الحديث عن المرأة المعجزة “هيلين كيلر” لاحد له ولاحدود، ذلك أنها النموذج الإنساني الذي أثبت أن للّه سراً كبيراً في خلقه، وأنه القادر على منح الإنسان قوة مخيفة لاتراها العيون ولاتدركها العقول، لكنها متى ما ظهرت إلى حيز الوجود جعلت البشر في حيرة من ثوابت قناعاتهم ودرجات أهوائهم وتقييماتهم الاستنسابية للظواهر. ولدت هيلين كيلر عمياء بكماء.. لاترى ولاتسمع، وبالتالي كان انقطاعها عن الوسط المحيط انقطاعاً يتوازى مع ظلمات العمى والصمم، فكيف لكائن بهذه المثابة أن يرى ويسمع ويتحدث؟!! تلك هي المعجزة، وهذه هي السيرة الفريدة لواحدة من عظماء التاريخ ونوادر الوجود، هيلين كيلر التي لاتملك من الحواس أبرزها صلة بالمحيط المرئي المسموع كانت تمتلك حاستي اللمس والشم، وكانت حاسة اللمس بالذات هي طريقها لمعرفة الدروب وقراءة الظواهر ومشاهدة، مالم تكن تراه منذ أن ولدت. عصر يوم بعيد من أزمنة الدهر المترعة بإشارات السماء كانت هيلين الصغيرة تبتهج بملمس الماء المنساب، فأثارت اهتمام مربيتها الحاضنة التي رأت بعين اليقين أن طريقاً انفتح أمام هيلين الصغيرة، وأن تعريفها بماهية المادة التي لمستها قد يكون بداية الألف ميل نحو معرفة مايحيط بها، تطلب الأمر صبراً ودربة ومشقة طويلة، غير أن هيلين بدأت تعرف الأشياء والأجواء والأحوال مستعينة بحاسة اللمس، وحالما ظهرت كتابة “برايل” الخاصة بمن لا يبصرون ذهبت هيلين كيلر بعيداً في قراءة الكتب التي كانت تتوفر بخط برايل، ثم أصبحت تكتب.. لكنها لم تتوقف، بل أجادت الطباعة على الآلة الكاتبة المصممة بذات الحروف، وكتبت كثيراً، وعبّرت عن رؤاها وآمالها وأحلامها النابعة من فيض العماء السديمي الفريد الذي لم يعانقه أحد إلا نادراً، ذلك أن غير المبصرين كانوا يسمعون، وغير السامعين يبصرون، إلا هيلين كيلر التي لم تكن ترى وتسمع. استمرت أسطورة الإرادة والقوة الداخلية الخفية لكي تصل إلى تخوم المعجزة: هيلين تتحدث مع الناس وهي لا تسمع ما تقول!!.. هيلين تقول خطباً قصيرة واضحة البيان، مُعتمدةً على حركات الشفتين وبثقة الواثق المستغرق في روحية القول وأبعاده!!.. هيلين تتعامل مع برامجها اليومية مُعتمدة على نفسها. السيرة الوجودية والإبداعية لهيلين كيلر تثبت مرة أخرى تلك المنة الإلهية، والحواس الغائبة التي تسري في ذواتنا دون أن ندري، كما تثبت أن إرادة الحياة والعطاء تأخذ مسارها الطبيعي متى ماتوفرت الأسباب الذاتية والموضوعية.. متى ما كان الإنسان محلقاً في فضاء عوالمه المعلوم منها والمجهول.. لكن هيلين كانت استثناءً بحق، ونموذجاً فريداً في التاريخ أدهشت علماء النفس والفيزياء وفرضت عليهم إعادة النظر في ثوابت رؤاهم وتقديراتهم لقدرات الإنسان الخلاقة النابعة من الحواس غير المباشرة، ذلك أن هيلين كيلر ماكان لها أن تصل إلى ماوصلت إليه لمجرد اعتمادها على حاسة اللمس، بل إن تلك الحاسة كانت مؤشر سيرها في دروب أعمق وأخفى.