الرائي والشاعر عبدالله البردوني كان أعمى البصر قوي البصيرة وشاهداً من شهود الذاكرة المعرفية الموسوعية المتساوقة مع قامات هائلة أمثال المعري وطه حسين، والعمى البردوني بهذا المعنى لم يكن إلا سبباً في انفساح ذاكرته الصوتية والمعرفية التي تنكّبت السير على درب الاختراقات المتتالية للمفاهيم والمعاني والذائقة، وهكذا كان البردوني الذي عرفته شخصياً، وجلست معه غير مرة، من الذكاء والمعرفة والموسوعية وانسيابية التعبير وتلقائية الاستدعاء للرؤى والأفكار إلى درجة تدهش جليسه ومستمعه . يقول علماء الفيزياء ان دماغ الإنسان هو المستودع الذي يترجم أحاسيسه المختلفة، وإن كامل أعضاء الجسم لا يمكنها أداء الوظائف المختلفة إلا بارتباط شرطي بالدماغ الذي يستوعب المعلومات المختلفة ويعيد تدويرها وفق مقتضيات الأداء الإنساني . ومن التجربة الملموسة نلاحظ أن بعض الذين افتقدوا نعمة البصر حباهم الله نِعماً أخرى، فالشاعر عبدالله البردوني كانت له ذاكرة حديدية تتسع لأدق التفاصيل التي لم يسمعها إلا مرة واحدة، كما كانت لديه مقدرة استثنائية في تنظيم وتوصيف المعارف الكثيرة والنابعة من مصادر متعددة إلى درجة تُذهل سامعه. إلى ذلك كان البردوني سارداً موهوباً وإن كانت قيمته الشعرية طغت على ملكاته السردية، والشاهد على ما أذهب إليه يكمن في سلسلة كتاباته التاريخية وتطوافاته الواسعة على عوالم التراث الأدبي، فقد كان أسلوبه في الكتابة موصولاً حتماً بشفاهية رشيقة أشبه ما تكون بالدوائر التي تنزاح واحدة تلو الأخرى ، وباندياحات كالمياه المتدافعة بانسياب رقيق، حتى إن القارئ لتلك المطولات لا يشعر بالوقت والتعب وهو يسافر مع ذاكرة معرفية متوقّدة ومسلحة بأداوت الاستحضار التلقائي لأعقد الموضوعات المرصعة بالنصوص المحفوظة عن ظهر قلب . قد يستغرب القارئ عن وصف البردوني بالسارد وهو الذي لم يكتب قصة أو رواية ، لكن السردية بالمعنى التي أذهب إليه تتعلق بروحية النص المفتوح الذي كان يكتبه البردوني ..أيضا بالقصائد الشعرية الاستعادية لمحطات هامة في التاريخ العربي، والأهم من هذا وذاك تواشج العناصر الكتابية المتنوعة ذات النفس الانسيابي المتداعي برفق ورشاقة .