المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    أوقفوا هذا العار.. إعلان إسرائيلي غاضب ضد ''توكل كرمان'' بسبب تصريحاتها الجريئة عن حرب غزة    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    موقف عامل يمني بسيط يرفع رؤوس اليمنيين في المملكة !!    عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    هل تتجه المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد؟ كاتب صحفي يكشف ان اليمن مفتاح اللغز    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    الكشف عن ترتيبات أمريكية مؤلمة للحكومة الشرعية وقاسية على القضية الجنوبية    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    نجل قيادي حوثي يعتدي على مواطن في إب ويحاول ابتزازه    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    مليشيا الحوثي تواصل اختطاف خبيرين تربويين والحكومة تندد    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    بريطانيا تخصص 139 مليون جنيه استرليني لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    يوفنتوس مصمم على التعاقد مع ريكاردو كالافيوري    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ما معنى الانفصال:    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تريم.. كل تناقضات العالم وطبائع الشعوب!
طين المنازل يمتزج بالفقه والتقوى وقصور تسكنها الفر ادة وحكايات لا تتسع لها الكتب..
نشر في الجمهورية يوم 16 - 12 - 2012

وحدها تريم الغناء المدينة الحضرمية اليمنية من تجعل الزمان يعود ويمارس رحلة الانبعاث من جديد لتظن للحظة أو ساعة أو يوم بأنك اقتحمت سكون الزمان وتمردت على حصون التاريخ لتسترق النظر وتقترب، ومن ثم تعانق المصلين في مساجد هارون الرشيد وتطلب رشفة من كأس الماضي بكل ما فيه من حلاوة ومن كرامات الأولياء والصالحين أو رشفة من رحيق الحلقات في الجامع الأموي ونفحة عطر من عطور عبدالملك بن مروان.
تريم بن سبأ
نعم تريم المئذنة اليمانية التي أوصلت الله أكبر إلى أصقاع الأرض وأوصلها الله إلى قمة الإيمان والحكمة لتكون الراية الخفاقة بنسائم المحبة والسلام والحكمة والموعظة الحسنة وتظل إلى اليوم روحانية كسرت السيوف مع أغمادها وامتطت جواد القيم وحلقت مع بساط الريح في البحار، ومعها الملايين ممن اعتنقوا الإسلام في آسيا وأفريقيا وأوروبا وبأشرعة حضرمية مازالت تعلم البشرية والأمم إلى اليوم بأن القيم والمحبة هي الأقوى والأبقى وأن السيوف والقنابل والمجنزرات ظواهر صوتية تتلاشى أمام حلقات الوقت لتتحول إلى ذكرى أليمة ورماد متطاير، وهي أيضا مدينة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ وشرايينه، وبعض المراجع التاريخية ترجع تريم إلى مؤسسها الأول وهو تريم بن سبأ وهذا ما يجمع عليه المؤرخون بأن تريم سميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها تريم بن سبأ, كما هو الحال مع مدينة شبام نسبة إلى شبام بن سبأ وهي مدينة يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد وتؤكد روايات كثيرة دور هذه المدينة الإسلامي في مختلف مراحل الحضارة الإسلامية وهذا ما شعرت به عند زيارتي لها فعلا وهناك الكثير والكثير مما أعجز أن أعبر عنه تجاه مدينة لا تشبه المدن ولا الناس أيضا..
