بعض الناس من شدة اليأس الذي يتملكه يتوهم بأنه لم يعد صاحب طاقة تؤهله لأن يتحرك خطوة إلى الأمام، في الوقت الذي ينعم فيه بكامل الصحة والعافية قد رضي من الدنيا بالحظ القليل، هذا إن كان صاحب حظ فيها، أما إن كان خالي الوفاض من معاني الحياة فلا أعتقد أن عيشه الذي يحيا في ظلاله يستحق أن يبقى فيه. أتعجب كغيري من أناس خاضوا غمار الحياة متسلحين بصبر تلين له الرواسي، وتتهلهل معه أحجار الصوان شديدة الصلابة والعصية عن التشقق، فكم مرة وجدت نفسك أسيراً لكثير من المعيقات التي استسلمت لها بسهولة دون أن تكون لك المحاولة تلو المحاولة للوصول إلى المبتغى الذي من أبجدياته محاولاته أكثر من مرة للوصول إليه حتى وإن كان صعب المراس. وأتحفك في هذا المقام بقصة تحمل الكثير من الدلالات التي ستبين لنا كم نحن بحاجة إلى أن نعيش الحياة بصبر وعزيمة وأحلام لا تستسلم لواقع الصعاب، القصة حدثت تفاصيلها في الأندلس في عهد الدولة الأموية يرويها لنا التاريخ، وهي تحكي قصة ثلاثة من الشباب كانوا يعملون حمّارين (يحملون البضائع للناس من الأسواق إلى البيوت على الحمير) وفي ليلة من الليالي وبعد يوم من العمل الشاق تناولوا طعام العشاء وجلس الثلاثة يتسامرون، فقال أحدهم واسمه (محمد) افترضا أني خليفة.. فماذا تتمنيان مني؟ فقالا يا محمد إن هذا غير ممكن، فقال: افترضا جدلاً أني خليفة، فقال أحدهما هذا محال، وقال الآخر يا محمد أنت تصلح حمّاراً أما الخليفة فلا، قال محمد قلت لكما افترضا جدلاً أني خليفة, وهام محمد في أحلام اليقظة، وتخيل نفسه على عرش الخلافة وقال لأحدهما: ماذا تتمنى أيها الرجل؟ فقال: أريد حدائق غنّاء, وإسطبلاً من الخيل, ومائة جارية ومائة ألف دينار ذهباً، ثم ماذا بعد, قال محمد، فرد عليه صاحبه: يكفي ذلك يا أمير المؤمنين. كل ذلك و محمد بن أبي عامر يسبح في خياله الطموح ويرى نفسه على عرش الخلافة, ويسمع نفسه وهو يعطي العطاءات الكبيرة ويشعر بمشاعر السعادة وهو يعطي بعد أن كان يأخذ, وهو ينفق بعد أن كان يطلب وهو يأمر بعد أن كان ينفذ وبينما هو كذلك التفت إلى صاحبه الآخر وقال ماذا تريد أيها الرجل، فقال: اسمع يا محمد إذا أصبحت خليفة فاجعلني على حمار، واجعل وجهي إلى الوراء وأمر منادياً يمشي معي في أزقة المدينة وينادي أيها الناس! هذا دجال محتال من يمشي معه أو يحدثه أودعته السجن، وانتهى الحوار. نام الجميع ومع بزوغ الفجر استيقظ محمد وصلى صلاة الفجر وجلس يفكر.. صحيح الذي يعمل حمارا لن يصل إلى الخلافة, فكر محمد كثيراً، ما هي الخطوة الأولى للوصول إلى الهدف المنشود، توصل محمد إلى قناعة رائعة جداً وهي تحديد الخطوة الأولى حيث قرر أنه يجب بيع الحمار وفعلاً باع الحمار وانطلق ابن أبي عامر بكل إصرار وجد، يبحث عن الطريق الموصل إلى الهدف، وقرر أن يعمل في الشرطة بكل جد ونشاط. تخيلوا.. الجهد الذي كان يبذله محمد وهو حمار يبذله في عمله الجديد، أعجب به الرؤساء والزملاء والناس وترقى في عمله حتى أصبح رئيساً للشرطة في الدولة الأموية في الأندلس. ثم يموت الخليفة الأموي ويتولى الخلافة بعده ابنه هشام المؤيد بالله وعمره في ذلك الوقت عشر سنوات, وهل يمكن لهذا الطفل الصغير إدارة شئون الدولة؟ وأجمع أهل العقد والحل أن يجعلوا عليه وصياً، وتم الاختيار على محمد ابن أبي عامر، قائد الشرطة واحداً من الأوصياء، وكان مقرباً إلى أم الخليفة واستطاع أن يمتلك ثقتها، ثم أصبح بعد ذلك هو الوصي الوحيد ثم اتخذ مجموعة من القرارات؛ فقرر أن الخليفة لا يخرج إلا بإذنه, وقرر انتقال شئون الحكم إلى قصره, وجيش الجيوش وفتح الأمصار واتسعت دولة بني أمية في عهده وحقق من الانتصارات ما لم يحققه خلفاء بني أمية في الأندلس، حتى اعتبر بعض المؤرخين أن تلك الفترة فترة انقطاع في الدولة الأموية, وسميت بالدولة العامرية، هكذا صنع الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر, واستطاع باستغلاله القدرات الكامنة التي منحه الله إياها أن يحقق أهدافه. القصة لم تنته بعد ففي يوم من الأيام وبعد ثلاثين سنة من بيع الحمار والحاجب المنصور يعتلي عرش الخلافة وحوله الفقهاء والأمراء والعلماء، تذكر صاحبيه الحمارين فأرسل إليهما فوجدهما والعمل هو هو، ومقرهما هو، ومهاراتهما هي، وبنفس العقلية عمال حمير منذ ثلاثين سنة، وعندما دخلوا القصر نظرا إلى الخليفة، قالا باستغراب إنه صاحبنا محمد، قال الحاجب المنصور: أعرفتماني؟ قالا نعم يا أمير المؤمنين, ولكن نخشى أنك لم تعرفنا. ثم نظر إلى الحاشية وقال: كنت وهذين الرجلين سويا قبل ثلاثين سنة وكنا نعمل حمارين وفي ليلة من الليالي جلسنا نتسامر فقلت لهما إذا كنت خليفة فماذا تتمنيان فتمنيا، ثم التفت إلى أحدهما وأعطاه أمنيته. ثم التفت إلى الآخر وقال له ماذا تمنيت؟ قال الرجل اعفني يا أمير المؤمنين, قال: لا و الله حتى تخبرهم، قال الرجل: الصحبة يا أمير المؤمنين, قال حتى تخبرهم، فقال الرجل: قلت إن أصبحت خليفة فاجعلني على حمار واجعل وجهي إلى الوراء وأمر منادياً ينادي في الناس أيها الناس هذا دجال محتال من يمشي معه أو يحدثه أودعته السجن. قال الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر افعلوا به ما تمنى حتى يعلم (أن الله على كل شيء قدير). هل تعلم ما هو الحمار الذي يجب أن نبيعه جميعاً, هي تلك القناعات التي يحملها الكثير مثل – لا أستطيع – لا أصلح، أنا لا أنفع في شيء, وأن نستبدلها بقولنا أنا أستطيع بإذن الله. فهل يمكن أن تحقق أحلامك وأن تصل إلى أهدافك؟ قل وبكل ثقة – نعم إن شاء الله وتذكر دائما (إن الله على كل شيء قدير) وقول الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، فمتى يكون ظننا بربنا على نحو يرضاه عنا, وهل بعيد على الله أن يوفقنا ويحقق لنا آمالنا، محال ذلك، فإن كنت تظن بالله حسناً تجد خيراً وإن ظننت به غير ذلك ستجد ما ظننت.