قراءة جديدة في كتاب الدكتور كمال أبو ديب ‘في البنية الإيقاعية للشعر العربي'، كان حلم الدكتور كمال أبو ديب الذي لم يستطع إخفاءه في محاولته الفذة لإيجاد بديل إيقاعي لعروض الخليل يحتوي بحور الخليل وتفعيلاته ويتجاوزها في بنيةٍ أعلى قادرة على تفسير فاعلية الشعر العربي حتى الآن وقادرة على خلق أفقٍ آخر لم يتحقق بعد. كان الحلم أن تكون المزدوجة (علن، فا) قادرةً على أن تُشكِّل الأساس الإيقاعي لتفسير تاريخ الفاعلية الشعرية العربية وتجترح في الوقت نفسه بنية قادرة على استيعاب الانتفاضات الشعرية للفاعلية الشعرية العربية المعاصرة . ولكن بحرين أساسيين من بحور الخليل (هما الوافر والكامل) وبحراً ثالثاً في بعضِ صيغه المشهورة (المنسرح) وبعض تنويعات أخرى لبعض البحور الخليلية في صيغتها غير القياسية خذلته وأحبطت حلمه الكبير . وللخروج من هذا المأزق كان كمال أبو ديب مضطراً لتعديل نموذجه وإضافة نواة إيقاعية ثالثة هي ‘علتن' ليصبح نموذجه مبنيا على ثلاث نوى إيقاعية هي ‘فا،علن،علتن' واستطاع بهذه الإضافة تفسير كافة بحور الخليل وتفعيلاته وعلله وزحافاته ومجزوءه ومشطوره ومنهوكه ومخلَّعه وبسهولة مُطلقة . ولكن بقيت في القلب غُصةُ هذه النواة الثالثة واللئيمة والتي كنتُ أُحس غيظ الدكتور أبو ديب منها في ثنايا كتابه المدهش . في هذه القراءة سأبقى مخلصاً لمقترح أبو ديب وأبقى ضمن التحليل الكمي للشعر العربي ولن أتطرق للفصل الذي يتحدث عن النبر في الشعر العربي وذلك لصعوبة هذا البحث أولاً وعدم إلمامي بمقدماته وأصوله مع إيماني أن للنبر دوراً كبيراً في الشعر في كل اللغات البشرية، ولكن سأركز على البعد الكمي كونه شكَّل الأساس لمقترح الكتاب الجوهري . فبعد سنين طويلة من قراءتي للكتاب برز فجأة في ذهني أن كمال أبو ديب ولتحسُّسه من خذلان ‘علتن' لنموذجه الأصلي أغمضها حقَّها كنواةٍ أساسية للإيقاع وأن النواتين الأخريين كانتا نواتين متحركتين تابعتين وترقصان حول ‘علتن' في تشكيلات إيقاعية شكَّلت جوهر الفاعلية الشعرية العربية بإيقاعاتها الخليلية وقادرة على اختراقها إلى فضاء أوسع مكونةً نواة محورية لفاعلية مستقبلية يُمكن أن تُشكِّل قاعدة لحركة قصيدة النثر التي بدأت تحتل حيزاً كبيراً في الشعر العربي المعاصر . لو أن الدكتور كمال أبو ديب تحرك خطوة واحدة للخلف واستبدل نموذجه الثنائي بنموذج أحادي مبني على ‘علتن' كمركز وضابط لإيقاع التدفق الشعري وأعاد تحليل نماذجه لحصل على نتائج مدهشة، وهذا ما سأحاوله في هذا التحليل السريع المرتكز على هذه النواة المظلومة والتي فتَّتها الخليل ووزَّع دمها على تفعيلاته الكبيرة وإن احتفظ لها بتفعيلة مستقلة هي إحدى صور ‘فاعلن' وشكَّل منها بحراً صافياً هو ‘الخبب'. كنتُ دائماً أهجس أن النواة