- د. عمر عبد العزيز .. الشاعر والرائي عبدالله البردوني كان أعمى البصر قوي البصيرة وشاهداً من شهود الذاكرة المعرفية الموسوعية المتساوقة مع قامات هائلة أمثال المعري وطه حسين.. والعمى البردوني بهذا المعنى لم يكن إلا سبباً في انفساح ذاكرته الصوتية والمعرفية التي تنكبت السير على درب الاختراقات المتتالية للمفاهيم والمعاني والذائقة، وهكذا كان البردوني الذي عرفته شخصياً، وجلست معه غير مرة فكان من الذكاء والمعرفة والموسوعية وانسيابية التعبير وتلقائية الاستدعاء للرؤى والأفكار إلى درجة تدهش جليسه ومستمعه. يقول علماء الفيزياء أن دماغ الإنسان هو المستودع الذي يترجم أحاسيسه المختلفة.. وأن كامل أعضاء الجسم لا يمكنها أداء الوظائف المختلفة إلا بارتباط شرطي بالدماغ الذي كالكومبيوتر يستوعب المعلومات المختلفة ويعيد تدويرها وفق مقتضيات الأداء الإنساني وضمن أنساق حسابية خوارزمية تترجم المعلومات من صورة لأخرى. يقولون أيضاً أن الدماغ هو المستودع الأكبر لكل متحرك عابر وأنه يتصل بالوظائف التي تبحر بالإنسان من المرئي إلى اللامرئي، ومن الواقع إلى الخيال، ومن الملموس إلى المجرد، ومن المتشابهات إلى المتفارقات، حتى أن الدماغ يشكل مركز المراكز للمشاعر والمعقولات والمرئيات والمحسوسات. عند غير المبصرين بالعيون تتطور ملكات من نوع آخر، وتتداعى تطورات أساسية في دربة المراكز المحايثة لمركز الابصار، فتتطور حاستا السمع واللمس، وتزدهي الذاكرة بقدرات استثنائية على الاستذكار والمراجعة. من التجربة نلاحظ أن بعض الذين افتقدوا نعمة البصر حباهم الله نعماً أخرى، فالشاعر عبدالله البردوني كانت له ذاكرة تتسع لأدق التفاصيل ، كما كانت لديه مقدرة استثنائية في تنظيم وتقديم المعارف الكثيرة النابعة من مصادر متعددة إلى درجة تذهل سامعه. في العربية فرق مفهومي ولغوي بين «العمى» و «العماء» فإذا كان العمى صفة من لا يرى، فإن العماء صفة السديم اللامرئي الذي يتحول إلى حقيقة مرئية، الشاهد أن الله خلق الاكوان انطلاقاً من العماء عندما «استوى الحق إلى السماء وهي دخان» واصدر أمره الإلهي «كن» فكانت الأكوان بما يميزها من حركتين استاتيكية وديناميكية، ومجالات كهربائية ومغناطيسية، وقوتي جذب وطرد، وأدوار تتبادلها وهي تسافر إلى نهايات الدهر المحتومة. الإشارة هنا تكمن في أن الحق منح الإنسان القدرة على الاعتلاء ببدائل أخرى تعوضه عن ما فقد، وهي بدائل كامنة في الذات قابلة للظهور إذا أحسن الإنسان استجلاء أبعادها وترويضها على الفعل الايجابي. [email protected]