لم تُعَد تلك الأقوال والأساطير التي كنا نسمع بها من ناس سبقونا أو من أشخاص منذ زمن وهي تلك الأقوال التي تتحدث عن الشخص الموسوعة وهو الشخص المتقن لعدة علوم والذي يستطيع أن يجاري ويقارع الكثير من الناس في تخصصاتهم. لم تعد حكاية المتخصص في الطب والهندسة وعلوم الفلك والفلسفة والرياضيات شيئاً مجدياً في هذا الزمن لسبب بسيط أننا تشعبنا في العلوم لدرجة كبيرة تجعل من الشخص يبحث عن فرع من عشرات الفروع لتخصص واحد, فإذاً هي الحالة التي تجعل من التعمق في شيء واحد وعدم البحث عن التفرعات أو بالاصح عدم التشتت في الكثير من الأمور أمراً مطلوباً للغاية على الأقل نجد في الأخير أشخاصاً تتقن تخصصات بدرجة كبيرة تجعلنا ننظر إليهم بمزيد من الثقة والفخر. التخصص هو البحث في العمق رأسياً وليس التوسع أفقياً بشكل أوضح التوسع بالشكل الأفقي يعني البحث عن فروع أخرى من العلوم وهذا ليس مطلوباً بالضرورة بقدر ماهناك طلب على التوسع الرأسي وهو البحث بعمق عن تفاصيل التخصص نفسه، مثلاً المتخصص في الهندسة وهي فروع كثيرة جداً فأصبحت الهندسة تمثل الآن فروعاً وليس فرعاً، فعلى الشخص بدل التشتت في كل فروعها عليه البحث عن تخصص معين والتعمق فيه حتى يصل إلى مرحلة الاحترافية وعندها سنكون بحاجة أكبر إليه, غير التشتت الذي يحدث حين يأخذ الشخص من أكثر من شيء وبالتالي ربما يحصل على ميزة واحدة هي المعرفة بكل هذه الاشياء لكن ينقصه التعمق والتخصص بشكل دقيق . في اليمن يبدو أن كل شيء إلى حد غير معقول منافٍ لكل الحقائق التخصصية فهناك الكثير والكثير من الناس يعملون في غير مجالات تخصصاتهم وهو ذات الحال الذي أعتقد تشاطرنا فيه الكثير من البلدان العربية في هذه السلبية من حيث أنه لايترك المجال المناسب للشخص المناسب وهذا يترك الكثير من المشاكل التي يسببها عمل الشخص غير المتخصص في مجاله في حين أن ظهور مشكلة أخرى تتلخص في أولئك المتخصصين الذين لا يجدون فرص عمل يلتحقون فيها في اليمن على سبيل المثال وفي إحصائية نشرتها وزارة الخدمة المدنية تقول أن هناك 15% من العاملين يعملون في مجالات تخصصاتهم في نسبة قد تكون مهولة إن نظرنا إلى الجانب الآخر وهي نسبة ال 85 % التي تشكل قوام الذين يعملون في غير مجالات تخصصاتهم وهنا ندرك سر التقلبات والمشاكل الإدارية والاقتصادية بل وفي كل المناحي حين تأتي بشخص لايفقه ربما شيئاً من المهام الموكلة إليه والتي يجب عليه أن يقوم بها وتترك المتخصص بين نارين إما أن يعمل في مجال غير مجال تخصصه أو أن يظل عاطلاً على الرصيف حيث مكوثه هناك ربما يطول كثيراً. • من هنا بداية المشكلة.. تبرز هذه المشكلة ليس وقت التوظيف وإنما أولا من الطالب نفسه فهو يصل إلى مرحلة لا يدري ماذا سيدرس وماهو المجال الأنسب له وما هي إمكانياته الفريدة بحيث تجعله يختار التخصص المناسب بما يتوافق مع مقدرته وميوله لكنه هنا ينصدم بواقع ربما الكثير من الناس وحتى القائمين على هذا الشأن يرتضون بها وهي جودة التعليم ومعايير الوصول إليه, فحيرته ربما تجعله يلتحق بتخصص أي كان فقط ليقال عنه إنه أكمل الجامعة وحصل على الشهادة بينما تلك الشهادة قد لا يكون لها أي معيار من معايير التخصص الذي يتوافق مع إمكانياته. وتصبح العقبة الثانية وهي الجامعة التي ليس لديها معيار دقيق بالإضافة إلى ذلك فكثير من الجامعات تخضع إلى دور الوساطة في قبول الطلاب من هب ودب بالإضافة إلى جرعة من المر هي الجامعات الأهلية التي هي عبارة عن دكاكين للخضار تبيع الطلاب العلم والشهائد كل بفلوسه..! في الجامعات الحكومية تبرز هناك مشكلة التعليم الموازي وهي مشكلة لم تحدد معاييرها وأصبح معيارها هو الطالب القادر على دفع مبلغ الدراسة غير ذلك لا, في هذه الحال عليك كل عام أن ترى الآلاف من الخريجين يحملون شهاداتهم لكنهم لايحملون أدنى اعتبار من التخصص الذي تخرجوا منه بالمطلق. تكمن القضية أيضا في سياسة التعليم الجامعي وفي افتتاح الأقسام بما لايتناسب أولا مع متطلبات السوق وثانيا مع إمكانيات الجامعة, مثلاً في جامعة مثل جامعة تعز وكلية الهندسة هناك قسم اسمه الروبوتات هذا القسم صحيح نوعي ولا يوجد مثله في الجمهورية لكنه أعتقد أتى بعد جلسة مقيل أو تخزينة واليوم الثاني افتتحوه فقسم كهذا لم تتوفر لديه أبسط مقومات التخصص من المعامل والتجهيزات وكذلك في الكادر, ثانياً ماهي المخرجات التي على القسم أن يرفد بها سوق العمل وأين سوق العمل الذي يحتاج إلى تخصص كهذا؟ سياسة عمياء أن يتم التفكير هكذا من القائمين على التعليم بينما في الأخير يتركون الطالب يبحث عن مكان يستوعبه بتخصص لا يوجد. مثال آخر في كلية العلوم التطبيقية بجامعة تعز كان هناك قسم اسمه طفيليات وخرّج عدداً من الدفع لكن المشكلة لم يعترف بشهادة الطالب في سوق العمل فالسوق لايفهم تخصصاً كهذا وأصبح متذبذباً فأصحاب مختبرات المصانع يقولون يتبعون مختبرات الصحة والصحة العكس وضاع الطلاب بلحظة هي لحظة فقدان العقل ممن يفترض أنهم مطلعون على احتياجات السوق من عمداء الكليات ورؤساء الجامعات. فجوة المتخصصين.. سوق العمل أصبح يمثل حجر عثرة أمام الكثير من المتخرجين فهذا السوق أصبح لا يعترف بالمتخصص حتى وإن كان على طراز عالٍ فهناك عقدة من المستثمر المحلي وأصحاب رؤوس الأموال من المتخصص المحلي وكل هاجسهم هو المتخصص الأجنبي، أذكر مثالاً لزميل لي يحكي واقع هذا الحال أن إحدى الشركات الكبرى استعانت بخبير عربي أبسط ما يقال عنه أنه لا يصلح كموظف سكرتارية أو طباخ في مطعم مدير عام, فاستعانت به من أجل شراء بعض الأجهزة الأمنية للشركة فسافر إلى بلدان العالم من أجل عروض الأسعار وفي الأخير أتى بأردأ الأنواع من الصين ليكتشفوا بالأخير أن المورد هو أخوه في الصين بل وبأسعار تفوق ماهو متوفر بعشرات الأضعاف.. أليست هذه مصيبة في العقل اليمني؟ فبالله عليكم كيف يمكن للمتخصص اليمني أن يجد الثقة إذا كانت بالأساس مفقودة من أقرب الناس.! المشكلة الأخرى أن الشركات باتت تبحث عن متخصص ربما بميزات أقل من الأجنبي هذا إن وصل بها الحال إلى الإعتراف بالكادر المحلي, أيضا منهجية العمل في الشركات هي منهجية تقليدية جداً معتمدة على موظف من البيت إلى العمل ولم تتخذ منهجية تحسين إدارة التدريب والموارد البشرية في تأهيل الموظفين واختيار الموظف حسب الكفاءة وليس حسب الاتصال الهاتفي من واحد معروف.! الفجوة هذه أحدثت أشياء كثيرة من ضمنها عدم الاهتمام بالتخصص، فالطالب ينظر إلى الجميع بهدف الدخول إلى أي مكان ومهما كانت الاحتياجات فخريج الهندسة بإمكانه أن يعمل مهندساً أو محاسباً أو مسوقاً أو حتى سواقاً..! فأصبحت الحاجة أيضا هي التي تجبر الشخص على القبول بأقل الأشياء مهما كانت على حساب تخصصه ومجتمعه وقد لا يلام في هذه اللحظة بقدر واقع يفرض عليه أن يكون كما يراد له أن يصبح وإلا فليس له مكان. وتظل العقبة الكبرى هي مسألة الخبرة فتكون متخرجاً وعند التقديم على عمل يطلب منك خبرة خمس سنوات فكيف ستأتي بهذه الخبرة إن كنت في بداية مشوارك لإثبات وجودك.؟ إبحث عن نفسك.. لايجب أن تُضيع نفسك في أكوام البشر المتشابهة فابحث عن نفسك في مكان مميز ومكان متخصص يشار اليك بالبنان فالنسخ المتشابهة لا تحدث صدى ولا أحد يبحث عنها او يطلبها. قيّم نفسك ابحث عن امكانياتك وقدراتك وميولك واتبع ذاك الاتجاة بتعمق اكبر حتى تصل الى كل ماترجوه , لا تحاول ان تكون مشتت في كل مكان , ولا تبحث عن أنصاف التخصصات بل ابحث عن التكامل في التخصص نفسه. ببساطة مهما يكن الواقع فأنت جدير أن تخلق لك واقع مغاير بشرط ان تكون أقوى من هذا الواقع ولديك الإمكانات والمؤهلات, حاول أن تؤهل نفسك على مقدار متواز بين متطلبات السوق وبين الاحترافية في ذات التخصص لا تشتت نفسك في البحث عن شهادات لا تمت لتخصص بصلة وابحث عن المفيد في ذات التخصص... أثق أن كل شخص هو فريد ومميز ورائع إن بحث عن جوهر ذاته الحقيقي ..