النمل غائب والنحل موجود
- في مدينة الطين الحضرمية تريم لاحظت أن النمل غائب لأول مرة في التاريخ والنحل فقط موجود في المنازل وفي صدور الأطفال والكبار، هناك كانت أول خلية إيمانية وطأتها قدماي في تريم هي مدرسة ابن المريم كانت أول خلية زرتها في تريم ولم أعلم بأنها أيضا تمثل أول خلية ومدرسة لتعليم القرآن الكريم وعلومه في اليمن والجزيرة العربية وربما في العالم، فقد بنيت في القرن الثامن الهجري وأسسها سيدنا محمد بن عمر بن المريم تجاوز عمرها اليوم ال 600 عام وتخرج منها الآلاف، بل ملايين على مر التاريخ الإسلامي ممن حفظوا كتاب الله وعلوم الدين، في جدرانها الضيقة، فحملوا تعليم وقيم الإسلام النبيلة والسمحة إلى رحاب الأرض وعلى مر هذه القرون الطويلة لم يوقف عجلات العلم القويم فيها سوى العهد الشمولي في جنوب الوطن الذي أغلق جدرانها لسنوات قسرا ومع كل هذا الجور كانت الصدور هي الحامية للشريعة وروح الإسلام النقية رغم التنكيل بعلمائها حتى الحبيب محمد بن علوي العيدروس الذي يعتبر المؤسس الثاني للمدرسة في القرن الأخير ذاق مرارة السجن في العهد الشمولي وعندما خرج من سجنه، الطلاب والمدرسة من انتظروه خارج أسوار السجون والحبيب محمد بن علوي العيدروس شيخ ورع في التسعينيات من العمر وأرجو الله أن يكون بخير إلى اليوم فتح المدرسة من جديد وكان هو المؤسس الثاني للمدرسة وله عدد من المؤلفات قرابة المائة مؤلف منها 500 سنة نبوية والسنن المهجورة والحبيب محمد بن علوي العيدروس من مواليد 1351 هجرية وتلقى علومه في الرباط بتريم في تحفيظ القرآن وعلومه وكل علماء تريم في هذا العقد ابتداء من بن حفيظ وعلي زين العابدين الجفري وغيرهم تخرجوا من مدرسة ابن المريم وكل الأطفال التريميين والشبان في الماضي والحاضر تخرجوا من خلية العلم الأولى في تريم مدرسة ابن المريم.
مدرسة المريم
عندما دخلنا المدرسة كانت عبارة قبة كبيرة تنام تحت سقفها غرفة صغيرة وقديمة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ ويتزاحم فيها كل الأطفال في مدينة تريم أفواج من التلاميذ تتعلم في الداخل وأفواج أخرى من الطلاب الصغار تنتظر انتهاء الدروس للمجموعة الأولى لتأخذ دورها في الاستزادة من ينبوع القرآن وعلومه ومختلف العلوم الإسلامية ومن ثم يأتي الدور على الدفعة الثالثة وبين كل أسراب العلم الصغار والشباب في المدرسة كان صوت الشيخ الحبيب محمد بن علوي العيدروس هو المتواصل دون راحة ومع أن العيدروس في التسعينيات من عمره وصوته لا يكاد يسمع إلا أن وقار العلم والمعلم وهدوء وسكون وإنصات الطلاب لمعلمهم ومعلم آبائهم جعل صوت العيدروس يستقر في القلب والروح ويأتي بعد مدرسة المريم ما يسمى رباط تريم وهو حلقة ثانية في هذا السجال اليومي لطلب العلم الممتد لقرون تمضي بصحبة العلم والعلماء المتفقهين في الدين.
دار المصطفى مركز إشعاع
أما دار المصطفي التي زرتها بفضل الله تعالى فإلى الآن لا أدري ماذا أقول عنه فقد احترت فعلا وأنا أتجول في رحاب هذه الدار الواسعة التي يعبق من جوانبها أريج الروحانية وعطر الإيمان وأنا أشاهد الحلقات التي يملؤها عشرات الطلاب من اندونيسيا وماليزيا والهند وجزر القمر وباكستان والصين وطلاب من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الدول الإفريقية ومن تنزانيا كلهم يعيشون لحظات وساعات وأياما وشهورا من التوافق والانسجام والتآلف الروحي الذي قد لا يتحقق في إطار الأسرة الواحدة بعض هؤلاء من طلاب العلم تبدو عليهم ملامح الإنسان الحضرمي البسيط مع تلكؤ واجتهاد جميل للحديث باللغة العربية لم تكن لغتهم الرسمية في بلدان جنوب شرق آسيا وإفريقيا وجاء بعضهم إلى موطنهم الأصلي ليحفروا في وجدانهم وثقافتهم روح الإيمان النقي والمحبة والسلام الذي مثل الأساس الذي نشره آباؤهم وأجدادهم في أصقاع العالم منذ مئات السنين حتى يستمر الدور ويتواصل الإشعاع الروحي والإنساني والرسالة الإسلامية السامية إلى اليوم.
