سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. رحلتنا اليوم ستكون ممتعة جداً.. إذ أنها تجعلنا نعيش لوهلة في أكناف تفاصيل قصة جميلة لشخصيتين رائعتين حقاً.. القصة ها هنا تجمع في معانيها كل ما تنقلنا فيه سابقاً من مرتقيات ومدارج عالية ففيها روعة الإرادة التي لا تقهر، الصبر، المثابرة، الطموح، والتفاؤل اللامحدود وأيضاً كل صفات العطاء الغيثي. قصتنا اليوم عن الكاتبة الشهيرة كيلين كيلر، تلك المرأة الصماء البكماء العمياء، التي تحدثت وتناقلت مقالاتها وأفكارها المتميزة أجيال متعاقبة من النقاد والأدباء والمفكرين في أنحاء العالم. لكننا هنا لن نسلط تركيزنا على شخصية هيلين كيلر مع أنها جديرة بالبحث والدراسة، فمنها نتعلم كيف يقهر الإنسان ظلمات بلائه المدلهمة بنور الإيمان والرضا والعزيمة، إنها أشبه بمعجزة فريدة.. ومع هذا فإننا سنركز على تلك الشخصية البطلة المختفية خلف كواليس العطاء والتواضع والتفاني اللامحدود.. إنها معلمة هيلين كيلر وصانعة حياتها الناجحة بعد فضل الله تعالى. إنها السيدة آن سوليفان، إنها تلك الإنسانة الرائعة التي وهبت حياتها لتلميذتها وآمنت بها وبقدرتها فأضاءت لها دياجير الإعاقة وفتحت لها أبواب الجمال المغلقة. كانت عائلة كيلر من العائلات الأمريكية الراقية المعروفة بغناها وتحضرها، إلا إن كل إمكانيات العائلة عجزت عن تقديم العون للطفلة الرضيعة التي أصيبت بالحمى الشديدة والتي كادت تودي بحياتها.. وعند هاوية اليأس وعلى شفا الانهيار.. نجت الطفلة بأعجوبة إلهية لكنها فقدت ثلاث حواس أساسية.. البصر السمع وبالتالي القدرة على التحدث. ترعرعت هيلين في جو مفرط من الشفقة والحزن والألم والرعاية العاجزة.. نشأت على نمط بهيمي في الاهتمامات، حيران في النهايات.. تأكل.. تلعب.. تنام.. تشرب، تأخذ كل ما تريد وتفعل ما تريد.. وحين لا تحصل على شيء ما أو لم تفهم حولها ما تريد فإنها تُصاب بنوبات غضب جنوني فترفس.. تكسر.. تضرب.. تصرخ..و..و..و.. طفح الكيل فجاءوا بالشابة الصغيرة ذات الواحد والعشرين ربيعاً لتكون كمعلمة ومربية للطفلة التي صار عمرها سبع سنوات.. وها هنا بدأ التحدي الصعب. كانت المهمة شبه مستحيلة لكن (آن) رفضت الانهزام وبدأت البداية الصحيحة.. لقد أحبت هيلين.. أحبتها بصدق وبعمق على الرغم من كل صفاتها.. وراحت ترقبها بعينين يملأهما الأمل والعزم والحنان وتردد في أعماقها: هيلين يا حبيبتي يجب أن تعيشي حياة أفضل.. يجب أن تخرجي من قوقعتك.. أعلم أنك تملكين القدرة والذكاء، وأنني أملك الرغبة والعزم.. والله وحده المعطي الكريم. كانت (آن) مؤمنة أن الله خلق الكون جميلاً بكل ما فيه مهما قد يبدو أحياناً قبيحاً أو صعباً.. وسر جماله يكمن في زاوية النظر والتعامل معه.. والواجب على كل إنسان أن ينظر إلى كل ما أعطاه الله برضى وتفاؤل وتقدير.. من هذا الإيمان.. ومن ذاك الحب انطلقت مسيرة (آن سوليفان) الإحيائية لمصير هيلين المتواري خلف أستار الإعاقة والضمور..وبدأت بالمجاهدة الدائمة لجعل طفلتها مطيعة وهادئة وأدركت تماماً أن غضب هيلين هو ردها الوحيد على عجزها وإذا هدأ حنقها فستنفتح نوافذ التفاهم بينهما.. لم يكن الأمر بالهين فكل من حول هيلين يشفق عليها إلى حد الدلال الأعمى.. ومع هذا تثبت (آن) على فكرتها وتثابر في تعويد طفلتها أنها لن تحصل على الطعام إن لم تجلس على الطاولة بأدب، وأنها لن تفسد الطعام بيديها بل ستأكل بالملعقة.. وأن عليها أن لا تصعد على مائدة الطعام بقدميها.. ولا ممناص لها من ملء إبريق الماء إن سكبت الماء على الأرض..و..و..