الحقيقية التي تقبض الإيقاع وتوجهه في تشكيلات إيقاعية واسعة ومفتوحة هي ‘علتن' ولم تكن إضافة كما أراد لها الدكتور كمال أبو ديب لتفسير بحرين شعريين مارقين وقفا سداً في وجه نموذجه المزدوج . دعونا نتابع معاً هذا التحليل لبحور الخليل بعد وضع بعض المحددات لهذا التحليل وكما يلي : 1- سأختار بعض الصيغ من نماذج البحور الخليلية ولن استقصيها كاملة، والصيغ الأخرى ستكون تنويعا قابلا للتفسير ضمن النموذج المقترح . 2- صوتياً تمثِّل النواة ‘فا' انسيابية إيقاعية كماءٍ جار وبدون أي نقاط التفاف أو توقف أو انعطاف أو إعادة توجيه حركة الصوت باتجاهات أخرى ونموذجها هو الصيغة (فافافافافافافافا) وهي إحدى صيغ الخبب. 3- وتمثِّل النواة ‘علن' انسيابية جزئية مع ضبط محدود الطاقة لتوجيه حركة اللغة وإيقاعها ونموذجها هو الصيغة (علن علن علن علن علن علن علن علن) وهي إحدى صيغ الرجز . 4- أما النواة ‘علتن' فهي ضابط الإيقاع المحوري ونقطة ارتكاز ومايسترو يتحكَّم بحركة وتدفق اللغة ويوجهها ويكسر رتابتها ويعيد إليها الطاقة والتنوع ونموذجها هو الصيغة (علتنعلتنعلتنعلتن) وهي إحدى صيغ الخبب . على هذه القواعد أعلاه سنبدأ قراءة بحور الخليل وإيقاعاتها : الدائرة الأولى: ‘علتن' صافية وتجسَّدت في بحر الخبب وهو إيقاع صحراوي حزين كان يتم كسر حدته من خلال إدخال النوى ‘فا'و'علن' على بعض صيغه لكسر إيقاعه الصحراوي الصارم، ويمثلها الخبب والمتقارب والمديد الخبب:علتنعلتنعلتنعلتن المتقارب : علنعلتنعلتنعلتن المديد : علتنفاعلتنعلتن الدائرة الثانية : أن تسبق النواة ‘علن' النواة ‘علتن' وتمثل مجزؤ الوافر والمنسرح الوافر: علن علتن علن علتن المنسرح : علن علن علتن علن علتن الدائرة الثالثة : أن تلحق ‘علن' ب'علتن' وتمثل الكامل والمقتضب الكامل : علتن علن علتن علن علتن علن المقتضب : علتن علن علتن الدائرة الرابعة: ‘علن' تسبق ‘علتن' و'علن' تتبعها ويمثلها الطويل والبسيط الطويل: علن علتن علن علن علتن علن البسيط: علن علن علتن علن علن علتن .. ولو رسمت حركة النوى على شكل دائرة لتوضحت العلاقة أكثر. الدائرة الخامسة: النواة ‘فا' تسبق ‘علتن' وتمثل بحر الرجز الرجز: فا علتن فا علتن فا علتن الدائرة السادسة: ‘فا' تتبع ‘علتن' ويمثلها بحر الرمل والحفيف والمتدارك والمجتث الرمل: علتن فا علتن فا علتن الخفيف: علتن فاعلن علن علتن فا المتدارك: علتن فا علن فا المجتث: علن علن علتن فا الدائرة السابعة: نهاية الإيقاع بتنويعات مختلفة تنتهي بالقرار ‘علتن' ويمثلها بحر السريع وبعض صيغ الرمل وبعض صيغ البسيط والمنسرح والمقتضب السريع: علن علنعلن علنعلتن الرمل: فافاعلنفافاعلنعلتن البسيط: فافاعلنفاعلنفافاعلنعلتن المنسرح: فافاعلنفاعلنعلنعلتن الدائرة الثامنة: عدم وجود للنواة ‘علتن' نهائياً والبحر الوحيد الذي يخلو من هذه النواة بشكل صريح وكامل ولا وجود لها بأي صيغة من صيغه هو بحر الهزج الهزج: علن فافاعلن فافا (وإن وجد بعض الخروج في بعض خروجات أبي النواس في خمرياته وإدخال علتن وكما يلي ‘علن فاعلتن فافا ). كما ويوجد هذا التحرر الكامل من ‘علتن' في بعض صيغ بحور أخرى ولكنها ليست الصيغ السائدة في الفاعلية الشعرية العربية (بعض صيغ الخبب والرمل والرجز وغيرها) وإن كانت هذه الصيغ معظمها متقدم وليس من الفاعلية الفطرية للشعر العربي مما يفقدها مرجعيتها كصيغة من صيغ النظم وليس الشعر . نلاحظ من تحليل البحور الستة عشر أنها تقوم على ‘علتن' يسبقها أو يلحقها ‘علن' أو'فا' وبعدد محدد لتشكِّل القاعدة العامة لبحور الخليل كافة والصيغ الأخرى يمكن تفسيرها بنفس الطريقة وباتجاه تنويع واستبدال بعض الصيغ التي تم تحليلها بصيغ أخرى كاستبدال (علن علن) ب(فافاعلن) واستبدال (علتن) ب(فاعلن)أو(فافا) وذلك لإعطاء انسيابية أكثر للغة ولتحقيق تنوع إيقاعي تقتضيه الحالة الشعرية والتعبيرية للشاعر والصورة والدفقة اللغوية، وهذا يفتح المجال واسعاً لاستيعاب قصيدة النثر ضمن إيقاعات متحركة لهذه النوى ليس من شروطها أن تتمثل عبر تفعيلات الخليل الكبيرة وإنما عبر علاقة يشكلها الشاعر بين هذه النوى الإيقاعية الثلاث بما يوائم صوره وإيقاعاته الداخلية والخارجية . هذا النموذج قادر على تفسير العلل والزحافات والخرم والخزم بدون اللجوء إلى استخدام لغة مَرضية لتفسير الفاعلية الأرقى في اللغة . هذه القراءة الجديدة لمقترح الدكتور كمال أبو ديب المدهش قد تُضيء بعض الحدوس في الإيقاع ولعل بعض الدارسين يستكمل ويستقصي هذه الرؤية ويمنهجها بدراسة أكثر عمقاً وتفصيلاً . ملاحظة أخيرة لا بد منها في هذا السياق: في اللغة العربية هناك إيقاعات وتشكلات لغوية تقع خارج النوى الإيقاعية الثلاث وعلاقاتها وتتابعاتها وتحولاتها وهي التي تُدخل الكلام في النثرية اللغوية وكمثال على ذلك يُدرك كل من عرف الإيقاعات الشعرية الخليلية وما تلاها أنه لم يجتمع في بحور الخليل وتفاعيله ثلاثُ حركات قصيرة متتالية (فَ فَ فَ) وكذلك في علاقة النوى الإيقاعية ‘فاعلنعلتن' لا يمكن في أي تشكيل لهذه النوى أن يتتابع ثلاثُ حركات قصيرة وبشكلٍ مطلق . ربما تكون هذه الملاحظة حول النوى الثلاث وعلاقاتها مدخلاً للتأسيس لقواعد إيقاعية لا منتهية لقصيدة النثر بعيداً عن التفعيلات الجاهزة إذ يمكن تشكيل تفعيلات جديدة وعلاقات جديدة هي جوهر ما يبحث عنه الشاعر الحداثي العربي الذي يطمح للخروج من صنمية الإيقاعات التفعيلية المملة والمضجرة والمستهلَكة ولكن ضمن غابة من إيقاعات بكر قابلة للتشكُّل وتبتعد عن النثرية اللغوية وضمن حركية هذه النوى وعلاقاتها اللانهائية .