روحانية ورهبة دار المصطفى
لهذا كما قلت كل ما في دار المصطفي للدراسات الإسلامية بتريم جعلني في حيرة هذه الروحانية والرهبة هل هي عودة لعنفوان الماضي الجميل للأمة الإسلامية، أم استعداد لرحلة قادمة إلى عهد جديد ومشرق من عهود أمة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أم محطة للاستزادة واستئناف مشوار نشر الدعوة الإسلامية على أصولها الصحيحة من موطنها الأصلي تريم اليمن أو رحلة للأعماق نحو ينابيع إيمانية صافية لم تشبها شائبة على مر الزمن. ولا أدري أيها أختار، لكني أيقنت أن الله خص هذه الأرض وناسها بشرف نشر الرسالة فحملوا الراية و لم ولن يفرطوا فيها حتى قيام الساعة وهنا فقط تذكرت حديث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام عندما قال "دخلت الجنة ورأيت أن أكثر أهل الجنة من اليمن" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
طبائع الشعوب تتوحد
المهم هنا أني لاحظت أن كل من يوجد في دار المصطفي من طلاب جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها ليدرسوا تعاليم الدين ويتفقهوا ومن هذا الينبوع اليماني الأصيل وبالفعل كل تناقضات العالم وطبائع الشعوب والأجناس لم تتوحد سوى تحت قبب المساجد والمدارس الدينية في تريم تمنيت لو أن تريم غرفة كبيرة باتساع الأرض لحشر كل أجناس العالم بين جدرانها ليعيشوا في سلام. أنا لا أبالغ لكني أنقل مشاعر صادقة انتابتني وأنا في رحاب مدينة العلم والطين والقصور والمساجد تريم الغناء.
وطبعا ليس الطين أكثر من العلم هناك في تريم لكن المتأمل في تريم ومنازلها الطينية البديعة يدرك أن هذا الطين لم يخلط بالماء عند بناء المساكن والقصور والمدارس الشيء الذي اعتجن مع الطين هو العلم والفقه الإسلامي الصحيح فقط بعيدا عن الغلو والتطرف والتشدد الأعمى امتزجت مع بيوت تريم وناسها روح الإسلام الحقيقي الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهل والظلالة إلى رحاب نور الإيمان القويم والمحبة والسلام.
بناء الأرواح
في الزيارة التي تشرفت بالقيام بها إلى تريم بحضرموت رأيت أن تريم خلية نحل لا تتوقف تبنى فيها أرواح إيمانية زكية تتشرب من ينابيع إيمانية صافية لم تخالطها أوساخ السياسة.
شموخ التاريخ
عند التجوال بين المنازل والمساجد والشوارع الترابية في تريم تبدو كل مناشط ومظاهر الحياة الجديدة والقديمة مشعة برفادة وشموخ لا يضاهى فقد حطت بي الرحال بعد زيارتي لمكتبة الأحقاف في قصر عشة؛ هذا القصر لاحظت أنه يمثل تحفة معمارية فريدة امتزج فيها الفن المعماري الحضرمي مع الفن المعماري الهندي والجنوب شرق آسيوي ومن خلال معلومات استمعت إليها من الإخوة حسن عيديد وصبري ناجي عبدالله عتيق وهو باحث حول تاريخ هذا القصر استطعت تكوين فكرة مبسطة عنه وعدد من القصور والمساجد, وطبعا المشاهد لقصور تريم يلحظ أنها عينة فريدة لبناء معماري طيني بالغ الحداثة والتعقيد في نفس الوقت والانطباع الأول للمرء هو الانبهار الكامل أمام تقنية هذا البناء المحلي الفريدة والتي لا تزال هذه التقنية في البناء حية في التشييد والإعمار حتى في وقتنا الحالي, واللافت للأنظار في أبنية وقصور مدينة تريم هو العدد الكبير من القصور الملونة غير العادية وقد تميز هذا الأسلوب المعماري بكثرة التأثيرات الجمالية والتزين من حيث الألوان وأشكال واجهات الأبنية وكانت هذه التأثيرات مستعارة من عناصر العمارة الإندونيسية والماليزية والهندية.