و.. سلسلة من السلوكيات التي لم ترضخ لها هيلين بسهولة.. وبلغ عنادها أن صفعت معلمتها فبادلتها الصفعة، مؤكدة لها أنها ند لها وليست أقل منها في شيء، ولذلك ستحاسب على كل فعل ويجب أن تتحمل مسئولية تصرفاتها كاملة. أخيراً بدأت الطفلة بالانصياع أمام أمر لا مفر منه.. وهنا بدأت المعلمة بالمرحلة التالية وهي تعليم هيلين لغة (الأنامل) وهي لغة تعتمد على كتابة الأحرف على الكف بلمسات معينة ومختلفة.. كتبت لها كلمات كثيرة على كفها.. لكن هيلين لم تتقبل كف معلمتها إلا بعد محاولات مضنية وكانت المعضلة الكبرى أن هيلين قد تحفظ حركة الأنامل وتهجئة الحركة هذه واختلافها عن تلك الحركة.. ولكنها لا تملك أبداً أي معنى حسي في رأسها لهذه الكلمة أو تلك.. ولحل هذه المشكلة راحت المعلمة تجول بصغيرتها في الحقول والبراري وأرجاء المنزل والطرقات.. وتجعلها تلمس بأناملها كل شيء وتتعرف على ملامحه بينما تكتب لها اسمه على كفها.. وعلى الرغم من الاجتهاد المضني للمعلمة لكن هيهات أن تدرك هيلين الرابط بين الكلمة ومعناها الحسي الملوس. كان عقلها يغرق في الظلام الدامس الذي يجعلها لا تدرك أن هذه الكلمة التي حفظت حركتها هي تعني بذاتها هذا الشيء الذي تعرف ملامحه باللمس أو التذوق أو الشم. ومع هذا الظلام إلا أن (آن) لم تعرف اليأس فلقد علمتها حياتها الصعبة بأن اليأس انتحار مؤكد لأحلامنا الغالية.. لقد عاشت حياة قاسية ماتت في فجرها أمها، ثم هجرها والدها.. ثم عانت من عيشة الملاجئ المتدنية الصعبة والتي سببت موت أخويها لضعفهما وعدم صلابة عزمهما. هي نفسها عانت كثيراً خاصةً أنها كانت عمياء حتى سن (15 عاماً) ثم أجريت لها عملية استردت بعدها جزءاً من بصرها الذي فقدته في نهاية حياتها.. قصة زواجها انتهت بمأساة.. وفقرها وعوزها جعلا دراستها أشبه بحفر في الصخر، وكل هذا أضاف لوحدتها مرارة قاسية إلا أن كل تلك المرارة والقسوة والانحناء لم يفقدها قدرتها النادرة على العطاء بحنان وبكل تفاني. كل ذلك العناء صنع فيها العزم التام على أن تؤمن أن الإشفاق على الآخرين مضيعة للوقت وهدر لمعنى الحياة، وأن الحب الحقيقي هو العطاء والتعليم والتدريب والدفع بمن نحب حتى يقهروا ضعفهم بأيديهم ويصنعوا حياتهم بعزمهم. لا فائدة من الدفاع عن الآخرين أو حل مشاكلهم.. ولكن عليك أن تعلمهم كيف يفعلون ذلك بثقة وتحدٍ.. بكل هذه المعاني ثابرت (آن) حتى جاءت اللحظة الربانية الرائعة التي انفتحت أبواب الحياة على هيلين، فقد كانت تلعب بالماء كأي طفلة مرحة.. وكأن رقة الماء.. برودته.. ملمسه.. ثم عطاء الله.. كأن كل هذا أزال الستار عن عقلها فقفز المعنى إلى واجهة وعيها فكتبته بلا وعي على كف معلمتها.. لم تصدق (آن) ما فهمته من أنامل هيلين وتأكدت منا فإذا بها تكتب (ماء) بكت من الفرحة.. وأخيراً نجحت. واصلت (آن) تعليمها لهيلين فعلمتها لغة (برايل) وأنهت معها دراستها الأساسية ثم عزمت هيلين على إنهاء الدراسة الجامعية.. ترى كيف لمثل هيلين أن تدرس في الجامعة؟! هل ستفهم شيئاً؟ نعم لقد فهمت لأن معلمتها كانت هناك معها على مدارج القاعة تترجم على كفها كل ما يقال. أصبحت هيلين كاتبة شهيرة وذاع صيتها في القارات الست حين نالت جائزة نوبل في الأدب، استغلت حياتها ونجاحها في لفت نظر العالم إلى القدرة الهائلة التي يملكها أمثالها.. أحيت الأمل في قلوب من حولها من المعاقين واليائسين سواء من ذوي الإعاقة الجسدية أو النفسية.. أسست المدارس المتخصصة.. وأنشأت المنتديات الرائدة وصالت وجالت تحدث الناس بلغتها المتواضعة التي تعلمتها من خلال وضع أصابعها على شفتي وحلق معلمتها ثم تقلد الاهتزاز.. تحدثت بتلك اللغة المقبولة عن معاني التفاؤل والحياة الكريمة والجمال وكسر قيود الروح.. كل هذا و(آن) لا تفارقها. هذا ما حصلت عليه هيلين.. شهرة، غنى، حياة منتجة، وجوائز عالمية.. فما الذي حصلت عليه معلمتها؟ ههي ترد على هذا التساؤل بكلمة أرسلتها لصديقتها تخبرها عن سعادتها اللامحدودة في حياتها، تقول: (كم هو عظيم أن تشعر بأنك ذو فائدة في هذا العالم وأن وجودك مهم لشخص ما يستحق ما تصنعه له). لقد نالت (آن) كل ما حصلت عليه هيلين إضافة لامتنان صغيرتها لها والتي اعترفت في كتاباتها بأنها لا ترى نفسها إلا بروح (معلمتها الحنونة). تأمل قصتنا جيداً ففيها روائع وروائع.. وإن لم تكن لك يد كالسيدة (آن) تأخذك من ضعفك فجاهد أن تكون قوياً مثلها تأخذ بيد من حولك.