة والأسس الدستورية للتشريع الإجرائي ذاته، وأن التطبيق للنص غير الدستوري قد أثبت أنه وسيلة لتعطيل تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لحجية الأمر المقضي به وأداة لإهدار الحقوق المكتسبة وإلغاء المراكز القانونية الثابتة بموجب الأحكام القضائية الباتة، كما أن(رئيس الجمهورية) ومن إليه بإعمالهم النص القانوني غير الدستوري ينتهكون سيادة الدستور وحقوق الإنسان الأساسية، كما أنهم بالنص المذكور يعتدون على مبدأ المشروعية والديمقراطية والدولة القانونية.
تم بحمدالله وتوفيقه...
استاذ علوم القانون الجنائي كلية الشريعة والقانون - جامعة صنعاء
المستشار القانوني والمحامي أمام المحكمة العليا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.