جمال فريد
وترتفع قصور تريم إلى علو ثلاثة أو أربعة طوابق, وقد طليت جدران معظمها من الخارج باللون الأبيض (النورة), وفي مدخل كل بيت أو في واجهته يسجل تاريخ الإنشاء وهكذا استطاع المهندس التريمي أن يخلق عمارة هجينة اقتبس الشكل من النمط الإسلامي الموجود في جنوب شرق آسيا وأخذ المادة من الطين من بيئته وقد ساعدته المادة الطينية على التفنن في زخرفة واجهات القصور وإتقان الأشكال اللافتة للنظر ومن أشهر هذه القصور: قصر عشة وقصر التّواهي وقصر دار السلام وحمطوط وقصر عبد الرحمن بن شيخ الكاف وقصر المنيصورة لآل بن يحيى وقصر القبة وقصر سلمانة وغيرها من القصور الأخرى التي لا يضاهيها جمال وفرادة أي بقعة أخرى في اليمن وكل قصر من هذه القصور تسكن فيه قصة تاريخية موثقة إلى اليوم.
فمثلا قصر عشة في مدينة تريم يعد أشهر قصور المدينة وينسب إلى عمر بن الشيخ الكاف ويعتبر نموذجا للعمارة الطينية في تريم ومعروف أن العناصر المعمارية الموجودة مستوحاة من الطراز المعماري الهندي والجنوب شرق آسيوي ويذكر أن المهندس علوي الكاف هو الذي قام بتصميم هذا القصر وتم البناء بواسطة بنائين من أبناء مدينة تريم وترجع الفترة الزمنية للقصر ومعظم القصور هناك إلى مابين 1030م و1935م وكان هذا القصر عشة سكن لأسرة آل الكاف وعادة قصور تريم تتكون من طابقين أو ثلاثة لكن بالقياس بغرفه وممراته وحماماته عبارة عن ساحات كبيرة تميزت باحتوائها على عناصر الزغرفة الكثيرة والتي نفذت بالطين وزينت بالنورة ومازالت أسرارها تحظى باهتمام الباحثين والدارسين في علوم العمارة إلى اليوم. أما حصن الرناد الذي يمتطي تلة مطلة على المدينة فيعد تحفة معمارية وهو حصن قديم كان مقراً للحكام ويرجع بناؤه إلى عهد ما قبل الميلاد ويعود بناؤه إلى ما قبل البعثة المحمدية بأربعمائة عام وقد اتخذته الدول المتعاقبة على تريم مقراً للحكم من عهد ما قبل الإسلام وما بعده, في عهد زياد بن لبيد الأنصاري عام 203 ه وفي عهد الحسين بن سلامة حتى عام 402 ه وفي عهد عبد الله بن راشد القحطاني عام 600 ه وهو الذي جددد بناءه وفي حدود عام 1350ه, هدم محمد بن حسين الكثيري حاكم تريم أجزاء منه وأعاد بناءها من جديد وعثر فيه عند الهدم على رأس حيوان من الرخام الأبيض الجميل عليه كتابات بخط المسند ولم يتم بعد ذلك أي تنقيب للكشف عن بقية ما فيه وهكذا فإن كل دولة تتولى الحكم على تريم تدخل إصلاحات على الحصن وقد شهد الحصن قبل عامين عملية ترميم شاملة وواسعة اشرف عليها كل من وزارة الثقافة والسلطة المحلية بالمحافظة والوادي.
مستوطنات طينية
في تريم الطين هو سيد الموقف والطابع الغالب على نمط البناء الفريد هناك ومن أهم المستوطنات الطينية منطقة العادية: وهي مستوطنة طينية ذات مخطط عمراني وهي من أقدم المستوطنات في تريم وينسب تاريخها إلى عهد عاد وتبعد المنطقة حالياً عن موقع مدينة تريم بنحو (15 كيلو مترا) بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الحصون والقلاع والأكوات, مثل: حصن مطهّر وحصن فَلُّوقَة وحصن العُر وحصن غرامة وحصن نافي وحصن المقدّم ابن يماني في منطقة قسم وحصن عوض وكوت الشتوي وكوت عدن وكوت عبد الدائم وغيرها.
البيت التريمي
يمتاز البيت التريمي بارتفاعه ويتراوح عدد طوابقه في المتوسط بين (3 4) طوابق أما الغرف فيتراوح طولها بين (3) أمتار ونصف إلى (5) أمتار وعرضها لا يزيد عن أربعة أمتار نتيجة لاستخدام الأخشاب المحلية في عملية التسقيف, وفي البيت التريمي نجد أن مرافق الخدمات كالحمامات والمطابخ والمخازن والدرج توضع في الجزء الشمالي من المبنى وللفراغات الداخلية في كل طابق وظائف خاصة ولا يتسع المقام لاستعراض التفاصيل الدقيقة في نمط البناء الطيني التريمي لكن أذكر بعض أعلام العمارة الطينية في تريم ومن كانت لهم بصمات مازالت موجودة إلى اليوم, حيث يمتاز عمّال تريم بالإجادة والمهارة في البناء المعماري والوصول بالفن المعماري اليمني إلى مرتبة مرموقةٍ حسنةٍ فجميع بيوت تريم من بناء معالمة (جمع معلم) (اسطى ) وعمّال حضارمة وجميع ما بها من زخرفة وتلوين هي من صنع محلّي منذ القرن التاسع الهجري ومن أشهر أعلام البنائين المعماريين في تريم المعالمة آل عفيف ومنهم (عوض وخميس وحميد وعبيد) الذين قاموا ببناء كثير من المباني والمنارات والقباب (المعلم النقاش) ومنهم المعلّم عمر يعْمَر المتوفى عام 1975م, وهو الذي بنى أغلب قصور أثرياء تريم كقصر القبّة وقصر عِشَّة وغيرها.
من التحف المعمارية الفريدة التي لا تقل جودة وجمالا وتحافة عن القصور التاريخية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ وهذا هو سر بقاء تريم فريدة في طرازها المعماري ومكنونها الحضاري حتى اليوم وزاد فرادتها وبهاءها الإنسان التريمي المتدين والمتسامح والأمين والذكي الذي أوصل صوته إلى كل أرجاء الكون وصنع لليمن واليمنيين تاريخا مشرفا في كل بقعة وصل إليها ونشر قيمه وأخلاقه النبيلة التي جعلته يتربع على قمة المجتمعات التي استوطنوها في مشارق الأرض ومغاربها.
حكايات لاتتسع لها الكتب
وعودة إلى مدينة تريم وسمائها ومنازلها التي يفوح عبق الروحانية من جدرانها هناك مازال المزيد من الدهشة القادرة على رسم علامات انبهار بهذا المجتمع التريمي المتفرد ففي تريم نلاحظ أن التاريخ عندما يحلق فوق سمائها يعجز أن يلملم ذكرياته والزمان فقط يسجل حكايات لا تتسع لها الكتب والمجلدات وإليكم أمثلة بسيطة مما أدهشني فعندما تجولت في الشوارع لم أر أطفالا يلعبون في هذه الشوارع كرة القدم أو الملاحقة والغماية ولعبة (من قبة الطيار) فاستغربت وقلت في نفسي بداية هل الأطفال كبروا أم عقلوا فزهدوا في الألعاب أو أن لهم أماكن محددة للمرح وعندما دخلنا للصلاة في مسجد المحضار رأيت أن هناك أطفالا كثرا بالعشرات يملأون المسجد يؤدون الصلاة ولاحظت بأنهم بعد كل صلاة يظلون في حلقات تحفيظ القرآن الكريم وحلقات الدرس في مسجد المحضار أو المساجد والمدارس والمعلامات في كل أنحاء تريم فأوقات اللعب قصيرة جدا ولا تمثل أولوية لدى الأطفال لأن الإنسان في تريم صغيرا أو كبيرا يعرف ما هو المهم والأهم ليقوم به وهذا ما جعلهم كبارا كبارا جدا على مر السنوات وفي كل مكان يتواجدون فيه.
سر الشاهي في تريم
للشاهي التريمي خصوصية معروفة ففي تريم ولأول مرة تذوقت أكثر من ثماني نكهات للشاهي الحضرمي كلها تشعرك بالفرق في المذاق والرائحة ومع أن كل أصناف الشاهي تأتي من الصين إلا أن الصينيين أنفسهم لا يملكون نكهة الشاي الحضرمي فالتركيبة سر توارثه الحضارم منذ قديم الزمان ومنها ما يسخن بالبخار ومنها ما يجهز بلفحة نار هادئة وغيرها من الطرق لهذا جاءت التسمية بالشاي الحضرمي المبخر وبالإضافة إلى الشاهي.
حدائق خضراء
هناك أمور أخرى تلاحظها في تريم وأجمل ما يلفت الانتباه هو الحدائق الخضراء والمنتجعات الطبيعية فمعظم المنازل تحيط بها الأحواش والخضرة هناك بهاء خاص لها مع المباني الطينية وشتان بين اللونين إلا أنهما أصرا على رسم لوحة من الجمال لا توصف وأجمل ما فيها هو ذلك التنافر الموجود بين الخضرة وبين لون الطين ومع أنه من المفترض أن تفوز الخضرة بكأس الجمال في هذه المعادل الطبيعية إلا أن المعمار هناك جعل من الصعوبة أن تعطي صوتك للخضرة أو العمارة فلا تستطيع سوى إنهاء المباراة بالتعادل الإيجابي للطرفين لون الشجر الأخضر ولون المنزل الطيني.
دعوة الخليفة الصديق
أما بالنسبة للماء هنا في تريم فهو عمل مزدوج للأشجار والطين في نفس الوقت ويمثل عصب الحياة في الأجواء الصحراوية الجافة وتراه ينساق بانسياب سلس عذب رقراق يطفئ الظمأ وينعش الروح وللماء قصة أخرى في تريم, فهناك حديث عن دعوة دعا بها الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لتريم حيث دعا لها بثلاث دعوات بأن لا تنطقئ نارها وأن لا ينطفئ ماؤها وأن تبقى مدينة للصالحين والأولياء إلى يوم الدين.
وهذا ما يجسده الواقع في تريم فنارها لم تنطفئ على مر التاريخ وماؤها يفيض في كل الزوايا وإلى اليوم مازالت مدينة للصالحين ومن دخل تريم حتى ليوم واحد وشاهد ما شاهدناه فسيعرف ويتأكد بأنها بإذن الله ستظل مدينة للصالحين ومنارة للعلم والفقه والثقافة الإسلامية إلى يوم الدين.
وقفة ووعد للقارئ
في نهاية هذه الانطباعات التي سطرت بعضها عن زيارتي لتريم وما راودتني من مشاعر أرجو من القارئ أن يعذرني لتقصيري وعجزي عن وصف مكنونات وتاريخ هذه المدينة وأعلامها ورموزها من العلماء والدعاة والقادة والأدباء وأدوارهم التاريخية؛ لأني أعجز عن سر تاريخ وحضارة في عجالة من الأمر وفي صفحات جريدة تعجز عن تناول علماء وأعلام حضرموت وتريم.. أسال الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في عرض ولو جزء من تاريخ هذه القامات اليمانية وأدوارها التاريخية والتي ستظل محل فخر واعتزاز كل أبناء اليمن وفي كل أصقاع العالم إلى أن تقوم الساعة وينابيع إيمانية صافية يستزيد منها كل متعايش للعلوم الإسلامية الصحيحة التي لم تعرف التعصب والغلو والتطرف وظلت عنوانا لسماحة الإسلام دين المحبة والرحمة والنقاء وبالله التوفيق والاستعانة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.